الطائرة تبتعد. تعلو وهي لا تزال تبتعد. بنهم مبرح تلتهم الارتفاعات. بشغف كبير يزدرها الفضاء الذي لا يزال على الدوام يتسع ويتسع. وصلت بلا تعب إلى جوف ثالث سماء.. وارتقت، وظلت تغوص. ثم جاوزتها إلى أقصى طرف في رابع سماء.. وهناك استقرت. مع هذا لم تحترق من شهب ولم تشتعل من نيازك. كفّت عن الغوص في ما بقي فوقها من سماوات بعيدة.. وبات واضحا أن أبوابها بالبعد أوصدت. ثم عن الأبصار اختفت، تماما اختفت.. كأنما إلى غير رجعة. كان المسافرون مزيجا متباعدا. بعضهم أوربيين.. البعض من الأمريكتين.. بعضهم آسيويين. وواحد منهم كان كثير البياض، عيناه ملّوّنتان، منظره يشبه إلى حد كبير أولاد الأجانب. لكنه في الحقيقة فلسطيني بحت، من مدينة القدس، على وجه التحديد من حي الشيخ جراح.. اسمه الرباعي كما هو مكتوب في بطاقة الهوية، سالم عمر صلاح اليبوسي. ومهنته محامي.
جاءت جلسة سالم مريحة وملهبة لحلو ذكرياته ومرّها، منعشة للبارد والساخن من أحاسيسه. كان في أدب عارم يجلس إزاء الطاقة الزجاجية الصغيرة.. التي تشف له عن فضاء كثير منفوش في الآفاق. فور جلوسه هرول إلى عينيه المشغولتين بالنظر إلى هنا، حيث وجوه بعضهم حزينة ملبدة بفراق مالح وحامض، وفيها عبوس.. والتحديق إلى هناك، حيث وجوه كاللقاء منتعشة فيها ابتسام.
ثم بلهفة لملم سالم كل ما في عينيه من بصر.. ورماه محمولا على أجنحة أشواقه في الفضاء الحر الكثير.. الذي كان ينمو ويفيض في الخارج. وترك خاطره يتقافز ويمرح دون أن يأبه أين يطير، ولا يعنيه أين يحط.
حتى إنه لم ينتبه إلى هيئة الحسناء الجالسة إلى جواره، على نفس المقعد.. مع أن منظرها كان زكيا وفيها نعومة خارجة عن المألوف، ووجهها الأشقر رائق بلا نمش ويبين من أول لمحة أنه حاف من أي مكياج. وسهي سالم عن تكليف نفسه أو حتى بصره بأية مهمة.. ولا حتى بمهمة النظر إلى فخذيها المكشوفتين في فجور صارخ مفضوح. وليت الأمر توقف به عند هذا الحد.. إنما الذي يغيظ أكثر، ويجعل الإنسان ينفلق ويلطم خده من شدة الغيظ، أنه لم يخطر أبدا إلى باله أن يتمنى أن يمد شفتيه المشدودتين بإحكام بالغ.. لينال بوسة من شفتيها المتوهجتين الدقيقتين.. ولو حتى بوسة سريعة على الماشي.
وعقله.. الذي اعتاد دائما على التفكير بجد فعال ونشاط.. ها هو الآن سارح مخدر، ولم يخطر له أن يتمحك بها بطريقة ما ليلمسها بيده، أو حتى بأطراف أصابعه الطويلة وقد طواها وضمها باستكانة تحت فكه. وأنفه أيضا كان يغيظ.. وبالفعل صار أمره غريبا محيرا.. آه من أنفه.. كأنه نائم، غافل عن عطرها الذي كان يسري ببذخ جامح وهو يفوح ويدغدغ بحنان شذاه أنوف المسافرين. وكان أنفه أيضا غافلا عما يشيع حوله من عطور تحفل بأنفاس البنات المخلوقات من تراب ناعم جيد التنخيل، لا تقل نعومته عن نعومة بودرة الأطفال الرضع. والمتناثرات حوله كأنهن ورود نسقن بيد فنان مبدع على الكراسي بانتظام عجيب ومدهش. مع كل هذا وغير هذا.. ظل سالم لوحده، متجليا غائرا متوحدا في ذاته كصوفي أوغل في أعماقه ليوغل في نور عشقه الإلهي، وغاص بعيدا وقريبا في ملكوته، الذي انقضى في بطن ماضيه الذي لا يزال إلى الآن بمشقة يمضي، كله لا يزال يمضى. فلم يأخذ بأنفه من الروائح ولو شمة واحدة، فقط واحدة. والركاب من حواليه كانوا كلهم ينظرون حولهم إلى البنات في إمعان ويتلفتون.. وكلهم كانوا بملء أنوفهم يشمّون في صمت رزين وهم فرحين ومرتاحين.
