بين من هدمت حرب تموز بيوتهم، وقذفت بهم الي العراء والشوارع، كانت هناك سيدة وحيدة بملابس الجدات العتيقة الفضفاضة التي تعكس ضعف حالها، تتخذ لها موقعا بين ركام البناية، وتنتظر بغير أن تكون علي عجلة من أمرها، نجاح الباحثين في العثور علي ما يبهجها من بقايا المتاع . لا يرافقها أحد من العائلة في مهمة الانتظار اليومي . تجلس علي كرسي بلاستيكي بني تكفل متطوعون بتأمينه لها، بعد تسوية الأرض تحت قوائم الكرسي مخافة أن يميل ويقع بها، فقواها وجسمها الثقيل لا يسمحان لها بالوقوف، فكيف بالانحناء والتفتيش بين الركام، كما تفعل نسوة نشيطات حولها. ومع الكرسي بمسندين حظيت بزجاجة ماء لمقاومة عطش آب، وبقبعة قماشية شبابية زرقاء اتقاء للشمس الحارقة، ما أن تضعها علي رأسها حتى تخلعها وهي تغالب الضحك، فإذا كانت لم تلبس برنيطة في صباها، فهل ترتديها الآن كما تتساءل مع نفسها . ولو وضعتها علي رأسها ، فكيف ستتعرف الجارات إليها وماذا سيقلن عنها ؟ .
لم يبد عليها كبير قلق، كبقية العائلات اللبنانية المنكوبة، التي تنظر انتشال شيء ما ذي قيمة من حطام البيوت . لقد عثر متطوعون لها في أيام بحث سابقة، علي عدد من النثريات : إبريق بلاستيك أزرق، مكنسة، فردة حذاء نسائي، مريول مطبخ، مرآة مكسورة، مشط، حقيبة مدرسية قديمة، ساعة منبه محطمة، صابونتان، وسادة، حبات بطاطا، صوفة مخلعة، ستارة، ملعقة كبيرة واثنتان صغيرتان، وأشياء من هذا القبيل كانت تبهجها وتتشوق لها، رغم إدراكها أن بعض تلك الأشياء لم تكن صالحة في الأصل للاستعمال، فكيف وقد انضغطت تحت الركام واختلطت بتراب أبيض، ومع ذلك فهي تهفو للعثور علي المزيد .
غير أن أحداً رغم الضيق الذي يتسبب به قيظ آب ومشقة البحث، لم يلجأ لتوجيه ملاحظة أو تعليق يكدرها، سوى ما ظهر من همهمهمة وتبرم بعض الشابات المتطوعات. إذ اكتفوا فقط بإشاحة أبصارهم عنها، كلما بدرت عنها ابتسامة مفاجئة وغير مفهومة، ما أن يفشلوا في العثورعلي شيء ما، فيما هي تواصل التحديق بهم بنظرات زائغة دون أن تدعوهم، لمشاركتها دواعي الابتسام . مخبولة ؟ جيرانها أكدوا للمتطوعين سلامة مداركها، وإن كانت تسرح قليلا وتضيّع في أحيان أخري أي تخونها ذاكرتها، وأنها تعيش وحيدة في شقة صغيرة في الطبقة الأرضية، منذ أن مات عنها زوجها قبل عشرين سنة وأورثها الشقة المتواضعة، وسافر ابنها الوحيد الي كندا ولم يرجع، وأنها تعيش علي إعانات من أقارب بعيدين، ومن جيران لها في البناية وفي بنايات مجاورة . وحين اشتد القصف نجت بجلدها وأوت مثل غيرها، الى مدرسة غير بعيدة خصصت لهذا الغرض .
لقد مضت عشرة أيام علي عمليات تفتيش دؤوبة بين الركام، تولاها متطوعون مع أصحاب البيوت المهدمة . ولم يبق سوى يوم واحد لاختتام المهمة والبدء بإزالة الركام الهائل . وقد حضرت في اليوم التالي يوم الختام مبكرة، في السابعة صباحا كدأبها في الأيام السابقة . لم يعثروا لها في الفرصة الأخيرة علي شيء ذي بال، إذ وجدوا بشكير ودفترا . ولم تستغرب أو تحتج كما فعلت نسوة مكلومات أخريات. تنهدت فقط بعمق، تلاقت وتباعدت ذراعاها غير مرة وبتوتر، دلالة علي أسف أسيان وخيبة مريرة . وحين أنبأوها بتعويض مالي سوف يصرف لها، عن البيت الذي هدمته طائراتهم، اكتفت بالقول : على الله العوض، ولم ُتبدِ ابتهاجاً أو ارتياحاً . وقد فكر من فكر لبرهة، بأنها ربما تكون غنية لا حاجة بها للنقود، غير أن هيئتها الفقيرة ومعرفة جيرانها بحالها كانت تكذب هذه السانحة الطارئة، ثم فارقتها الابتسامة الغريبة التي طبعت محياها طيلة الأيام السابقة، وحل محلها وجوم أشد غرابة، وهي تتأهب بتثاقل لمغادرة المكان دون أن تعي مغادرتها له لآخر مرة، فلم يعد بيتها هناك، وسوف يتم في الغد رفع أنقاض البناية كلها، بكل ما تبقى أو لم يتبق فيها.
لقد افتقدت في تلك الساعات ابنها البعيد، بأكثر ما استوحشت لغيابه أيام القصف، رأته طفلا يستحق احتضانه والتربيت عليه، ورأته رجلاً يُعول عليه لو حضر، واشتاقت لزوجها الحبيب الراحل بعد أن فقدت عبق انفاسه في البيت الذي كان، وساورها خاطر ملحاح بأنه إذا ما رجع أحدهما اليها يوماً، فسيكون الزوج لا الابن . وفي طريق عودتها الى المأوى في مدرسة الصبيان، وقد بدأ المساء يرخي ظلاله، مع رطوبة خانقة ما زالت تطبق علي الجو، قالت لنفسها إنهم حاولوا جهدهم مرة ومرات وكل الأيام، رأتهم بعينيها ولم يعثروا لها علي الشيء الوحيد، الذي تمنته وانتظرته وتلهفت عليه، وما هي متيقنة من وجوده، وقد عذرت المتطوعين لأنهم لم ينتبهوا ولم يميزوا جيدا ثوب عرسها، فالثوب الطويل الخفيف أبيض، وتراب الركام .. جبل التراب أبيض، فكيف لهم أن يلاحظوه. .