لم يَعُد مُمْكِناً ربْط هذا المفهوم بشريحَةٍ من المُتَعَلِّمين، أو العاملين في حَقْلٍ من حُقول العلم والمعرفة، دون غيرها من الشَّرائح الأخرى العاملة في إحدى هذه الحقول. ثمَّةَ من يعتبر كُلّ مُتَعَلِّمٍ، يُجيد القراءةَ والكتابةَ، ويَمْتَلِك قَدْراً من المعرفةِ، أو بَلَغَ مُسْتَوًى من التَّعَلُّم يسمح له بمُواصَلَة المعرفة والتَّعَلُّم والبحث أو الاطلاع وتوسيع مَدَارِكِه، مُثَقَّفاً، ويُدْخِلُ ضمن هذا المعنى العام والواسع، المُوَظَّفِين في مختلف القطاعات، والمُعَلِّمين والأساتذة، والعاملين في قطاع الإعلام، والأطباء والمهندسين، والتقنيين، والطلبة ممن يُتابِعون دراساتهم في الأسلاك العالية من التعليم، في مختلف الشُّعَب والتَّخَصُّصات. كما أنَّ هُناك من ضَيَّقَ المفهومَ وحَصَرهُ في فِئَة من الناس، أو نُخْبَةٍ منهُم، وهي تلك النُّخبة من المفكرين والكُتَّاب والمبدعين، التي تعمل في حقل الفكر والفن والإبداع، ممن يُنْتِجُون الرُّموزَ والدَّلالاتِ، ولم يسمح لغير هؤلاء بِحَمْل هذه الصِّفَةِ، أو ادِّعائها، تفادياً للتَّعميم، أو لِتَعْتِيم المفهوم وتَمْيِيعِه.
شخصياً، أعْتَبِرُ هذا المفهومَ، مثلَه مثل مفاهيم أخرى إشكاليةً، تَتَّسِم بالمُرُونة، بقدر ما تَتَّسِمُ بالعُسْر وصُعوبةِ الحَسْم، بين المفاهيم الأكثر قابِلِيَةً للِتَّغَيُر، وحَمْل أو تَشَرُّب المعاني الجديدة التي تَطْرأُ في مجالَيْ العِلم والمعرفة. فَقَصْرُ هذا المفهوم، وحَصْرُه، أو إغلاقُه على مَعْنًى واحد، شامِلٍ ونهائيٍّ، هو حَصْرٌ للثقافة والمُثَقَّف ومَعْيَرَتُهُما، أو وضعُهُما في قارُورةٍ لا تَسْمَحُ للنَّفس باسْتِنْشاقِ الهواءِ، بدعوَى أنَّ الشمس تَخْتَرِقُ زُجاجَها، وأنَّ هذا يكفي لتكونَ للمفهوم حياة.
وفق هذا المعنى أنظرُ إلى المثقف باعتباره مُنْتِجَ رُموز ودلالاتٍ، ومُقْتَرِحَ أفكارٍ، ومُساهِماً في مُراقَبَة ونقد ما يجري في الحياة العامة، ليس باعتباره مسؤولاً في قطاعٍ من قطاعات الدولة، أو زعيمَ حزبٍ، أو أحد العاملين في قواعده، أو «خبيراً» في الشأن السياسي. بل إنَّه صاحب فِكْر ونَظَر، ومُنْتِج مفاهيم ورموز ودلاتٍ، ملاحظاً وباحثاً ومُتأمٍّلاً، يتدخَّل في الشأن العام، ليس بنفس رؤية السياسيِّ أو التقنيّ المُخْتَصِّ في مُعالجَة الطَّواريء. فالمثقف ليس إطْفائياً، فهو لا ينتظر اشْتِعالَ الحرائِق، أو يكتفي بالنَّظر لِما تتركُه خلْفَها من رَمادٍ، إنَّه صاحِب رؤية للعالم، وصاحِبُ رؤية اسْتِشْرافيةٍ، تقوم على قراءة وتحليل للمُعطيات والأحداث والوقائع، وهو، أيضاً، صاحب حَدْس وخيال، حتى لا نقصر المفهوم على العقل، الذي هو عَطَب مَنْ اعتبروا الخيال خاصّاً بالشُّعراء والرومانسيين الحالِمِين، وهو مُنافٍ للعقل، أو هُما لا يجتمعان.