طار سالم بخاطره وحلق به مبتعدا، ومسرعا يسابق الطائرة إلى القدس، إلى مسقط رأسه ورءوس أجداده، إلى حي الشيخ جراح.. وهناك حط عقله كله دفعة واحدة على كل رّجا من أرجاء بيتهم المسروق. هنا غرفة المعيشة، فيها صورة جده المحارب القديم ذي الشوارب المهيبة، المعقوفة بعناية خبير مقتدر، ومبرومة نهاياتها وهي تصعد إلى الأعالي لتوازي حواف خدين منتفخين في عظمة جليلة، لها مهابة قدماء الأموات، معلقة في الوسط بين بروازين كبيرين لا يوجد على زجاجهما غبار.. برواز ضخم لقبة الصخرة المشرفة، وبرواز كبير حوافه مذهبة لآية الكرسي.
هنا بالذات في هذه الغرفة الكبيرة كان يذاكر دروسه، على تلك الطاولة العريضة المغطاة بشرشف أبيض يتدلى منه رفرف احمر. وهناك خرابيش أخته الصغيرة "بثينة"، كانت تمسك بالتباشير الأبيض، وتخط وهي تحدق بعينها الوحيدة على الحيطان الحجرية الملساء العتيقة، تكتب اسمها وكثيرا ما تنسى بالسليقة وضع النقط على حرف وأحيانا على حرفين، وفي أحيان كثيرة كان يسقط منها حرف بأكمله على ما فيه من نقاط وانحناءات.
هنا غرفة النوم، التي تزوج فيها سالم آخر مرة بعد مرور سنة على موت زوجته الأولى. لقد ماتت بعد أن اختنقت وهي حامل بالشهر التاسع، لقد خنقها غاز قنابل الجنود المحتلين، وكانت في ذلك تحاول انتزاع حقها في المرور إلى بيت أهلها القريب من باب المغاربة. وفي زيجته الثانية والأخيرة، عندما تزوج أغلق سالم على نفسه وعروسه الباب وتربسه جيدا منذ أول ليلة من ليالي الدخلة، ولم يفتحه البتة لمدة أسبوعين متتاليين. وكانت والدته بحزن وفرح تناوله الطعام، الدجاج المحشي بالأرز، وصحون مليئة بالشوربة، والسلطات، عبر النافذة الجانبية الصغيرة المطلة على الصالون.
ولم تنته ليلة دخلة سالم.. بل بالأحرى ليالي وأيام دخلته، إلا عندما شب حريق هائل في غرف البيت والصالون، كان قد أشعل فيه النار أحد قدماء المستوطنين وعتاتهم. في ذلك اليوم لم تكن أمه موجودة في الدار، إنما كانت في مشوار مهم إلى طبيب الأسنان كي تنتزع طاحونة العقل. وخرج سالم يومئذ مهرولا بالبلوزة الشباح والكلسون، عندما داهمتهم النيران من كل الجهات وشبت أكثر حين التهمت الستائر، وبدأت بعد هذا ألسنتها بنهم كبير تأكل السجاد التركي المزركش، ثم بسرعة مدت ألسنتها المسعورة إلى الخزانة الخشبية في الصالة. فخرج سالم مندهشا خائفا يحمل بين ذراعية عروسه المذعورة. وكان لارتباكه قد لفها وهي عارية بملاية التخت البيضاء بطريقة تشبه كافولة المواليد، وربما هي إلى حد كبير تشبه الكفن . بعد هذا الحريق بشهرين تسلم والده إخطارا بترك البيت. إخطار غير قابل للنقض صادر من المحكمة العليا الإسرائيلية.. لإسكان عائلة يهودية جديدة قدمت قبل أيام قليلة من بولونيا.
