أليس هذا غريبا، وهل هناك شيء يؤلم أكثر من الغربة، إن أي شيء ينتهي ليس صادقا او انه ليس موجودا، ولكن حتى الصباحات الجميلة تنتهي.
ليس الذي يؤلم الانسان هو ان ينتهي الصباح ولا حتى ان يسرع المساء الى الذهاب، الذي يؤلم حقيقة هو ان يعيش الانسان بين الصباحات والمساءات غريبا.
كانت هناك يمامة تعيش في شجرة خروب قديمة، لا ادري ان كانت تتألم لأنها تعيش لوحدها، على الاغلب كنت اراها حزينة ذلك لأني لم افهم الامر جيدا حينها. وبقليل من النور الساطع عرفت ان اليمامة كانت تعيش وحدتها ولم تكن تعيش وحيدة، وثمة فرق شاسع بين الامرين؛ ان يعيش المرء وحدته وأن يعيش وحيدا، والذي يثير الألم هو الأمر الثاني بينما الأمر الأول يثير البهجة. والبهجة غير السعادة، فلسنا اغبياء الى الدرجة التي نحاول فيها التحدت عن هذه الفكرة الفاسدة.
ليست السعادة إلا فكرة فاسدة تراود الإنسان الفارغ، لأن الإنسان المتخم والذي يعيش وحدته ويكابد وجوده الشخصي لا تراوده الافكار الفاسدة.
لكن عليه ان يكون كتلك اليمامة، اي ان يكون وحشا، محتم عليه ان يتحول الى وحش لكي يستطيع ان يعيش وجوده الشخصي الكامل، ولا اقصد ان يتحول الى حيوان وانما الى وحش فوحده الوحش يستطيع أن يتحرر من الضرورة، ليس الوحش هذا درجة من الحيوانية بل صيغة من الكائن، ليس لدى الانسان الذي يريد ان يعيش هذه البهجة الا ان يكون وحشا لأنه لا يستطيع ان يكون إله، وكذلك لأنه لا يقبل ان يكون حيوانا.
والخاصة التي تمنعه من قبول الحيوانية – ليس بمعنى الحياة – الفضول، هذا الكائن الفضولي العجيب يدفعه فضوله لسلك الطرق الملتوية.
ولأنه خائف، اجل ذلك انه كائن خائف، يخاف من الغياب، يعرف في قرارة نفسه انه ليس آمنا تُّجاه الغياب، فتراه في حالات ضعفه البئيسة يسعى بكل ما أوتي من قوة وجهد الى الظهور، الى ان يكون بارزا قدر الإمكان قبل أن يتوارى نهائيا.
الى هذه الحدود وفي كثير من العجرفة، كنا نتحدث عن الرجل، لا نستطيع التحرر من هذه العجرفة الموروثة [ العقل هو خاصية الألهة وعدد قليل جدا من الرجال طيماوس؛ افلاطون ] لِمَ تُطرد المرأة اذن من ها الاعتبار.
ليست المرأة إلا العدو الميتافيزيقي الأول للرجل، ففي كل الاحوال هي سبب غربته الميتافيزيقية، وفي كل الحالات تكون هي الموجة الكاسرة هدوءه.
كان الرجل يستطيع ان يعيش كما كان روسو يستطيع ان يتخيله، جالسا غارقا في هدوئه في ظل شجرة مثمرة، فلتكن شجرة تفاح، والماء في الجدول الصغير يتدفق، لكن فسد طبع هذا الرجل ونقل هذه الصورة الى مكان اخر بإيعاز من المرأة، فأغواه الاجاص بدل التفاح واغواه الرمان بدل التفاح، وأغواه النبيذ بدل ماء الجدول فخسر جنته في محاولة جنونية لدخول نار المرأة المرغوبة.
