التحقت بالفصل الدراسي باكرا حتى أتمكن من كتابة أمثلة الدرس اللغوي قبل حضور التلاميذ . حجرة هذا الفصل تثير أعصابي فهي مقابلة لمكتب الحراسة العامة وأدنى حركة تقع في القسم يهرع لها طاقم الحراسة بكامله ويقتحم الحجرة بطريقة تشبه فرقة التدخل السريع ،كنت في البداية أظن أنهم يبالغون في أداء الواجب والسهر على انضباط المؤسسة ،إلا أن زميلا أخبرني أن ما يصدر في الفصل من ضجيج يقلق راحتهم ويعكر صفو الهدوء الذي ينعمون به،وكم من مرة طلبوا من رئيس المؤسسة تغيير مكان مكتب الحراسة العامة،وكم فرحت لهذا الطلب فهو رغبة متبادلة بيننا رغم اختلاف الحسابات.
دخل التلاميذ الفصل وشرعوا في نقل الأمثلة على دفاترهم ،فانتهزت فرصة الفراغ الذي أوجد فيه وتوجهت نحو النافذة لأستطلع ما يدور بداخل مكتب الحراسة العامة ، أحسست بغبطة كبيرة وصلت حد الحسد وأنا أشاهد الطاقم الإداري يعيش لحظة استغراق في تصفح الجريدة أو ملء الشبكة المسهمة ومنهم من ذهب بعيدا إلى حد التمايل فوق مقعده منسجما مع ما يسمعه عبر سماعات يضعها في أذنيه.
ما أسعد هذه اللحظات، بينما أنا غارق في هذا الفصل أصرخ وأتراقص بين التلاميذ، أكتب وأمسح، والغبار يثناتر على جسمي كالرذاذ ،فلماذا لا أنعم أنا أيضا بهذه الراحة ، فجل من أعرفهم من أساتذة غيروا وجهتهم نحو الحراسة العامة بينما أنا أتشبث بالتدريس وأدافع عن رسالته النبيلة وكيف أن المعلم كاد أن يكون رسولا، كما أخذت عن الشاعر أحمد شوقي الذي ورطني حتى أصبحت أعتبر ما قاله حقيقة وليس شعرا .
دخلت في أحلام اليقظة متخيلا نفسي فوق كرسي وثير وبجانبي إبريق شاي ومجموعة من الجرائد ورجلاي ممدودتان فوق طاولة المكتب ،وتارة أخرى أتوجه إلى الحاسوب لأمارس لعبة الورق أو الدردشة عبر الانترنيت بعيدا عن شخط التلاميذ وغبار الطباشير وإعياء الوقوف المسترسل .فكرة هائلة لماذا لا أترشح لمنصب الحراسة العامة الشاغر في المؤسسة ؟فأقدميتي المهنية تعطيني امتياز الأولوية .
في فترة الاستراحة توجهت إلى مكتب المدير وتقدمت بترشيحي ، فاستحسن الفكرة وأسند لي المهمة ريثما يتم الحسم فيها بطرقة رسمية رغم اعتراض بعض الذين كانوا قريبين من الظفر بها .
حضرت صباح الغد في حلتي الجديدة أتأبط بعض الجرائد مسرعا الخطى إلى المكتب ،أرد على تحيات وتهاني زملائي بعجالة وأخيرا وصلت المكتب وتقدم الطاقم المساعد للحارس العام يسلم علي بحرارة مريبة وكأنهم يتخلصون من ورطة كانوا يتخبطون فيها بل منهم من أصدر زفرة ارتياح عميقة كمن تخلص من هم ثقيل كان جاثما على صدره ، أخذت مكاني خلف المكتب وشرعت في إعداد الجرائد التي ستحظى بأولوية القراءة بعد دخول التلاميذ إلى فصولهم الدراسية ، وما أن دق الجرس حتى تدفق مجموعة من التلاميذ على مكتب الحراسة العامة منهم المكلف بورقة الغياب ،ومنهم من يطلب ورقة السماح بالدخول،وآخر يريد الترخيص للذهاب إلى المستوصف،ومن يسأل عن بعض أغراضه نسيها البارحة في القسم الذي يدرس به ،حاولت جاهدا توجيه التلاميذ إلى الطاقم الإداري لحل مشاكلهم حتى أنعم بالراحة التي أتشوق إليها بفارغ الصبر . بعد التخلص من التلاميذ حضر أباء وأولياء التلاميذ فمنهم من يطلب شهادة مدرسية مستعجلة ،ومنهم من جاء للتبليغ عن غياب ابنه الطارئ ، ومن جاء بعد أن طلب من ابنه إحضار ولي أمره ،يا إلهي! كيف التخلص من هذا الركام البشري ؟فكل واحد منهم يحتاج إلى حوار خاص، والإنصات إليه مهما كان كلامه خارجا عن الموضوع أو تافها ،أدركت حينها سبب الحفاوة التي خصني بها الطاقم الذي يتقاسم معي مهام الحراسة العامة وحقيقة الزفرة العميقة التي استقبلت بها وأنا أدخل المكتب .
لم أستطع تحمل هذا التوتر لمدة أطول فبادرت أقرب الموظفين إلى مكتبي بالسؤال :
ـ متى سننتهي من هذه الجلبة حتى ننعم بالهدوء الذي ما جئت إلا لأنعم به ؟
ابتسم ابتسامة ساخرة ورد بسخرية أكبر:
ـ عندما يدق جرس منتصف النهار وينسحب جميع التلاميذ بدون طارئ مفاجئ.
ـ ولكن كنت أشاهدكم من نافذة الفصل وأنتم تستمتعون بالراحة التامة!.
ـ تلك كانت استراحة محارب لا ننعم بها إلا في الوقت الضائع ونحاول استغلالها إلى أقصى حد في سباق مع الزمن.فكل مشاكل المؤسسة تصب في الحراسة العامة،فلا نرى إلا تلميذا مريضا أو مصابا في عراك مع زميله ،أو مشاغبا يعرقل جو التحصيل في الفصل ، وكل إجراء يتطلب مجهودا خاصا و.......
تركت زميلي مسترسلا في سرد هموم الحراسة العامة وانسحبت مهرولا إلى السيد مدير المؤسسة لسحب طلب الترشيح لمنصب الحارس العام قبل أن يرسله إلى الجهات المعنية ، وأخذت جدول حصصي قبل أن يوزع على باقي الأساتذة .وأنا أتشوق إلى التلاميذ وهم ينصتون بشغف للمناقشة أو الشرح في هدوء وراحة تامة ، وخلفت المدير ورائي ينظر بعينين جاحظتين مستغربا هذا الانقلاب المفاجئ.