كان يمشي بخطى سريعة كأنه على موعد مع أحد. يجر وراءه، كيسا كبيرا يلامس الأرض ويحدث ضجيجا خفيفا والكثير من الغبار. اقترب من حاوية كبيرة بها نفايات كثيرة، دفع جسده النحيل بداخلها كمن وجد كنزا ثمينا ويخاف أن يشاركه أحد. تطاير الذباب من حوله وانزعجت القطط والكلاب التي كانت تستوطن المكان قبله، من حضوره كثور هائج، يبعد بكلتا يديه كل العناصر الخارجية التي ستقاسمه وليمته.
سعيد، شاب وسيم وصاحب أخلاق عالية، يرعى والدته ويعاملها معاملة جيدة ولا يتحمل أن يراها تتألم. لم يكمل تعليمه نظرا للفقر الذي لازمه منذ أن أصبح يافعا. توفي والده إثر حادثة شغل، وضاعت معه كل سبل العيش الكريم. بحيث تنكر صاحب المعمل لوالدته ولم تستطع الحصول على أي تعويض. وكانت تكرر جملة دائما لابنها سعيد لما يلومها على سكوتها على حقهما، " العين بصيرة واليد قصيرة يا بني". اشتغل في عدة حرف، كان عزيز النفس، يرفض التحكم ولا يقبل أية إهانة ولو كان الثمن عمله.
تحول بعدها الى بائع متجول، سيد نفسه، يستيقظ في الصباح الباكر، قبل أن تنهض المدينة من نومها وتفتح النوافذ على مصراعيها، يتجول بين أحياء الميسورين ويفتش في أزبالهم، ولا يرفع رأسه ولا يلتفت يمينا أو يسارا. يدفن رأسه وسط حاوية النفايات، ويعلن عن ثورة بداخلها كأنه يبحث عن نافذة تبدل حاله وتعيد عقارب الزمن للوراء، ويعيش أحلامه التي بترها واقع غير عادل. يضع ما يراه مناسبا له في كيسه. ويستمر هكذا حتى تصير الشمس في كبد السماء، ويكثر الضجيج وتختلط الأصوات. ينسحب بهدوء كما أتى، يجر كيسه وراءه منحني الراس.
حدث هذا في يوم من الأيام الصيفية، كان سعيد كعادته يتجول بين أزبال الميسورين، لا يبتسم ولا يرفع عينيه. تراه مهموما كأنه يحمل بؤس المهمشين على أكتافه. هدفه أمامه وربما كانت عزة نفسه تدفعه لوضع حاجز بينه وبين المارين والقاطنين. كانت خطواته بطيئة والكيس تارة على ظهره وتارة أخرى على الأرض. اذ بصوت قوي ينطلق من الخلف ويزلزل المكان، ويطرد ذلك الصمت الثقيل، ويطلب من سعيد التوقف. التفت وعينيه كلها تساءل وخوف وحيرة. وهو الذي لا يحدث ضجيجا ولا بلبلة. توقف وانتظر في مكانه. سأله الرجل الذي كان يلهث ويجري كأن مصيبة وقعت.
يتكلم الرجل:
- منذ مدة وأنا أراقبك وأنت تتجول قرب منازلنا كل صباح قبل طلوع الشمس.
لم يفهم سعيد شيئا، كأن التجول أصبح ممنوعا وهو لا يدري. تكلم بصوت واثق:
- وهل التجول ممنوع؟
ثار الرجل كأنه كان ينتظر منه أن ينبطح أرضا ويطلب العفو. وقال له واللعاب يتطاير من فمه:
- من يأتي في ذلك الوقت والناس نيام، هدفه غير بريء.
وهنا، انتفض سعيد، كرامته فوق كل اعتبار. رمى كيسه الثقيل أرضا:
- كلامك خطير، وأنا لا أسمح لك أن تشتمني بهذا الشكل.
ازداد غيظ الرجل، وكاد أن يضربه وقال له:
- أمثالك أعرفهم وانا أعرف أهدافكم.