المُثقَّفُ ليس واحداً، فهو كثيرٌ، مُتَنَوِّع، ومُتَعَدِّدٌ، ومُتَشَعِّبٌ. وهو ليس المُفَكِّرَ دون الشَّاعر، أو الفيلسوف والعالم دون الفنان، أو الجامِعِيَّ المُتخصِّصَ في حقل من حقول المعرفة، دون الناقد الذي يفتح المعرفةَ على كل العلوم والمفاهيم. اختبارُ المفهوم، في تصوُّرِنا، رهين بقدرته على الإضافة والاخْتِلاق، وعلى المُشاركَة في تحويل الواقع وتغييره، وفي تجديد الأفكار وقَلْبِها، وفي وضع النهر في مجراه، أو في ما قد يفتحُه من مسارب، وما يُحْدِثُه في العقل وفي الخيال، معاً، من شقوقٍ وتصدُّعاتٍ. ولا يعنيني، هنا، المثقف الذي يكتفي بالإقامة في الحِياد، أو بين السواد والبياض. لا لَوْنَ له، في ما هو مُقيمٌ في كل الألوان، يتلَوَّنُ بتلَوِيناتِها المُتَشَعِّبَة والمُتعدِّدَة.
هذا المثقف الرَماديّ، المُلْتَبِس، المُتَلَوِّنُ، الهُلامِيُّ، الحِرْبائيّ هو الصورة التي تطبع اليوم وُجوهَ المثقفين، وتجعل من هذا المفهوم يذوبُ في غيره من المفاهيم، أو يصيرُ عائماً، غائِماً، لا يحظى بالمعنى الذي أشَرْتُ إليه قبل قليل، أي باعتبار المثقف سُلْطَةً قائمةَ بذاتها، ولا تحتاج لغيرها من السُّلَط لِتُسْنِدَها، أو لِتَتَعَكَّزَ عليها، وتكونَ حاملةً لها، لأنَّ المثقف هو حاملٌ وليس محمولاً، وهو شخص قائمُ بفكره، وبما له من أفُقٍ وسَعَة نَظَرٍ، وبما يقترحه من أفكار ومشاريع، وليس مُجرَّدَ «خبير» يُدْلِي برأيه في الحالات الآنِيَة والطارِئِة، أو «مستشار» في قضايا لا تَمّتُّ لمشروعه وأفق رؤيته بشيء، يكتفي بتبرير القرارات وتسويغها، دون أن يكون طرفاً في اقتراحِها أو مناقشتها. أي أنه يصبح ذريعةً في يد السلطة ليس أكثر.
ولِأُبَرْهِن على ما قلتُه، أُشِيرُ لحالاتِ التَّشَظِّي التي حدثت في واقعنا الثقافي المغربي، في صفوف اليسار، تحديداً، منذ ما عُرِفَ بـ «التناوب التوافقي» الذي قادَه، آنذاك أحد الأحزاب اليسارية الكبرى، وهو حزب «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية».
