من سخريات القلم أن تجيد الكتابة عن هموم الآخرين وما تنثره أيامهم في شارع الحظ السيء من بقايا أحلام وأماني ذابلة، لكن حين تغرف من قدر التعاسة مصابا أو نكبة أو جرعة هموم ،فإن هامش الإفصاح يضيق لاسيما إذا كنت ممن يأنفون الإقرار بأن فارس القلم قد يترجل، وأن شباك الهموم لا تميز الخبيث من الطيب !
أمي معلمة،لذا لا أخفيكم ضجري من تقليب صفحات المعجم حتى تولد حكايتي هاته مبرأة من كل خطأ إملائي أو زلة نحو،إلا ما اقتضته المشيئة من سهو.فنحن ،أبناء المعلمين، موصوفون في الذاكرة الطفولية الهشة بالقرب من معين الضاد،والسلامة من التأتأة والفأفأة وعقد اللسان.كنت الابن الثاني الذي ركل أحشاءها في حجرة الدرس،ولم يشأ التريث حتى تتشرب العقول الصغيرة حكمة انفراد الله بالخلق.وفي بلدة لا تبلغ فيها سيارة الإسعاف موقع الحادث إلا بعد انفراج الأزمة،تولى عون حراسة نقلها إلى المركز الصحي على عربة حين بلغ وجع المخاض أشده.أمي تؤمن بأن أداء الواجب ممر سحري إلى السكينة وإلى قلوب صبية يعولون عليك هنا للإفلات من الضنك.يغبطني بعضهم لأني ابن معلمة،فأمثالي ممن يولدون وفي فمهم ملعقة فظة لا يليق بهم أن ينحتوا الصخر لأجل لقمة العيش.وحدي كنت ألوك في الصدر مرارة لا يبدد غيمتها سوى جدة تولت مكرهة دور الحاضنة.
وجدتني، بعد أن لفظني الرحم الدافيء، مكورا على سرير أرجواني بين أب مل من الترقب،وبذل وسعه لرشوة من يبدد لعنة الجغرافيا،وعجوز تلهج دبر كل صلاة بدعوات لرفع الكرب،والرأفة بزوجين لا تجمعهما غير خطوط الهاتف أوعطل متناثرة كوميض برق في ليلة داجية ! تمضي الأيام باردة ورتيبة لا يربك مألوفها غير وجه مدور ومشرب بحمرة خفيفة، يتطلع إلي بلهفة و ُيمطرني قبلا ودموعا ساخنة تبلل قماطي .. ثم يغيب .
أمي معلمة لذا لن تستغربوا إصرارها على أن أحصد علامات جيدة في كل الامتحانات.ليس حبا في المعرفة بكل تأكيد وإنما لجما للهمز واللمز و"الطنز" الذي يجعل منها أضحوكة البلدة.مرت طفولتي يابسة كعود قصب،لاروح فيها ولا شغب. بل حُرمت حتى النزق الخفيف الذي لا يسلم منه كل ابن مهذب.وحين يتملكني ميل جامح إلى العبث كأقراني،بجر القطة من ذيلها أوالركض نصف عار في الساقية المحاذية للمسجد،فإن الأوامر تصدر بحجزي في غرفتي حتى أذعن مجددا للسياج الشائك الذي يفصلني عن أبناء البسطاء! رجاء ..لا يسئ أحدكم الظن أو يبصق على الأرض تشفيا،فأمي لم تخلق من صلصال العجرفة كزميلتها الفاسية التي تشبه عروس قصب،بل هي سليلة الكدح اليومي لعامل بناء آل على نفسه أن يحشر صبيته الأربعة في سلك الوظيفة طوعا أوكرها،إذ لا قيمة للمرء برأيه،ولا صون لماء الوجه إلا بالدخول تحت معطف "المخزن". كل ما في الأمر أيها السادة أن لأمي حساسية مفرطة إزاء معالم "الزلط " الذي حضهم الجد على الفكاك من أسره !
صحوت اليوم على زغرودة وصلوات على حضرة النبي.الأب العائد للتو من العاصمة يفك أزرار قميصه ويسحب من جيب سرواله منديلا ليمسح رقبته.ساورني شعور بالخوف وأنا أترقب ما ستنفرج عنه شفتاه من أنباء.تبسم وهو يفرك أذني بأصابعه ثم همس قائلا : بعد شهر ستنضم أمك إلى قائمة المعلمين بمدرستك، ما رأيك ؟ أليس خبرا سارا ؟
ندت عن الصدر زفرة مغبون ثم رفعت بصري إلى السماء لأهمس بما لا يجدر بالوالد سماعه :
- يا الله ..رجاء .. مهلة أخرى .. لا تسمح لها بالمجيء الآن !