ولسع خاطر سالم سؤال مؤلم كان يؤرقه كثيرا وهو يلسعه ويؤذيه.. أين سيقيم حين يصل إلى القدس؟ أفي الشارع؟ أفي خيمة ينصبها كيفما اتفق؟ أم في بيت من صفيح ينصبه كما يفعل الغجر على قارعة الطريق؟ أم أنه يا ترى سوف يظل هكذا يطوف معذبا منبوذا في هذه الدنيا، وملعونا على الدوام يمضي.. إلى حيث لا يطوف والى حيث لا يمضي؟
أعلنت كابينة قيادة الطائرة عبر سماعات ظاهرة ظن أنها مخفية.. بعد ساعة سوف نهبط في إسرائيل.. في مطار بن غوريون. فأسرع سالم إلى لسانه وتكلم بصوت عريض وهو يدير فمه المفتوح بعشوائية إلى كل الاتجاهات: سنصل إلى فلسطين.. يا سلام.. أنا فعلا بدأت أشم رائحتها.. أنا من زمان نفسي أشمّها.. والله من زمان عن ريحة الزعتر البلدي. واجتاح قلب سالم ذلك النوع من الإحساس المريب الغريب المحير، والذي ليس من العسير على أي أحد مهما أوتي من غباء أن يتصوره.. شعور رجل في غاية الفقر والجوع، عثر فجأة في أرض قفر على أرز مطبوخ وجاهز على أشجاره، أنبته الله للسبيل.. لكن الفقير قصير وكسيح.
وانتبهت ذات الفخذين، جارة سالم الجالسة إلى جواره، وارتابت وهي تنظر في استنكار إلى عاصفة الفرح التي اجتاحت جسده الفارع.. العاصفة التي أطلقت عواطفه من عقالها، وقذفت بلسانه وألقته إلى خارج فمه حين انفعل. وانتفض رأسها، وتشنجت نظراتها المختلسة في عناد شديد، واهتز بدنها كله أيضا ورجف.. كأن شخصا لا تعرفه بصق في وجهها فجأة بلا أي سبب وهرب. كل هذا حصل لها حين ردد سالم في انفعال جامح، كلمات لها وقع السهام في أذنيها.. فلسطين.. القدس.. قبة الصخرة.. زعتر بلدي.
ثم أكملت جارته إدارة عينيها نحوه في حنق مغيظ.. حتى صارت كل نظراتها المدببة المشحوذة تلسع مباشرة وجه سالم وتعيث في ملامحه اضطرابا. وكان وجهه سالم لا يزال تحتل وسطه ابتسامة عفية، قد بدأت تذوب بالتدريج، وعلى مهل، ولم تكن أهدابها قد أفلحت في مغادرة شفتيه تماما.
وطارت جليسته، ذات الفخذين، إلى لسانها وصاحت بصوت أسود ثقيل لم تشفع له رقة أنوثتها فلم تفلح في تبييضه، ولم تشفع له أيضا نعومة شفتيها بتخفيف نبرته ولا حتى بخفضه: اسمها إسرائيل، ما في فلسطين.. في ازرائيل.. جيروزاليم.. فيفا ازرائيل.
بالكاد وقف فمها عن الكلام واختفت ملامحها بسرعة وراء صمتها الهائج المشتعل.. حتى بادرها سالم بصوت منخفض رفيع، لكنه حاد فيه طنين عميق ومدبب..
- سيدتي.. الأوطان أهم من أسمائها.. والإنسان أهم ما في الوطن.
- أنت تريد طردنا من أرض إسرائيل.. ألا يبدو عليّ أنني إسرائيلية.
- ألا ترين أننا اضعف من أن نطردك، أنتم تجرأتم على طردنا. نحن أكثر طيبة من أن نفعل ذلك.
- لقد قتلتم أخي.
- أنتم قتلتم الكثير من أهلي.
- أنتم لستم طيبون، لكنكم ضعفاء. والضعيف لا يصنع السلام، ولا المحبة.
- لكن الضعيف لا يصنع الحرب.. فلا يرتكب جرائمها.
ثم سكت سالم.. وصمتت بدورها ذات الفخذين.. حين جاءت المضيفة توزع كوبات الشاي على المسافرين. وراحت المضيفة لحظتها دون مساعدة من أحد تستخلص نفسها وعربتها التي حشرت في الممر الضيق.. بسبب رجل كهل كان ضخم الجثة وله أكتاف عريضة كأكتاف المصارعين.. وكان أحد الكتفين قد خرج إلى منتصف الممر وبرز. وعلى رأس الكهل قبعة لها حافة عريضة تنفع لأن يقف عليها خروف صومالي. يبدو من انبساط جبهته أنه أمريكي من أصل استرالي. شارك هو الآخر في الكلام، وراح يتحدث موجها أشواك عينيه ومصوبا فمه بدقة إلى أذنيّ سالم، وقال بصوت مرخي لا جد فيه ولا انفعال..
