قال لي ذلك الرجل الذي وجده الناس فجر ذات يوم شتوي مستلقيًا في باحة التكية إنه يريد أن يلتقيني بعد انصراف الناس وإغلاق الأبواب بين انتهاء صلاة العشاء وصلاة الصبح.
لم يكن أحد يعرف من أين أتى، وفشلت كل محاولات استنطاقه، وعزف المحاولون لما أصابهم اليأس من جدواها.
لا أدري لماذا اختارني وأسرّ إلي برغبته في مجالستي، وقد مرت لحظات التردد سريعة لمّا غالبتها فغلبتها رغبة اكتناه السر وفضّ المغاليق.
قصدت مأواه في الغرفة الصغيرة التي كنت أخشى دخولها منذ طفولتي في التكية بسبب توسط جدارها لوحة كتب عليها لفظ الجلالة، وقد كان من تعهدوني في صغري بالوعظ قد أدخلوا في روعي أن الله جبار يسوم من يتنكبون عن جادة التقوى عذابًا لا يطيقه بشر.
ألفيته يقرأ القرآن على ضوء خافت، وقد استقبلني ببشاشة غير معهودة لديه وقدم لي كوبًا من الشاي كان قد حضّره قبل وصولي بقليل، وحرك السكر فيه طويلًا حتى استحالت رشفته الأولى في فمي إلى عسل.
لم يكن هو ذات الشخص الذي اعتدت رؤيته منذ سنوات، فقد وسمت شخصيته في الجلسة هيبة لم أعهد رؤيتها إلا عند كبار القوم وحلّ محلّ الانكسار قدر هائل من الثقة.
قال لي إنه لا يعرف عن تاريخه القريب شيئًا لأنه فقد ذاكرته القريبة، ولكن ما يعرفه حق المعرفة أنه ابن قسّ روماني أسر في معركة مع مسلمين وبيع مع الرقيق ونشأ في قصر سلطان عثماني في القسطنطينية.
وما يعلق في ذاكرته هو تلك النشأة التي فُرض عليه فيها دين جديد وتلقى فيها قسطًا من العلم بهذا الدين.
وثمة محطة راسخة في ذاكرته تلك التي انتقل فيها إلى القاهرة القديمة وعاش فيها في كنف شيخ بلد ( وهو منصب رسمي أيام المماليك) مملوكي قال له إنه يمتّ له بصلة قربى.
فجوة كبيرة من الزمن مرت بعد ذلك لا يعرف عنها شيئًا، ولم يدرك منها إلا وصوله إلى هذه المدينة المنعزلة في أقصى الشرق، وإلى هذه التكية التي يقال إن والي المدينة العثماني قد بناها منذ عقود.
وقبل أن أسأله السؤال الذي يتبادر إلى الذهن رأسًا عن سنه الذي يفترض وفق روايته أن يكون قد بلغ مئات السنين بادرني هو بالقول: دع عنك هذا السؤال فأنا لا أملك جوابًا عنه. أما ما يمكن أن أروي ظمأك بالجواب عنه فهو سبب اصطفائي لك، وهو ما رأيته من رعشة تنتابك كلما دلفت إلى هذه الغرفة، وقد أدركت سببها، وقد تابعتك مرة ورأيت الولد الشقي الذي صفعك في الزقاق الضيق لمجرد أنك قلت له إن شقيقك الأكبر ليس في المنزل.
سمعتك مرة تحتج على إجبارك على الذهاب إلى القرية لأنك تريد أن ترتاد دار السينما في أول أيام العيد ثم ترضخ للأمر العلوي.
جلست تحت شرفة بيت أهلك في الحي القديم وسمعت نحيبك في قلب الليل؛ لأنك غير قادر على الوصول إلى سكينة اليقين. لاحظت أول انشغال لك بالأنثى وكيف كنت تقدم رجلًا وتؤخر أخرى، ثم لا تلبث أن تنكص على عقبيك مفضلًا الهروب.
رأيتك تتجنب مرة المرور بحي شعبي يختصر المرور به مسافة سير طويلة على الأقدام وعلمت أن ما يمنعك ما رسخ في ذهنك من أن مجنونة الحي تقضي حاجتها فيه فتحيله إلى نجس.
كان الشيخ يتلاشى كلما استطرد في الحديث حتى اختفى ولم أعد أراه ولكني شعرت بألفة غريبة مع المكان وأصبحت اللوحة التي تتوسط جدار الغرفة لا تحرك فيّ الخوف القديم.
رأيته في صبيحة اليوم التالي ينظف مراحيض التكية وهمس في أذني قائلًا: لا تسألني من أنا يا بني فأنا نفسي لا أعرف من أنا، ابحث في ومضة العمر عن الأسماء ولا تستنزف طاقتك في البحث عما وراءها فإنك لن تبلغ سؤلك.