هذا الرجل المسكين أنسته المرأة انها سبب غربته الميتافيزيقية، ( مرض النسيان) فأدخلته اغترابات اخرى، المرأة هي التي وضعت إجاصة الرغبة في جوف الرجل، كل الفلاسفة عرفوا هذا، وبعض قليل من الشعراء. ولكن على العموم الشعراء في شجاعتهم التي تشبه الفراشة تعانق نار المصباح.
لماذا يحب ويرغب الرجل في المرأة وهي في الطف صورها صورة عن ميدوسا؟
هذه العلاقة يحكمها تركيب نفسي جِدُّ غريب، فالرجل شاعرا كان او فيلسوفا يحب من عدوته ان تعذبه لكي يتمكن من معاقبتها، كلاهما مازوخي وسادي، يحب ان تحضر علاقة التعذيب والمعاقبة بينهما.
عندما تجلس في شرفتك وتراودك مثل هذه الافكار المأساوية والكارثية الغارقة في الخبل والطافحة بالجنون لن يكون السبب في ذلك إلا المرأة، لن يكون الا هذا العدو الميتافيزيقي الذي اضاع الوطن.
ماذا لو خُلِقَ الرجل أولا، إنما المرأة تعذب الرجل بامتلاكها القدرة على الخلق، وهنا بؤرة العداوة التي لن تنتهي، القدرة على الخلق
فيخلق الشاعر منا قصيدته ضدا فيها، والرسام يلد لوحته ضدا فيها، ويحمل الفيلسوف جنينه في احشائه دهورا ويلد مغامرته الكوسمولوجية عكسا فيها، لكنها محاولات بائسة يائسة وفي انجح حالاتها هي محاولات مجنونة، ذلك ان المرأة هي التي تلد في نفس الشاعر قصيدته وفي نفس الرسام لوحته وفي نفس الرجل فلسفته. قد يبدو ان المرأة تزهد في العقل الذي يحاول الرجل مفهومها ان يحتكره ويدعيه للالهة وعدد قليل جدا من الرجال.
إن البندقية التي يحارب بها الجندي هي نفسها امرأته، وسيف المحارب والدرع، والقوس كذلك امرأة، حتى الرجل عند روسو يجلس في ظل شجرة تفاح ان اردنا، والشجرة انثى. كل شيء اذن في صالح المرأة في صالح الانثى.
يموت ذكر الفراش بعد ان يقطع الادغال طولا وعرضا ليجد أنثاه، يموت عند اتصاله بها لكنها لا تفعل لانها حامل السر، سر الخلق.
لنعرف هذا علينا أن نكون وحوشا، او ان نكون كدودة الارض، وأن نتحلى بإرادة عليا، لنتمكن من رؤية الامر في حقيقته تحت النور، ففي العالم البشري كل شيء معكوس. في المملكة الحيوانية على الذكر ان يتزين لأنثاه، الطاووس بديله المزركش والاسد بشعره المسبسب والحصان بتوقيع رقصه الرفيع، والعصفور بالوانه الزاهية، والبلابل والعنادل بتغريدها وغنائها.
لا تستطيع انثى العصفور أن تغني، الذكر وحده يفعل، وألوانه اقوى من ألوان الانثى، ولأنه يفعل يصيده بني البشر لوضعه في الاقفاص والإستمتاع بألمه المغترب، فنلاحظ انه حتى في هذه المملكة السعيدة الانثى سبب الغربة.
الرجال الشعراء والفلاسفة والفنانين يعرفون هذا بشكل أو بأخر، لكن ماذا عن الرجل العادي؟!
بسبة المرأة اذن وفقط بسببها يكون الرجل راغبا، اي كائنا راغبا، لكن ماهي المرأة؟
ليس في مقدورنا ان نعرف ماهي المرأة، لأنه ليس في مقدور كل النساء ان يدخلن في هذا العنوان المتميز، يصادف الرجل الكثير من النساء في جولاته، وكذلك يشاهد من شرفته العالية، لكنه لا يستطيع ان يقول إني رأيت امرأة الا نادرا، لا تكون المرأة اذن إلا ما يستطيع ان يجعل الرجل يرغب، وكذلك غريبا.