كانتْ مُسَوِّغات تبعية الثَّقافي للسِّياسيّ، خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، بشكل خاص، تسمح للمثقف ليكون في خدمة السياسي. فالسؤال الثقافي لم يكن سؤالاً تحكمُه المعرفة، أو لم يكُن سؤالاً صادِراً عن وعي ثقافي مُسْتَقِلّ بذاته، ونابع من الهَمّ الثقافي المبني على مشروع فكري نظري، بقدر ما كان تابعاً للمشروع السياسي الأيديولوجي الذي كان اليسار في المغرب يتبنَّاه كـ «اختيار ثوري». والمثقف كان، بدوره، يرى في هذه التبعية ضرورةً تمليها طبيعة الصِّراع مع النظام، وطبيعة الاختيارات الاجتماعية والسياسية التي كان النظام انْخَرَط فيها، وهو ما لم يقبل به هذا اليسار الذي رأى في الاشتراكيةِ الخيارَ الوحيد لبناء مجتمع يتساوى فيه الجميع في الملكية وفي الحقوق الاجتماعية والسياسية والثقافية. وكان الاتحاد السوفياتي، إبَّانها، هو الموديل السياسي الذي كان اليسار يَسْتَمِدُّ منه فكره، ويعتبره القُدْوَةَ والمثالَ، رغم أنَّ ما كان يجري هناك في هذا البلد الاشتراكي الكبير، كان يشي بتحوُّل الاشتراكية نفسها، إلى سجن وقَيْد، وإلى سلطة توتاليتارية،كانت «مُهِمَّتُها القضاء على فاعلية المجتمع وتحويلها إلى انصياع عام لتلك الهيمنة الكليانية». أو كما تقول حَنَّا آرَنتْ «إنَّ النظام التوتاليتاري هو غياب كل سلطة أو تراتبية من شأنها أن تُعَيِّن نظام الحُكْم» [الفعل السياسي بوصفه ثورة]. لا أحدَ كان يتحدَّث عن هذه السلطة، بل كان هؤلاء، هنا، وفي أكثر من مكان في العالم، يُدافعون عنها، ويُسَوِّغون ما كانت الفاشية الستالينية تقوم به، وما عرفَتْه المرحلة الجدانوفية من تصفيات للفكر المُنْتَقِد، المُخالِف والمعارِض.
لم يكن المثقف موضوعياً في ما يقوله ويكتبُه، ولم يكن بعيداً عن هَوَى الأيديولوجيا التي كان ينتمي إليها، بحكم الانتشار المكثف للفكر الماركسي . وهذا كان بين الأمور التي ساهمت في تراكُم أوهام المثقفين، وما كانوا يبنونه من يوتوبياتٍ، كان المشروع السياسي لليسار يُغَذِّيها بما كان يَبُثُّه من شعاراتٍ، في المدارس وفي الجامعاتِ، وبين صفوف الشِّغِّيلة من أساتذة وموظفين وعُمال، بنوع من الانحياز الأعمى، وبنوع من الخطاب الوجداني الحماسي المُنْدَفِع، في كثير من الأحيان، وليس بخطابٍ تأمُّلِيّ تحليلي، ونقديٍّ مُجرَّدٍ من نزوع الانتماء والتبعية.
لا أحدَ كان يقوم بمراجعة هذه الشعارات، ولا بنقد الفكر الاشتراكي نفسه، أو بنقد التجارب الاشتراكية التي وصلتْ إلى السلطة في العالم العربي بشكل خاص. فالناصرية أصبحتْ حُجَّةً، رغم ما حدث فيها من أعطاب، خصوصاً في العلاقة بالمثقفين، وبالفكر النقدي المُعارض. وأصبحت الاشتراكية في الجزائر وفي العراق وسوريا واليمن وليبيا، خنادق يلجأ إليها هذا اليسار، ليس في التعبئة والدَّعْم المادِيَيْن، بل أيضاً في التكوين الفكري والأيديولوجي، رغم أنَّ أغلب هذه الأنظمة لم تخرج من الشارع، فهي جاءتْ من تكنات العسكر.