-لماذا القتل.. أعط الطفل اليهودي ورد جوري..بدل القنابل.. لازم يعيش.
- فعلت هذا مع جارنا بالسابق يا سيدي.. مع هذا أخشى أن يقتلني الطفل حين يكبر.. فأموت أكثر.
زمّت ذات الفخذين ما استطاعت أن تزّم من فمها البرم، الذي كان يرشف الشاي بحرص شديد لئلا يصدر عن رشفها أي صوت.. أو حفيف. وكادت أن تتكلم.. لولا العجوز الجالسة في الكرسي الذي أمامهم، والتي تبدو من كبر تقاطيع وجهها وما يحويه من نمّش أنها بريطانية، ولكبر وجهها كانت تبدو لأول وهلة وكأنها بأربعة خدود غير متراصة ومترهلة. أدارت العجوز وجهها على ما فيه من نمش وخدود، متأهبة للحديث.. وحاولت وقد دبّ فيها الحماس إلى الكلام، أن تنفذ برأسها من خلال الفرجة الفاصلة بين الكرسيين، لكن منعها الشحم الكثير المنسدل من تحت أذنيها، وهناك انحشر. ثم وهي تلوح بسبابتها فاهت بفمها المحشور..
- لازم يكون سلام علشان تعيشوا كويس. لازم تعيشوا سوا سوا.. لازم يكون في حب.. الدم مش كويس.
ثم راح سالم يشرح في حزن شديد فيه اضطراب كثير غمّر نبرته، موجها كلامه إلى ذي الأكتاف العريضة، وذات الأربعة خدود، وذات الفخذين.. وكان وهو يعبس يوزع نظراته بينهم بالتساوي. بدأ يشرح لهم ويلهث وهو يسهب في مرة ويقتضب في أخرى.. قصة أخته الصغيرة "بثينة"، التي فقدت عينها اليمنى ذات يوم برصاصة مطاطية وهي تلهو وتنط في باحة المسجد الأقصى.. والأب كان يومها بالداخل يصلي.. وعند الخروج اصطدموا مرة أخرى مع الجنود. مثل ذلك الاصطدام الذي وقع لهم حين قدموا إلى الجامع.. كي يتمكنوا من الإفلات.. لأداء الصلاة.. صلاة الجمعة اليتيمة.
ثم قطعت ذات الفخذين حديثة المعذب. وقالت وهي تتثاءب بعمق: نحن الآن تجمعنا طائرة واحدة.. غرفة معدنية كبيرة معلقة في الفضاء، تحولت بوجودنا جميعا إلى وطن مؤقت للجميع.. يجمعنا إلى ساعة.. أو إلى أقل من ساعة.
في خاطره الساكت، تمنى سالم للحظة أن تنقلب الأمور.. وتصير الذكرى التي في مخه مخزونا للمستقبل الأتي.. بدل أن تظل مخزونا للماضي.. ماضيه غير الآفل وغير القادم. ثم ترك خاطره، ونبر في حسرة إلى ذات الفخذين..
- عذرا سيدتي.. لم تجمّعنا الأرض. لكن جمّعنا الفضاء.
- لأن الفضاء ليس لأحد سلطان عليه.
- لا.. أبدا.. إنما لأن الفضاء لا يوجد فيه لأحد ذكريات، ولا ماض بعيد أو قريب. لا أحد يدفن أمواته يا سيدتي في الفضاء.
انقطع فجأة صخب الحديث الدائر.. إثر مطب هوائي شديد.. بعنف رجّ بناء الطائرة كله. وأحس جميع المسافرين كأن الطائرة هوت بهم وارتطمت في قاع أخدود واسع وسحيق، حفر عميقا جدا في أعالي الفضاء. فتكتمت أنفاس واحتقنت وجوه. وعلى الفور هبّ سالم في خشوع خائف إلى المعوذتين. راح يتمتم وهو يلهث، كأن قلبه لأول مرة في حياته يخشع.. ولأول مرة لسانه يتمتم.
وانتبه سالم بعد هذا إلى نفسه، وكانت ذات الفخذين قد ألقت بنفسها إلى حضنه في لحظة الموت تلك، وبالكاد كان سالم قد أكمل أول معوذة.. وبدأ يتمتم ثاني معوذة ويده تطبطب بلا وعي ولا قصد على ظهرها.. ليبعد عنها شبح موت قادم بكل تأكيد.. وينتزع من قلبها خوف شديد شره مستبد. وكان لحظتها قد نسي إحساسه ولم يدرك أنه هو أيضا يشعر بالخوف.. بل كان يرتعش ويكاد أن يموت من الرعب.
