كل شيء في مدينتي كان يصرخ بأنك الحلم الجميل الذي يعمّر بالنوم فقط، وسحابة الصيف التي لاتخلد في السماء. كل الجدران المسخومة بالضباب ودخان السيارات، الحبلى بألوان الطائشين تقول -متأخرة-بأنك مجرد فكرة.....لا يمكن أن أشيخ برفقتها. تتصادم الذكريات بشرايين الرئة، فأعجز عن التنفس ويصير التنهّد صعبا.
ولكنني، أتنهد، متعبة من مطاردة البشارات برحم مدينتي العقيم، و وعود السيارات الفارّة. أشيح بنظري عن الجدارن الواهمة ولوحات الإعلانات الكاذبة،.....وتراتيل المتسولين التي تستحضر كل أيقونات العالم السحري لأمعن النظر بكفيّ فقط. كانتا ذات يوم نضرتين،غضتين .....كيف سرقني العمر بكل وقاحة وأنا لا أزال أنتظر البداية؟؟؟
استفزّني السؤال، فحرّكت قدميّ برتابة على رصيف عجوز متخن الجراح والحفر والتجاعيد.....وبرك المطر، حتى أدخل إلى مكان يعد بالدفء.
"لازلت الساذجة التي تصدق الوعود المتكررة"
أخبرت نفسي بابتسامة منفصمة وأنا أمسح بنظري المتعب الطاولات و الجالسين عليها....,والوجوه الفارغة من الملامح، أخترت لنفسي مقعدا في الزاوية يواجه النافذة، كأن لاملامح أختلس النظر إليها بالداخل.
كنت دوما مولعة بالملامح الطافحة بالحياة، الساخرة من الموت.....ولاأحتمل النظر إلى الفارغة منذ أن شهدت أول وهج يخبو بوجه الحياة ليتبع الجسد نحو قبره.
زجاج النافذة كان يرسم لي وحدي أشكالا تتدحرج وتنحني بقطرات البخار، راقبتها -نصف- مستمتعة وأصغيت لهمسها وسط صخب موسيقى ممل بالداخل وضجيج السيارات بالخارج.
ورأيتها، كان شكلها لايختلف عن الأشكال المهرولة على الرصيف العجوز، ولكنها كانت تحمل ملامح. تحول اهتمامي عن ثرثرة قطرات البخار بزجاج النافذة، لأراقبها تتجول بسلة قبعات الصوف الملونة في ذلك الجو الباكي.....تحمل بأحشاء تقاسيمها المتعبة ابتسامة لا تستوعب جدران مديتني الإسمنتية دفئها. تعدل بكفها السمراء ألوان القبعات بالسلة وهي ترنم بلحن لم اسمعه وسط الضجيج، ولكنني تابعت ولادته، ابتسامتها ضاجّة بالحياة وساخرة ....تسخر من الموت ومني ومن العمر الذي سرقني...
وتعلن أنها!!
أجمل مني....ومن حلمي
زينب حميتو.