هذا الوضع الذي كان سائداً في علاقة المثقف بالسياسي، بكل ما فيه من أعطاب وإخفاقاتٍ، أصبحت اليوم ظاهرةً للعيان، كان قبوله مُمْكِناً، كَوْنَ الصراع كان على أشُدِّه، وكل واحد من الأطراف المُتصارِعَة، كان يستعمل كُلَّ ما هو مُتاحٌ من أسلحةٍ ومن عتادٍ فكري وبشري، لضمان حياته وبقائه. لكن، حين يتحوَّل اليسار من المعارضة إلى الحُكْم، فما الذي يُسَوِّغ لهذا المثقف أن يسيرَ وراء السياسيّ، وأن يصبح أداةً في يدهِ للدفاع عن اختيارات وبرامج، لا يَدَ له فيها، أو لم يكن مُشاركاً في صياغتها، باعتباره قوةً اقتراحيةً، وصاحبَ فكر ونظر؟
في ما جرى، وهذا ما سبق لي أن أثَرْتُه في كتاب «المثقف المغربي بين رهان المعرفة ورهانات السلطة»، تحوَّل المثقف إلى حَطبٍ في يَدِ «السلطة» أو في يَدِ «الحزب»، ولم يحرص على المسافة التي تجعلُه ينظر إلى ما يجري، مرَّةً أخرى، بنوع من الحياد والتَّجرُّد. فمن سلطة الحزب على المثقف، إلى سلطة الدولة عليه. والأدْهَى من هذا، أنَّ هذا المثقف بقدر ما وضع نفسَه رَهْنَ إشارة «الحزب»، بقدر ما رَهَن المؤسَّسات الثقافية التي كان يُشْرِفُ عليها بيدِ «الدولة»، التي أصبحت هي المُعادِلَ الموضوعيَّ للحزب. وهذه من الأخطاء القاتلة التي فَضَحَت تهافُتَ المثقفين «الثوريين»، وحوَّلت «النضال» إلى ابتذال، وتهافُت على السلطة، وعلى ما ظهر في الأفق من مناصب أو غنائم بالأحرى.
ترتَّبَ عن هذا الوضع الجديد، نسيان، أو تجاهُل دور ووظيفة المثقف، الذي لم يَعُد «طليعةً»، ولم يَعُد صاحب فكر نقدي، أو مَنْ يَدُقّ الجرس في حالات الخطر، كما ترتَّب عنه تَفَتُّت «الحزب»، وتشظي اليسار، الذي لم يكن على وفاق تامّ من قبل، ما ضاعَفَ المسافات الفاصلة بين أقطاب هذا اليسار، وعزَّز صفوف الفكر السلفي الماضوي، الذي أسْهَم في تَمْتِينِ الفكر الأصولي، وفي احتلاله للمساجد والمدارس والجامعات والأحياء الهامشية أو المُهَمَّشَة والمُهْمَلَة من قِبَل الدولة والأحزاب والمنتخَبين، لِما وقع من فراغ، ولانشغال المثقفين اليساريين، ممن انخرطوا في مواقع القرار، بهذا الوضع الجديد، الذي اعتبروه انتقالاً ومُشاركةً في «الإنقاد!»، وفي الخروج بالبلاد من وضع «السكتة القلبية»، كما كان سمَّاها الملك الراحل الحسن الثاني.
حين كُنَّا ننتقدُ ذوبان المثقف في السلطة، وسقوطه في فخاخها، كان هذا «المثقف»، ومن موقعه في مراكز القرار، يعتبرُنا غير فاهمين لِما يجري، وأننا نصدر عن جهل بدور اليسار في التغيير، وهو ما لم يفتأ هذا اليسار نفسه أن اعترف به، في شخص الوزير الأول السابق عبد الرحمن اليوسفي، وكذلك وزير ماليته فتح الله ولعلو ووزير التعليم لحبيب المالكي، وكذلك وزير الثقافة السابق محمد الأشعري، الذي لم يستطع أن يعود بالزمان إلى الوراء، ليختار صفة «المثقف» دون صفة «الوزير» أو رجل الدولة التي اسْتَغْرَقَتْه عقديْن من الزمن تقريباً.