وبعد انتهاء المطب.. ارتخت صدور الراكبين وارتاحت نفوسهم. وراحوا كلهم يتنفسون بعمق، وكانت أنوفهم تلتهم الهواء بنهم شديد، لينالوا بأثر رجعي ويعوضوا ما فاتهم من أنفاس كانت قد تكتمت لحظة وقوع المطبّ. مطبّ صهر أحاسيسهم كلهم، ووحدها كلها فراحت تنسكب دفعة واحدة وتندلق في إنسان واحد حي وميت. وفي ذات الآن أحسوا كلهم بأنهم جميعا إنسانا واحدا موجودا في الطائرة وغير موجود على الأرض.
عندما نزلت الطائرة إلى مدرج المطار، ونزل جميع ركابها مبتسمين. كان سالم يمشي قريبا من ذات الفخذين.. فتبادلا نظرات حادة مشحوذة ومكهربة.. ويقدح منها شرر أحمر.. يتطاير إلى هنا وهناك.
حتى إنه لم ينتبه إلى هيئة الحسناء الجالسة إلى جواره، على نفس المقعد.. مع أن منظرها كان زكيا وفيها نعومة خارجة عن المألوف، ووجهها الأشقر رائق بلا نمش ويبين من أول لمحة أنه حاف من أي مكياج. وسهي سالم عن تكليف نفسه أو حتى بصره بأية مهمة.. ولا حتى بمهمة النظر إلى فخذيها المكشوفتين في فجور صارخ مفضوح. وليت الأمر توقف به عند هذا الحد.. إنما الذي يغيظ أكثر، ويجعل الإنسان ينفلق ويلطم خده من شدة الغيظ، أنه لم يخطر أبدا إلى باله أن يتمنى أن يمد شفتيه المشدودتين بإحكام بالغ.. لينال بوسة من شفتيها المتوهجتين الدقيقتين.. ولو حتى بوسة سريعة على الماشي.
وعقله.. الذي اعتاد دائما على التفكير بجد فعال ونشاط.. ها هو الآن سارح مخدر، ولم يخطر له أن يتمحك بها بطريقة ما ليلمسها بيده، أو حتى بأطراف أصابعه الطويلة وقد طواها وضمها باستكانة تحت فكه. وأنفه أيضا كان يغيظ.. وبالفعل صار أمره غريبا محيرا.. آه من أنفه.. كأنه نائم، غافل عن عطرها الذي كان يسري ببذخ جامح وهو يفوح ويدغدغ بحنان شذاه أنوف المسافرين. وكان أنفه أيضا غافلا عما يشيع حوله من عطور تحفل بأنفاس البنات المخلوقات من تراب ناعم جيد التنخيل، لا تقل نعومته عن نعومة بودرة الأطفال الرضع. والمتناثرات حوله كأنهن ورود نسقن بيد فنان مبدع على الكراسي بانتظام عجيب ومدهش. مع كل هذا وغير هذا.. ظل سالم لوحده، متجليا غائرا متوحدا في ذاته كصوفي أوغل في أعماقه ليوغل في نور عشقه الإلهي، وغاص بعيدا وقريبا في ملكوته، الذي انقضى في بطن ماضيه الذي لا يزال إلى الآن بمشقة يمضي، كله لا يزال يمضى. فلم يأخذ بأنفه من الروائح ولو شمة واحدة، فقط واحدة. والركاب من حواليه كانوا كلهم ينظرون حولهم إلى البنات في إمعان ويتلفتون.. وكلهم كانوا بملء أنوفهم يشمّون في صمت رزين وهم فرحين ومرتاحين.
طار سالم بخاطره وحلق به مبتعدا، ومسرعا يسابق الطائرة إلى القدس، إلى مسقط رأسه ورءوس أجداده، إلى حي الشيخ جراح.. وهناك حط عقله كله دفعة واحدة على كل رّجا من أرجاء بيتهم المسروق. هنا غرفة المعيشة، فيها صورة جده المحارب القديم ذي الشوارب المهيبة، المعقوفة بعناية خبير مقتدر، ومبرومة نهاياتها وهي تصعد إلى الأعالي لتوازي حواف خدين منتفخين في عظمة جليلة، لها مهابة قدماء الأموات، معلقة في الوسط بين بروازين كبيرين لا يوجد على زجاجهما غبار.. برواز ضخم لقبة الصخرة المشرفة، وبرواز كبير حوافه مذهبة لآية الكرسي.
