إنه ليس أمرا غريبا أن يكون المرء قد سمع ولو مرة واحدة في حياته عن فريدريش نيتشه صاحب كتاب "هكذا تكلم زرادشت"؛وغيره من الكتب الفلسفية الأخرى التي كان المراد منها أن تحل محل الكتاب المقدس، وفي هذا المقال بالذات لن ندخل في أشعار زرادشت، وانما سنقف عند كتاب أخر اختلف حوله الدارسون، فالبعض يرى فيه كتابا ثانويا ولا يستحق كل هذا الاهتمام، بينما يرى فيه البعض الاخر كتابا رئيسيا الى جانب كتابه الشهير"هكذا تكلم زرادشت" ص5، إنه كتاب "نقيض المسيح"الذي ترجمه الى العربية التونسي علي مصباح.
لعل ما يثير انتباهنا أثناء القراءة ولا نستطيع ان نتجاوزه، إنما هو عنوان الكتاب الذي هو نقيض المسيح.وهنا نجد مترجم الكتاب يوضح بعض الالتباسات التي دفعته الى ترجمة العنوان بنقيض المسيح وليس بعدو المسيح، كما ذهب الى ذلك بعض المترجمين العرب الذين انخدعو بالترجمة الفرنسية التي تفتقر الى الدقة هذا ناهيك عن الأمانةص12، فنيتشه حسب مترجم الكتاب هو الانتيكريست الذي هو نقيض للمسيح.يقول نيتشه:
نيتشه، زرادشت، ديونيزوس، ثلاثة أسماء لمسمى واحد هو الضد، والنقيض والمشروع الفلسفي البديل للمسيحية.ص15
لندخل الأن الى الكتاب الذي يقع في 151 صفحة من الحجم الصغير، وهو كتاب للقلة، وربما لم يولد احد من هؤلاء القلة بعد الأن.الكتاب ليس فقط صرخة في وجه المسيحية، وانما هو لعنة على المسيحية التي يحاول نيتشه القضاء عليها بشتى الطرق. ففي بداية الكتاب يتسائل نيتشه ما هو الشيء الذي يعد حسنا؟ويجيب:كل ما ينمي الشعور بالقوة وبإرادة القوة وكل ما يتأتى من الضعف يعد سيئا.إن الإنسانية حسب نيتشه لا تسير نحو الأرقى، فالتقدم مجرد فكرة خاطئة، وأوروبي اليوم يظل من حيث قيمته ادنى بكثير من أوروبي عصر النهضةص26.27فيا ترى ما هو السبب في ذلك؟
السبب يكمن حسب نيتشه في المسيحية، لأنها خاضت حربا ضد الإنسان الأقوى، وانحازت للضعفاء والفاشلين. إن الإنسانية حسب نيتشه تفتقر الى إرادة القوة لأنه عندما يكون هناك افتقار لإرادة القوة يكون هناك تدهور، والمسيحية من المنظور النيتشوي هي ديانة الشفقة التي تمثل العنصر النقيض للأحاسيس المنشطة.يقول نيتشه:
ليس هناك من شيء أكثر مرضا داخل حداثتنا أكثر من المسيحية، لذلك كان من الضروري على نيتشه أن يفصل بينه وبين المسيحيين، والنوع الذي يحس به نقيضا هو اللاهوتي الذي يحمل دما لاهوتيا في شرايينه، والرجل يخوض حربا ضد هذه الغريزة اللاهوتيةص.28.29.31، وإذا كان نيتشه يخوض حربا ضد المسيحية فإنه ينتقد الفلسفة كذلك، لأنها لم تستطع في نظره أن تخرج من قوقعة المسيحية وهنا نجد نيتشه يخاطب الألمان قائلا:
سيفهمني الألمان اذا قلت لهم بأن الفلسفة أصابها الفساد بسبب ما خالطها من دم لاهوتي، إن الألمان من المنظور النيتشوي يعتقدون بأن كانط قد أحدث تحولا كبيرا في الفلسفة، إنهم يعتقدون ذلك نظرا لشهرة كانط، ولكن نيتشه يعترف لقراءه بان كانط لم يكن ذات يوم فيلسوفا، بل هو رجل دين ونجاحه ليس نجاحا فلسفيا وإنما هو نجاح لاهوتي، ولا يقل عن كونه داعية أخلاقية.ص35 36