لكن رغبة الرجل العادي ليست هي نفسها هذه الرغبة، فهي دون رغبة الطاووس وكذلك دون رغبة الرجل الشاعر والفيلسوف والفنان ... ذلك ان الاخير يعرف كيف يرغب ولماذا يرغب، يعرف أنه يرغب من داخل بناء من داخل مجموع [ دولوز] ويرغب لأنه في اخر المطاف يرغب في نفسه ويرغب في امتلاك القدرة على الخلق، ليست الرغبة اذن بالنسبة إليه فخا، بينما تكون كذلك اضافة إلى الرجل العادي.
إن امرأة مغامرة وحدها تستطيع ان تجعل رجلا غير عادي يرغب فيها.
كيف اذن يكون الرجل راغبا في نفسه؟
هذا التركيب ابن الميتافيزيقا الأولى، خلق الرجل قبل المرأة وخلقت منه ( وان كان فإنه لا نريد القول بأن القدرة على الخلق والإبداع تعود للرجل ) واخذت القدرة على الخلق، فعندما يرغب الرجل في المرأة فإنه يرغب في مجمل الاحوال في نفسه، لهذا ربما كانت فكرة الأنيما والانيموس [ يونغ ] فكرة في غاية الابداع وكذلك في غاية الشعرية.
يعبر عن هذا اخر رجل قال الشعر في العرب في قول بديع استطاع ان يعرف الحقيقة في ضوء النور والإرادة
يقول محمود درويش؛
ولست من انا الان إلا
اذا التقت الاثنان:
أنا، و أنا الأنثوية
يا حب! ما انت؟ كم انت انت
ولا انت.
قد يجرنا الامر بعيدا في إقامة القول بأنه اخر شاعر، وهو كذلك لسبب بسيط وما أشد الامور البسيطة، درويش يلتقي عنده المحايث بالمتعالي، وهو الرجل الذي عاش وجوده الشخصي وكابده الى النهاية ولم يكن القول الشعري عنده ابدا شأنا خاصا محليا وصغيرا، ذلك ان الادب ليس كذلك ابدا [ دولوز] تكلم درويش في نور الارادة العليا، وهذا امر يحتاج الى شجاعة منقطعة النظير لهذا هو اخر من تكلم [هنا] شعرا ووحده الشعر يستطيع ان يقول الوجود، وفي مأساوية ان كنا نفهم معنى المأساة، المح الى أنه على شاعر ان يكمل الرحلة التي بدأها ، لكننا لم نرى بعد هذا الشاعر الموعود.
المرأة اذن هي المرغوب المحبوب، والرجل اذ يرغب في هذا المحبوب يرغب في نفسه.
ليس غريبا اذن ان يعيش الرجل الشاعر الغربة في الحب وفي الكلمة، وفي الكون، وكذلك الفنان والفيلسوف وهو يقطع دروب الكوسمولوجيات.
على الرجل أن يتعلم كيف يعيش وحدته وأن يكتشف او بعيد اكتشاف الرغبة، فمشكلة الرغبة انها في جناس غير تام مع الغربة، هذا المأزق على مستوى الاسم، هو مأزق على مستوى الوجود.
عندما يعلم الرجل هذا وتعلمه المرأة قد يصبح وقع الاغتراب طفيفا، لم يغترب الرجل عن شيء ولا المرأة عن شيء وإنما اغتربا عن نفسهما لأنهما لم يفهما ميتافيزيقا الرغبة.
اذن، المرأة اذن هي المرغوب المحبوب والرجل كذلك هو الاخر المرغوب المحبوب، واذ ترغب المرأة ويرغب الرجل، فهما يرغبان في نفسهما، وفي نفسيهما.