هنا بالذات في هذه الغرفة الكبيرة كان يذاكر دروسه، على تلك الطاولة العريضة المغطاة بشرشف أبيض يتدلى منه رفرف احمر. وهناك خرابيش أخته الصغيرة "بثينة"، كانت تمسك بالتباشير الأبيض، وتخط وهي تحدق بعينها الوحيدة على الحيطان الحجرية الملساء العتيقة، تكتب اسمها وكثيرا ما تنسى بالسليقة وضع النقط على حرف وأحيانا على حرفين، وفي أحيان كثيرة كان يسقط منها حرف بأكمله على ما فيه من نقاط وانحناءات.
هنا غرفة النوم، التي تزوج فيها سالم آخر مرة بعد مرور سنة على موت زوجته الأولى. لقد ماتت بعد أن اختنقت وهي حامل بالشهر التاسع، لقد خنقها غاز قنابل الجنود المحتلين، وكانت في ذلك تحاول انتزاع حقها في المرور إلى بيت أهلها القريب من باب المغاربة. وفي زيجته الثانية والأخيرة، عندما تزوج أغلق سالم على نفسه وعروسه الباب وتربسه جيدا منذ أول ليلة من ليالي الدخلة، ولم يفتحه البتة لمدة أسبوعين متتاليين. وكانت والدته بحزن وفرح تناوله الطعام، الدجاج المحشي بالأرز، وصحون مليئة بالشوربة، والسلطات، عبر النافذة الجانبية الصغيرة المطلة على الصالون.
ولم تنته ليلة دخلة سالم.. بل بالأحرى ليالي وأيام دخلته، إلا عندما شب حريق هائل في غرف البيت والصالون، كان قد أشعل فيه النار أحد قدماء المستوطنين وعتاتهم. في ذلك اليوم لم تكن أمه موجودة في الدار، إنما كانت في مشوار مهم إلى طبيب الأسنان كي تنتزع طاحونة العقل. وخرج سالم يومئذ مهرولا بالبلوزة الشباح والكلسون، عندما داهمتهم النيران من كل الجهات وشبت أكثر حين التهمت الستائر، وبدأت بعد هذا ألسنتها بنهم كبير تأكل السجاد التركي المزركش، ثم بسرعة مدت ألسنتها المسعورة إلى الخزانة الخشبية في الصالة. فخرج سالم مندهشا خائفا يحمل بين ذراعية عروسه المذعورة. وكان لارتباكه قد لفها وهي عارية بملاية التخت البيضاء بطريقة تشبه كافولة المواليد، وربما هي إلى حد كبير تشبه الكفن . بعد هذا الحريق بشهرين تسلم والده إخطارا بترك البيت. إخطار غير قابل للنقض صادر من المحكمة العليا الإسرائيلية.. لإسكان عائلة يهودية جديدة قدمت قبل أيام قليلة من بولونيا.
ولسع خاطر سالم سؤال مؤلم كان يؤرقه كثيرا وهو يلسعه ويؤذيه.. أين سيقيم حين يصل إلى القدس؟ أفي الشارع؟ أفي خيمة ينصبها كيفما اتفق؟ أم في بيت من صفيح ينصبه كما يفعل الغجر على قارعة الطريق؟ أم أنه يا ترى سوف يظل هكذا يطوف معذبا منبوذا في هذه الدنيا، وملعونا على الدوام يمضي.. إلى حيث لا يطوف والى حيث لا يمضي؟
أعلنت كابينة قيادة الطائرة عبر سماعات ظاهرة ظن أنها مخفية.. بعد ساعة سوف نهبط في إسرائيل.. في مطار بن غوريون. فأسرع سالم إلى لسانه وتكلم بصوت عريض وهو يدير فمه المفتوح بعشوائية إلى كل الاتجاهات: سنصل إلى فلسطين.. يا سلام.. أنا فعلا بدأت أشم رائحتها.. أنا من زمان نفسي أشمّها.. والله من زمان عن ريحة الزعتر البلدي. واجتاح قلب سالم ذلك النوع من الإحساس المريب الغريب المحير، والذي ليس من العسير على أي أحد مهما أوتي من غباء أن يتصوره.. شعور رجل في غاية الفقر والجوع، عثر فجأة في أرض قفر على أرز مطبوخ وجاهز على أشجاره، أنبته الله للسبيل.. لكن الفقير قصير وكسيح.