نظر اليه سعيد بكل غضب العالم وكاد أن يرميه أرضا لولا أنه تماسك وحاول ضبط أعصابه وهو يعلم جيدا، أن بركانه الداخلي الذي لم يهمد منذ وفاة والده، سيضيعه وستضيع معه والدته التي تنتظره. ظل الكيس مرميا على الأرض وقال له بكل أدب:
- ماذا تريد مني؟ أنا لم أزعج أحدا ولم أقترب من بيت أحد. أمثالي يا سيدي، يحملون أكياسا كل صباح يتجولون بين أزقتكم الواسعة والجميلة، طمعا في الحصول على شيء يستحق البيع، ويعودون كما أتوا وكل أملهم أن يحصلوا على بعض المال مما جمعوه. وتابع سعيد والغضب ينهش روحه:
- هل هذا ممنوع عندكم؟
ارتبك الرجل وصمت ثم أخذ هاتفه كأنه يطلب أحدا ليسعفه من ورطته. حاول سعيد أخذ كيسه الثقيل، لأنه لم يعد قادرا على ضبط نفسه. فعزة نفسه فوق كل اعتبار خصوصا لما يشعر بأن ماكينة الظلم ترغب في سحقه من جديد. لكن الرجل يرفض ان يتركه يرحل في سلام. بل يعاند ويعامله معاملة السيد لعبده، ويأمره بفتح الكيس.
ثار سعيد، وثار كل الصبر الذي تحمله منذ وفاة والده. ورمى الكيس من جديد، وصار قويا وخفيفا وحرا، تحدى الرجل أن يلمسه. وتطورت الأمور بشكل سريع، وحضر أحدهم يعرف الرجل، وسانده في اتهامه خصوصا لما أشار بأن دراجة ابنه الصغيرة غير موجودة بحديقة بيته. حضرت الشرطة، اقتيد سعيد والكيس لا يفارقه. وظلت صورة والدته تسكنه، وقفص صدره يعلو وينخفض من شدة الغيض ورفض الظلم.
سأله الشرطي: ماذا كنت تفعل هناك؟
قال سعيد بصوت واثق ومنهك: أجمع ما أجده في حاوية النفايات.
أمره الشرطي بفتح الكيس.
استقرت دمعة آتية من زمن بعيد في مآقيه، جلس سعيد على ركبتيه وفتح الكيس، أفرغ محتواه أمامهم، قنينات فارغة، فواكه معفنة، خبز يابس، بعض الكؤوس كبيرة الحجم وبعض المناديل الصغيرة وأشياء أخرى.
التفت الشرطي الى الرجلين صاحبا الشكاية ونظر اليهما مليا دون أن ينطق بكلمة. ارتباك وتوثر على ملامحهما. نطق أحدهما بصوت خافت:
- لو أعطاني الكيس في البداية لما كنا وصلنا الى هنا وكنا أنهينا المشكل.
غادروا مركز الشرطة، ولم يعتذر له أحد على تلك الإهانة. أخذ كيسه ووضعه جانبا والتفت الى الرجلين وقال لهما:
- تهاجماني وتشتماني ومع ذلك أنا الظالم.
قال له الرجل بكل عنف لفظي:
- لم يقع شيء، لقد سرقت لنا بعض الأشياء وكنت أظن أنك ...
أكمل سعيد جملته بكل سخرية وحقد وحزن:
- -أنني السارق؟ لماذا؟ فقط لأنني فقير.
تدخل الرجل الثاني محاولا تهدئة الوضع وقال:
- الفقر ليس عيبا.
هنا ضحك سعيد بشكل هيستيري حتى كاد أن يسقط أرضا وقال لهما بصوت واثق دائما ويحمل بركانا من الغضب والألم:
- يا سيدي الكريم، لو لم يكن الفقر تهمة، لما كلمتني واتهمتني. أنت وصاحبك وكل الناس أمثالكم، يقولون عن أمثالنا بأننا أشرار نأتي لنسرقكم، مع أننا من اطيب خلق الله. مسالمين، نمشي جنب الحيط ولا نرفع الراس، حتى حقوقنا نتركها لكم. ولا نأتي الى أزقتكم الغنية الا من أجل أزبالكم. بعد كل هذا، تظل مطرقتكم الظالمة تدق على رؤوسنا ولا تشبع.
وتابع سعيد وهو يستعد للرحيل:
- لو أن الناس أمثالكم كانوا عادلين، لما وجد الناس أمثالي. ان الكيس هم ثقيل.
ترك الكيس للرجلين وغادر المكان، يسرع الخطوات محاولا ان يصل قبل مغيب الشمس، حتى لا تسأله والدته عن سبب تأخيره ولا تعيد على مسامعه جملتها "العين بصيرة واليد قصيرة" وبان امثالهم ليس لهم الا الصبر والمشي جنب الحيط.