شيئا فشيئا أصبح القسم غرفته السحرية. ما إن يصرف التلاميذ إلى بيوتهم المعزولة في شعاب الجبل الصخري، حتى يبادر إلى تهوية الحجرة، وإخراج ما تبقى من غازات الصغار، وبقايا التهامهم المفرط للبسكويت وأكياس البطاطا المقرمشة.
قبيل الغروب يستأذن عفاريت المكان بإضاءة شمعة. هنا تدرج خياله في ابتكار شخوص وأحداث لقصصه، ولايزال قلبه حتى الآن مفعما بالمسرة، حين لقيت قصته الأولى ثناء على صفحات المجلة.
يدير مؤشر المذياع بحثا عن جديد الثقافة والأدب. هكذا تحلق همومه في سماء غير التي تظله كل يوم تحت هذه القرية المنسية. يشعر بحنين لأصوات غرست فيه توقا للكتابة، فحتى أواخر التسعينات لم يفقد أثير الإذاعة الوطنية حسه الأدبي، واستمرت بعض أصواته الدافئة تحيي الأقلام الخجولة، وتعدها بفسحة من الأمل. وجيه فهمي صلاح. مسلك ميمون. محمد عمارة. فاطمة أقروط. أصوات تخيلها دوما تلتقط ما في الملكوت من رذاذ الشعر، لتبرد به عطش الباحثين عن جميل القول وجليله.
رن هاتفه إشعارا باستلام رسالة. ألقى نظرة على الخلطة المروعة من حروف وأرقام، فإذا هو رجاء من رفيق السكن بأن يدبر له مبلغا لسداد فاتورة علاج. تظاهر بالفهم وهو يجيب بخلطة مماثلة. حروف وأرقام بدأت كمزحة على الهاتف، واستقرت لغة لإنسان التيه. أعجبته مفردة التيه، فتخيل نفسه جرذا يحفر متاهته الخاصة بسعادة بالغة. لعلها الحياة في إحدى معانيها التي تأبى السير باستقامة.
اضطرب نور الشمعة فانكفأ مجددا على خياله، يعتصر حبكة لقصته الجديدة. فجأة شق السكونَ هدير محرك يقترب. فتح باب القسم بحذر فإذا بسيارة تتوقف وينزل منها بضعة شبان. حيوه بلطف زائد ودعوه لوليمة.
لكني مشغول قليلا. هل يمكن التأجيل لليلة أخرى؟ -
- في الحقيقة نود استشارتك في أمر مهم. لن نأخذ من وقتك الكثير.
تأرجحت بهم سيارة رونو عدة مرات وهي تلتهم الطريق الترابي. مازح السائق قائلا أنه أفضل من شوماخار، ولو شارك في سباقات الفورمولا لكان له شأن آخر. طمأنه أحدهم بأنه قادر على السير فيها ليلا وهو مغمض العينين.
-طمأنك الله بالخير!
أثارت الفرملة سحابة غبار، فتريث قليلا قبل أن ينزل. لاحت من البوابة مائدة بالبهو عليها صنوف الحلوى والشاي. تظاهر بالاحتشام كعادته، فأقسموا أن يدخل أولا، إذ لا أحد غيرهم بالدار. حاول أن يفك رباط حذائه فمنعوه. مد يده إلى طبق حلوى وارتشف من كأس الشاي قبل أن يسأل عن سر هذه الدعوة المستعجلة:
- نريد أن تعلم الإسبانية.
-جميل، وأنا أيضا!
تبادلوا نظرات استغراب قبل أن يسأل أحدهم:
- ولكنك أستاذ!
-صحيح، غير أن الأستاذ لا يُدرس كل لغات العالم. أنا على سبيل المثال أدرّس العربية والفرنسية. بإمكانكم تعلم الفرنسية إن شئتم.
- لكننا نرغب في تعلم الإسبانية.
-ولماذا الإسبانية تحديدا؟
- لأننا..
تبادلوا مرة أخرى نظرات تشي بالتردد في كشف سر خطير، لكن سرعان ما رد أكبرهم سنا:
- في الحقيقة يا أستاذ نحن عازمون على الحريك*. دبّرنا كل شيء، إلا أن الوسيط أخبرنا بضرورة تعلم شيء من الإسبانية للإفلات من قبضة خفر السواحل.
مد أحدهم يده خلف وسادة، وأخرج دليل تعليم الإسبانية للمبتدئين، ومجموعة قصص للأطفال.
- هل يكفيك هذا؟
- سألقي نظرة وأحسم موقفي غدا..
- لن تُخيب رجاءنا بالتأكيد، فأنت ترى أن البلدة لا تصلح إلا مقبرة للموتى. مُجبرون على ركوب الخطر في سبيل طرف د الخبز**.
- والبحر هو الآخر مقبرة.
- لكن ميتة واحدة خير من مرارة العيش بالتقسيط!
ملأوا جيوبه بالفستق، وربتوا على كتفه ليكون لهم سندا في هذا الهروب الأليم.
فتح باب الحجرة، ثم استأذن العفاريت لإضاءة شمعة يحذوها أمل!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*): لفظ دارج يحيل على الهجرة السرية.
(**): لقمة العيش في الاصطلاح الدارج بالمغرب.