وانتبهت ذات الفخذين، جارة سالم الجالسة إلى جواره، وارتابت وهي تنظر في استنكار إلى عاصفة الفرح التي اجتاحت جسده الفارع.. العاصفة التي أطلقت عواطفه من عقالها، وقذفت بلسانه وألقته إلى خارج فمه حين انفعل. وانتفض رأسها، وتشنجت نظراتها المختلسة في عناد شديد، واهتز بدنها كله أيضا ورجف.. كأن شخصا لا تعرفه بصق في وجهها فجأة بلا أي سبب وهرب. كل هذا حصل لها حين ردد سالم في انفعال جامح، كلمات لها وقع السهام في أذنيها.. فلسطين.. القدس.. قبة الصخرة.. زعتر بلدي.
ثم أكملت جارته إدارة عينيها نحوه في حنق مغيظ.. حتى صارت كل نظراتها المدببة المشحوذة تلسع مباشرة وجه سالم وتعيث في ملامحه اضطرابا. وكان وجهه سالم لا يزال تحتل وسطه ابتسامة عفية، قد بدأت تذوب بالتدريج، وعلى مهل، ولم تكن أهدابها قد أفلحت في مغادرة شفتيه تماما.
وطارت جليسته، ذات الفخذين، إلى لسانها وصاحت بصوت أسود ثقيل لم تشفع له رقة أنوثتها فلم تفلح في تبييضه، ولم تشفع له أيضا نعومة شفتيها بتخفيف نبرته ولا حتى بخفضه: اسمها إسرائيل، ما في فلسطين.. في ازرائيل.. جيروزاليم.. فيفا ازرائيل.
بالكاد وقف فمها عن الكلام واختفت ملامحها بسرعة وراء صمتها الهائج المشتعل.. حتى بادرها سالم بصوت منخفض رفيع، لكنه حاد فيه طنين عميق ومدبب..
- سيدتي.. الأوطان أهم من أسمائها.. والإنسان أهم ما في الوطن.
- أنت تريد طردنا من أرض إسرائيل.. ألا يبدو عليّ أنني إسرائيلية.
- ألا ترين أننا اضعف من أن نطردك، أنتم تجرأتم على طردنا. نحن أكثر طيبة من أن نفعل ذلك.
- لقد قتلتم أخي.
- أنتم قتلتم الكثير من أهلي.
- أنتم لستم طيبون، لكنكم ضعفاء. والضعيف لا يصنع السلام، ولا المحبة.
- لكن الضعيف لا يصنع الحرب.. فلا يرتكب جرائمها.
ثم سكت سالم.. وصمتت بدورها ذات الفخذين.. حين جاءت المضيفة توزع كوبات الشاي على المسافرين. وراحت المضيفة لحظتها دون مساعدة من أحد تستخلص نفسها وعربتها التي حشرت في الممر الضيق.. بسبب رجل كهل كان ضخم الجثة وله أكتاف عريضة كأكتاف المصارعين.. وكان أحد الكتفين قد خرج إلى منتصف الممر وبرز. وعلى رأس الكهل قبعة لها حافة عريضة تنفع لأن يقف عليها خروف صومالي. يبدو من انبساط جبهته أنه أمريكي من أصل استرالي. شارك هو الآخر في الكلام، وراح يتحدث موجها أشواك عينيه ومصوبا فمه بدقة إلى أذنيّ سالم، وقال بصوت مرخي لا جد فيه ولا انفعال..
-لماذا القتل.. أعط الطفل اليهودي ورد جوري..بدل القنابل.. لازم يعيش.
- فعلت هذا مع جارنا بالسابق يا سيدي.. مع هذا أخشى أن يقتلني الطفل حين يكبر.. فأموت أكثر.
زمّت ذات الفخذين ما استطاعت أن تزّم من فمها البرم، الذي كان يرشف الشاي بحرص شديد لئلا يصدر عن رشفها أي صوت.. أو حفيف. وكادت أن تتكلم.. لولا العجوز الجالسة في الكرسي الذي أمامهم، والتي تبدو من كبر تقاطيع وجهها وما يحويه من نمّش أنها بريطانية، ولكبر وجهها كانت تبدو لأول وهلة وكأنها بأربعة خدود غير متراصة ومترهلة. أدارت العجوز وجهها على ما فيه من نمش وخدود، متأهبة للحديث.. وحاولت وقد دبّ فيها الحماس إلى الكلام، أن تنفذ برأسها من خلال الفرجة الفاصلة بين الكرسيين، لكن منعها الشحم الكثير المنسدل من تحت أذنيها، وهناك انحشر. ثم وهي تلوح بسبابتها فاهت بفمها المحشور..