هذا الإخفاق السياسي الكبير، تلاه إخفاق ثقافي كبير. ودليل ذلك هو أنَّ المثقف بدوره تشظَّى، وأصبح يعيش في عطالة فكرية، كون المسافة بين ما يقوله، وما أفْرَزَتْه تجربتُه في السلطة، كانت صارخَةً، وهذا يفرض أنْ يصير فكره، وما يصدر عنه من أفكار على مِحَكّ النقد والمراجعة، أو هو، بالأحرى، كلام بلا أفكار، أو فكر بلا رؤية، وبلا أفق، أو هو فكر «أبيض»، مثل الرصاص «الأبيض» الذي يُصْدِر أصوتاً ويشُلّ الحركة لبعض الوقتِ، دون أن يكون فاتكاً وفاعلاً.
فكما نتج عن هذا الإخفاق، انتشار الفكر الأصولي الماضوي، بصُوَرِه المتطرفة العنيفة، نتج عنه تَمْتِين الدولة، أو «المخزن» لسُلَطِه ومواقعه، واستقطابه، في صورة الملك، للوعي الشعبي العام، فأصبحت المسافة بين سلطة «المُتَدَيِّن، الواعِظ» في الحُكْم، أو «اليساري»، قبلَه في دواليب السلطة، وبين صورة الملك كبيرةً وواسعةً. لم يعُد موضوع «الملكية البرلمانية» أو الحَدّ من سُلَط الملك، رغم ما جاء به الدستور الأخير من اجتهادات في هذا الباب، مطروحا إلاَّ عند بعض الأحزاب اليسارية، ووفق ظروف وشروط، و أوقاتٍ وحسابات معينة. فالحزب، كيفما كانت طبيعة توَجُّهاته، أصبح في فَوْهَة المدفع، وأصبح هو المسؤول عن كل الإخفاقات، في نظر العامَّة من الشَّعب، وليست الدولة، في معناها المخزني، أو نظام الحكم. والمثقف، هو طرف، أو شريك في هذا، إمَّا لكونه انْحازَ للحزب، أو اختار الدولة، لاعْتِباراتٍ، يمكن اختصارها في قول أحد الباحثين في طبيعة العلاقة بين «الكاتب والسلطان»، في أنَّ ما يحمله المثقف من أفكار، أو من «علم»، لا يبدو له صالحاً إلاَّ إذا وُضِعَ في خدمة مشروع، أو في خدمة الدولة خالِقَةِ المشاريع والجالِبَة للمصالح، حسب تعبير الطهطاوي. فغربة المثقف، أو انفصالُه عن المجتمع، تبدو في كون ما يحمله من أفكار، وما له من مشاريع، لا تجِدُ لها مكاناً في بيئته، أو المكان الذي يحيا ويعيش ويفكر ويكتب فيه. وليس تأسيس التَّجَمُّعات والمنتديات الثقافية، أو الانضمام إلى الحزب، أو حتى التبعية للدولة، إلاَّ تعبيراً عن رغبة هذا المثقف في إيجاد مكان له تحت الشمس ليتنفَّسَ فيه الهواء، ولا يبقى منزوع «السِّلاح»، يكتب ويفكر ويُخَطِّط، دون أن يجد لِما يكتبه ويُفَكِّرُه ويُخَطِّط له صَدًى، وكأنَّه مُقيم في العراء.
يفرض ما يجري في واقعنا، الراهن، من تحوُّلات، وما عرفه العالم لعربي، بشكل خاص، منذ سنة 2011، من ثورات ضد عدد من أنظمة الحكم، وما ترتَّب عن ذلك من تدَخُّلات خارجية وعربية كبَحَت هذا الجموح الجماهيري الكبير، وتحكَّمَت في غَلَيانِه، أن نُعيدَ النظر في كثير من المفاهيم التي، ما يزال البعض مِنَّا يعود به إلى سنوات الستينيات والسبعينيات، وبينها مفهوم المثقف، الذي اعتبرناه، مُرَبِّياً ومُوَجِّهاً، أو هو من يقود المجتمع ويضمن سَيْرَه وفق وتيرة ما.