لماذا اذن هذا الهجوم على كانط؟
إن فلسفة كانط من المنظور النيتشوي هي استمرار للدين، وهذا ما جعل نيتشه يقف له بالمرصاد، كانط العدمي صاحب الأحشاء الدوغمائية المسيحية يقف في وجه المتعة ويعتبرها عيبا وهذا ما يمثل الوصفة المثلى للإنحطاط، بل وللغباء أيضا.وهكذا فإن الانحطاط الألماني في الفلسفة هو كانط.ص37
إن الفلاسفة حسب نيتشه كانوا عبر العصور سندا للكنيسة، وهنا يجد نيتشه نفسه معارضا لهؤلاء القديسين الذين ظلت البشرية تقدسهم الى حدود الساعة إن مفاهيمهم قد غذت معروفة كمفاهيم تحاول أن تجرد الحياة من قيمتها، إن القس نفسه قد غذا معروفا على وجهه الحقيقي كأخطر نوع طفيلي، او كرتيلاء حقيقية تهدد الحياة، وحتى تلك الابتكارات التي ابتدعها الكهنة من آخرة ويوم الحساب وخلود الروح ما هي إلا أدوات تعذيب، يصبح من خلالها القس سيدا على الجميع
والآن بقي لنا أن نتساءل عن موقف نيتشه من الإيمان.
الحق أن نيتشه لم يكن مؤمنا، لأن الإيمان في نظره يبدو عديم الفائدة وفي هذا الكتاب يوجه خطابه الى المؤمنين الذين اصبح عددهم يفوق الملايين، قائلا:
سيأتي عليكم يوم وستعرفون كم هو غير لائق أن يكون المرء مؤمنا، لأن الإيمان بالله واليوم الأخر يجعل الانسان ضعيفا، ويستطرد نيتشه قائلا: ستعرفون ذلك يوما، ما دام صوتي يبلغ حتى اولئك الذين لا يسمعون جيدا.ص112
إن الانتصار الذي يطمح اليه نيتشه هو إلغاء المسيحية، هذا ما أعلنه في خاتمة الكتاب، وإذا كانت البشرية تقف الآن عاجزة ولا تستطيع أن تتخلص من الكنيسة فإن السبب في ذلك يعود الى الألمان الذين كانو سندا للمسيحية، بل حتى عصرالنهضة هو حدث غير ذي اهمية، لأن مارثن لوثر عندما جاء بالإصلاح الديني لم تكن نيته القضاء على المسيحية، أو إلغائها كما كان يتوقع نيتشه بل إن الرجل أحياها في حلة جديدة. يقول نيتشه:
يا لهؤلاء الألمان كم كلفونا من الخسائر دون جدوى، هكذا كان عمل الألمان دوما الإصلاح، لايبنز، كانط والفلسفة الألمانية، حروب التحرر، في كل مرة عمل دون جدوى.ص147
إن نيتشه يدين الألمان ويرفع ضد الكنيسة المسيحية أشنع تهمة على الإطلاق، انها تمثل بالنسبة اليه أكبر ما يمكن أن يتصور من أنواع الفساد.إن الرجل يعترف بأنه سيظل يكتب على كل حائط بأن المسيحية هي اللعنة الكبرى، لأنه يمتلك الكثير من الحروف وهو قادر لكي يجعل العميان أيضا مبصرين وينهي نيتشه الكتاب بهذه العبارة الجميلة: إذا كان المؤرخون يؤرخون للمسيحية منذ يومها الأول !لم لا نؤرخ لها انطلاقا من يومها الأخير، أي ابتداء من اليوم.....قلب كل القيم..!!
لائحة المصادر:
-فريدريش نيتشه، نقيض المسيح، ترجمة علي مصباح، صدر عن منشورات الجمل، بيروت بغذاذ2011ص5
-المرجع نفسه.ص12
-المرجع نفسه.ص15
-المرجع نفسه.صص26.27
-المرجع نفسه.صصص28.29.31
-المرجع نفسه.صص.35.36
-المرجع نفسه37
-المرجع نفسه.صص85.86
-المرجع نفسه.ص112
-المرجع نفسه.ص147
-المرجع نفسه.ص149