- لازم يكون سلام علشان تعيشوا كويس. لازم تعيشوا سوا سوا.. لازم يكون في حب.. الدم مش كويس.
ثم راح سالم يشرح في حزن شديد فيه اضطراب كثير غمّر نبرته، موجها كلامه إلى ذي الأكتاف العريضة، وذات الأربعة خدود، وذات الفخذين.. وكان وهو يعبس يوزع نظراته بينهم بالتساوي. بدأ يشرح لهم ويلهث وهو يسهب في مرة ويقتضب في أخرى.. قصة أخته الصغيرة "بثينة"، التي فقدت عينها اليمنى ذات يوم برصاصة مطاطية وهي تلهو وتنط في باحة المسجد الأقصى.. والأب كان يومها بالداخل يصلي.. وعند الخروج اصطدموا مرة أخرى مع الجنود. مثل ذلك الاصطدام الذي وقع لهم حين قدموا إلى الجامع.. كي يتمكنوا من الإفلات.. لأداء الصلاة.. صلاة الجمعة اليتيمة.
ثم قطعت ذات الفخذين حديثة المعذب. وقالت وهي تتثاءب بعمق: نحن الآن تجمعنا طائرة واحدة.. غرفة معدنية كبيرة معلقة في الفضاء، تحولت بوجودنا جميعا إلى وطن مؤقت للجميع.. يجمعنا إلى ساعة.. أو إلى أقل من ساعة.
في خاطره الساكت، تمنى سالم للحظة أن تنقلب الأمور.. وتصير الذكرى التي في مخه مخزونا للمستقبل الأتي.. بدل أن تظل مخزونا للماضي.. ماضيه غير الآفل وغير القادم. ثم ترك خاطره، ونبر في حسرة إلى ذات الفخذين..
- عذرا سيدتي.. لم تجمّعنا الأرض. لكن جمّعنا الفضاء.
- لأن الفضاء ليس لأحد سلطان عليه.
- لا.. أبدا.. إنما لأن الفضاء لا يوجد فيه لأحد ذكريات، ولا ماض بعيد أو قريب. لا أحد يدفن أمواته يا سيدتي في الفضاء.
انقطع فجأة صخب الحديث الدائر.. إثر مطب هوائي شديد.. بعنف رجّ بناء الطائرة كله. وأحس جميع المسافرين كأن الطائرة هوت بهم وارتطمت في قاع أخدود واسع وسحيق، حفر عميقا جدا في أعالي الفضاء. فتكتمت أنفاس واحتقنت وجوه. وعلى الفور هبّ سالم في خشوع خائف إلى المعوذتين. راح يتمتم وهو يلهث، كأن قلبه لأول مرة في حياته يخشع.. ولأول مرة لسانه يتمتم.
وانتبه سالم بعد هذا إلى نفسه، وكانت ذات الفخذين قد ألقت بنفسها إلى حضنه في لحظة الموت تلك، وبالكاد كان سالم قد أكمل أول معوذة.. وبدأ يتمتم ثاني معوذة ويده تطبطب بلا وعي ولا قصد على ظهرها.. ليبعد عنها شبح موت قادم بكل تأكيد.. وينتزع من قلبها خوف شديد شره مستبد. وكان لحظتها قد نسي إحساسه ولم يدرك أنه هو أيضا يشعر بالخوف.. بل كان يرتعش ويكاد أن يموت من الرعب.
وبعد انتهاء المطب.. ارتخت صدور الراكبين وارتاحت نفوسهم. وراحوا كلهم يتنفسون بعمق، وكانت أنوفهم تلتهم الهواء بنهم شديد، لينالوا بأثر رجعي ويعوضوا ما فاتهم من أنفاس كانت قد تكتمت لحظة وقوع المطبّ. مطبّ صهر أحاسيسهم كلهم، ووحدها كلها فراحت تنسكب دفعة واحدة وتندلق في إنسان واحد حي وميت. وفي ذات الآن أحسوا كلهم بأنهم جميعا إنسانا واحدا موجودا في الطائرة وغير موجود على الأرض.
عندما نزلت الطائرة إلى مدرج المطار، ونزل جميع ركابها مبتسمين. كان سالم يمشي قريبا من ذات الفخذين.. فتبادلا نظرات حادة مشحوذة ومكهربة.. ويقدح منها شرر أحمر.. يتطاير إلى هنا وهناك.