قد يكون لهذه المعاني وجودُها في هذا المفهوم، كما كان طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» ربط مفهوم الثقافة بالتربية، واعتبرهما مُتلازِمَيْن، لكن، مثقف اليوم، ليس هو نفسُه، مثقف القرن التاسع عشر، أو «النهضة»، بمفهومها العربي. فما حدث من تَوسُّع في انتشار التعليم، وفي عدد الخِرِّيجين من حملة الشواهد العليا، وظهور معاهد ذات تخَصُّصات جديدة ودقيقة، لم تكن معروفة من قبل، وظهور وسائط الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعية، أصبحت مُتاحةً للجميع، دون تمييز، كل هذا وغيره، أصبح من المعطيات التي تفرض اليوم، وبإلحاح كبير، إعادة تفكير المفهوم، وتفكير دور ووظيفة المثقف، دون البقاء في مربَّع الماضي، الذي يمكنه أن يكون عنصراً مساعداً في إعادة تفكيك وتركيب المفهوم، وفق ما هو طاريءٌ وحادِثٌ اليوم من معطيات وأفكار، وما اسْتُحْدِثَ من مفاهيم وعلوم، وتَوسُّع في المعرفة.
إذا كانت «المفاهيم معالم» بتعبير الدكتور محمد مفتاح، فهي ليست ثابتة على نفس المعاني والإيحاءات، ما يعني أنَّ المفاهيم تقبل المراجعة والتكييف، أو التَّبْيِئَة، وفق ما كان أشار إليه محمد عابد الجابري. ومفهوم الثقافة الذي لم يخضع للحصْر، أو التحديد النهائيِّ المُغْلَق، هو بين المفاهيم الدينامية المفتوحة، التي تتحرَّك بنفس دينامية المجالات التي تعمل فيها، وبنفس حركية الفكر نفسه، وما عرفته حقول المعرفة من توسُّع وتنوُّع، ولم تَعُد محصورةً في الفلسفة والأدب وحدَهُما، ثمة علوم ومعارف وتخصُّصات، لم يعُد ممكناً تفاديها في شَحْذ النَّظَر، وتوسيع أفق الرؤية. وهذا يعني أنَّ المثقف، أصبح في حالة استنفار معرفي دائم، وأنَّ مَسْكَن المثقف الرمزي، هو مسكنٌ مفتوح على الرياح والعواصف، وليس بيتاً مُغْلَقاً على نفسه، مُكْتَفياً بذاته. والواقع، وما يجري في حقل السياسة والاقتصاد، وفي تدبير الشأن العام، هو بين ما يضع المثقف في سياق «المعرفة» بمفهومها ومعناها الدينامي المفتوح. فلا معنى للفكر إذا انْزَوَى على نفسه، وانْكَفَأَ عليها، كما تقول حَنَّا آرَنتْ. فمهمة الفكر، عندها، هي اختراق الممارسة في التطبيقات السياسية والأخلاقية. ومهام التَّحرُّر والتفعيل والعقلنة، لا تُوكَل لهذا الفكر، إلاَّ وفق هذا الشرط.
«المثقف» ليس مفهوماً مُحْكَماً، قطعياً، مُمْتَلِئاً بتعبيراته، وما يحمله في طياته من مداليل، بل إنَّه مفهوم مِتَمَوِّجٌ، مُنْشَرِحٌ، ما فيه من فراغ، ومن مساحات شاغرة، أكثر مما فيه من امتلاء، وهذا ما يسمح بضرورة الإضافة والمَلْءِ، وبالمُراجعة الدائمة، أو البدء من جديد على الدَّوام، ليس بنفي المفهوم وإلغائه، بل لتجديده، وتحيينه، ووضعه في سياق المُتَغيِّرات الحادِثَة والطَّارئة، بما تُحْدِثُ في هذا المفهوم ذاتِه من خُدوش وجروح وتَصَدُّعاتٍ.