يصر على الموت واقفا، كما قرأ يوما في أخبار النبي سليمان. أن تموت واقفا معناه أن تُطمئن الحياة بأنك عائد مرة أخرى. وحدها النفوس الضعيفة تستلقي معلنة عن نهايتها.
بعد كل صلاة عصر يؤكد لهم أنه لا يخاف الموت. كيف يخافه وهو الذي بارك حضوره الغليظ والقاسي في لاندوشين(*). حرب بلا مجد أو هوية. قاتلوا إلى جانب محتل ضد أبناء الأرض، ثم استسلموا لحقيقة مرة.
كيف يخافه وهو الذي عاين بقلب متحجر تطاير أحشاء رفاقه، فتلاشت قدسية هذا الإهاب الرباني، الذي تلُفّه منذ الطفولة جلابيب صوف في أعالي الأطلس. هناك وُلد، وهناك تبرعمت أحلامه بالزواج، وزعامة القبيلة، ثم الفرار من إدانة بالحبس سنة ونصف بعد اتهامه بسرقة المواشي.
لا مشكلة لديه في الإقرار بأنه تاجَر بأحلام البسطاء أمثاله. ما الذي تتوقعه من جبل لا يلد إلا الحجارة؟ عشرون سنة وهو ينحت أمنية الثراء، فوجدها يوما في الاحتيال على رعاة الجبل.
- يعرض أحدهم النعجة كما لو في بطنها خاتم سليمان. الطماع يقضي عليه الكذاب. أعدهم بأثمان مغرية في سوق المدينة، فأقبض نصف المبلغ من السمسار ويقبضون الريح!
لكنهم سامحوه يوم علموا بنقله تعسفا إلى لاندوشين. الذاهب مع الفرنسيس مفقود، والناجي مولود. لم يأسف سوى لتركها وحيدة، تستجدي لقمتها من بعثرة خيوط الصوف على النول.
هبت نسمات رطبة من ردهة البيت فألقى حصيرا وتمدد. في الشقوق البارزة يجهد عنكبوت ليبني مصيدته. كأنها غذّته من صبرها وطول بالها. تدلى الجنين الأول من بطنها ميتا فلم تحزن. أما الثاني فكانت الولادة متعسرة، ثم قرار بأن يلحق أخاه إلى جنة الصبيان.
بلا ولد ولا وتد. الولد مفقود، والوتد غارق في طيشه ورعونته. كالأرزة تحملت ومدت جذور أحلامها بعيشة الكفاف في حضنه. ملعون ذاك الذي يسمونه حبا، فالقلب بلا بصيرة كالنار الموقدة.
مرت سنة، سنتان، ثم فقد إحساسه بالزمن. باع نولها المسجى في زاوية الغرفة كي لا يذرف مزيدا من الدموع. حتى أشياء مطبخها تشير إليه بأصابع اتهام
- لماذا خلّفتها وحيدة؟ هل قطفت ثمرة فؤادها لتعتلي صهوة جنونك؟ كلكم أنذال! سيمضي زمن قبل أن تدركوا أن الدنيا لا تساوي شهقة محب في ليلة باردة. هنا تقلبت في فراش الانتظار، تتلمس خبرا أو فجيعة. الحرب هي الحرب. طاحونة ابن آدم الأول. لكنها تجلّدت وأرهفت سمعها كل ليلة لوقع أقدامك.
حمّلوه رسالة من زعيمهم "هوشي مِنه" إلى الخطابي في أعالي الريف:
- الأحرار يموتون وقوفا لأنهم أوتاد الوطن.
بعد رسو الباخرة في ميناء كازابلانكا، صادف فرنسيا يعربد في الجوار فطعنه. لتكن ضريبة احتلال ساق رفاقه إلى الذبح. بعد ليال من السير المتخفي في الأودية، داهم قريته كالذئب الجريح:
- كلكم أوغاد. يجركم الفرنسيس إلى حتفكم خاضعين. ليس الوطن خيمة وشياها ترتع في الوادي. لو رأيتم ما يصنعون بهم في غابات لاندوشين. قطط تموء من الذعر. موتوا وقوفا ليكون لهذا الوجود معنى. رأيت الموت وشممت ريحه. إنه خطوة. نعم مجرد خطوة، كلما مشيتها تراجع للخلف. الحر من يملك مصيره. كونوا رجالا أو احفروا لهذا الصمت مقبرة.
انزعجوا قليلا ثم سامحوه!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
) حرب الهند الصينية أو فيتنام. شارك فيها جنود مغاربة إلى جانب القوات الفرنسية.