(فصل من رواية باي العربان، تصدر قريبا عن دار زينب)
عُدْتُ إلى دير الحبراء. صلّيت وأشعلت شموعا أمام الهيكل، وبكيت طويلا من أجل روح أمي التي لا أعرف لها قبرا... لم يتعرّف عليّ أحد في الدّير، فقد شاخ الحبر إسحاق وشحّ بصره، لكنه رحّب بي ككل التونسيّين حين يأتيهم غريب، ثمّ تركت بعض النّقود على قبر الرّبّي نعمان وعدت إلى داري كي أنتظر رجلي حُلُمي حتى يعود من زيارة الباي الذي شرّفه بقبوله في قصره بتوصية من المقيم العام الفرنسي.
أوّل مرة دخلت الدّير كان عشيّة يوم الجمعة، حيث يقام احتفال "السّبّات". يتكرّر الأمر كل جمعة: سيدي يعقوب مساعد الرّبّي إسحاق يمرّ من منزل لآخر يطرق أبواب اليهود، كل مرّة يأتي إلى منزل الجدّة " لكن لا أحد يذهب، لأن جدتي لا تهتم بما يحدث في الأديرة ولا في المساجد.
اليوم ذهبت، أمام الباب المفتوح سمعت همهمة الصلاة، وأحسست بالخشية الطفولية نفسها. تمرّ أمامي نساء يرتدين السّواد، يدخلن القاعة دون أن ينظرن إليّ. عرفت "جوديت" التي تسكن في آخر العطفة تضع شالا أسود على رأسها، وحينما همّت بالدّخول التفتت نحوي وحيّتني بإشارة لطيفة.
بقيت مدّة طويلة في النّاحية الأخرى من الطريق أنظر إلى الباب المفتوح. ثمّ، فجأة، دون أن أدرك السبب قطعت الطريق ودخلت الدّير. كان الظّلام دامسا مثل مغارة، اتّجهت نحو أقرب جدار كأني أريد الاختباء.النّساء أمامي واقفات متّشحات بشالاتهن السّوداء، ولم يهتمّ بي أحد سوى فتاتين التفتتا نحوي. عيون الأطفال السّوداء تلمع بإصرار في الظلام الذي بدأت تتقلّص حدّته. ثم تقدّمت نحوي "سيسيل" وهي تقطن قرب منزل " جوديت"، وقدّمت لي غطاء رأس قائلة: " يجب أن تضعي هذا على رأسك" ! وعادت إلى وسط القاعة الفسيحة أين تتحلّق الفتيات. أحسست أنّي أكثر اطمئنانا منذ غطّيت رأسي ووجهي.
تتحرّك نسوة حول سيدي يعقوب، يضعن المنبر ويُحضرن الماء ويثبّتن الشموع المذهّبة. فجأة اشتعلت الأضواء في مكان ما من القاعة وأدار الجميع وجوههم نحوها. ظهرت نجوم من الضوء الواحدة تلو الأخرى، مضطربة في البدء توشك على الانطفاء، ثم تتجذّر الشعلة وترسل أشعتها الطويلة. تنتقل النّسوة من شمعدان لآخر وكلّ في يدها شمعة ويكبر الضوء. في ذات الوقت سرت همهمة خافتة كأنها غناء تحت الأرض، وبدأت أرى الناس يدخلون القاعة الفسيحة، رجال ونساء وبينهم يدبّ الشيخ إسحاق، تقدّموا إلى وسط القاعة أمام الأنوار وهم يتكلّمون بلغة غريبة. أنظر باندهاش إلى شالاتهم البيضاء التي تصل إلى الوجنات. بتقدّمهم تكبر الأضواء وتعلو الأصوات. ثمّ بدؤوا بالغناء والنّساء المتشحات بالسواد يردّدن وراءهم بأصواتهن الرّقيقة. داخل القاعة تُحدث الأصوات المتعاقبة أنغاما كحفيف الريح، أو المطر تخفت حينا ثم ترتفع من جديد تدوّي في القاعة بين الجدران وترتعش من أثرها أضواء الشموع.
تردّد الفتيات والصّبايا متجهات نحو الأضواء الكلمات الملغزة وهن يؤرجحن أجسامهن أماما ووراء. تختلط رائحة الشّمع بروائح العرق والغناء الموقَّع، ويحدث ما يشبه الدّوار. لم أجرؤ على التحرّك، ولكن دون أن أشعر وجدتني أحرّك صدري إلى الأمام وإلى الوراء متّبعة حركات النسوة من حولي. حاولت أن أقرأ على شفاههنّ الكلمات الغريبة بهذه اللغة الجميلة التي تتحرّك في الأعماق بهدوء وثبات كجدول داخل كهف، كأنّ مقاطعها توقظ الذكريات. يلفّني الدّوار في هذا الغار الفسيح المليء بالأسرار، بينما أنظر إلى الشّموع التي تشعل النجوم في شبه الظلمة. لم أر أبدا مثل هذا النّور، لم أسمع أبدا مثل هذا الغناء. تتصاعد الأصوات، تدوّي، تنخفض ثم تشتعل من جديد. أحيانا ينطلق صوت واحد، وحيدا، صوت امرأة تغنّي جملة طويلة، وتنظر "مسكة" إلى جسدها الملفوف يتحرّك بقوّة أكبر ويديها المنفرجتين والوجه الممدود نحو الشعلة. حينما تنهي جملتها تسري همهمة في الجمع وهم يردّدون عاليا "آمين، آمين". ثم يردّ في ناحية أخرى صوت رجالي يكرّر الكلمات الغريبة، الكلمات التي تشبه الموسيقى. لأول مرّة أعرف معنى الصلاة. لا أعلم كيف حدث ذلك، لكنه كان يقينا: الأصوات الرهيبة أين ينفجر فجأة كل سحر اللغة، أرجحة الأجسام المنتظمة، نجوم الشموع، الظّل الدافئ المعبّأ بالروائح, كان إعصار الكلام.
هنا في هذه الغرفة، وكل شيء سواها ليس له أي أهمّية. لاشيء يمكن أن يرهبني، لا اليتم ولا إهانات الجدّة ولا سخرية الأطفال في الحارة، ولا حتى هؤلاء الفرنسيس الذين انتشروا وسط المدينة كالوباء.
يتأرجح جسمي، ببطء إلى الأمام، إلى الوراء، العينان مصوّبتان نحو الأنوار، وفي أعماقها تتنادى أصوات الرجال والنساء، حادّة، جهورية وهي تقول تلك الكلمات في اللغة الملغزة وبإمكاني أن أقطع الزمن والجبال مثل ذلك العصفور الأسود الذي يخترق السحاب، نحو الشمس.