عندما التقيت بها أو بالأحرى رأيتها، كنت انسانا منتهيا، اعتقد ان كل شيئ انتهى، كل ما آمنت به وكلما آمنا به، حتى تلك السخريات التي أطلقناها هزلا بالتنين، أصبحت بدون معنى، كان الوحش في أبهى قوته وقد ظهرت رؤوسه السبعة المسننة والشرر يتطاير منها، من سيجرؤ مجددا على ان يقول لا لهذا المسخ العجيب؟ قويا هائجا مترنحا، بعد ان أتبث الزمن صموده امام جميع العواصف التي خرج منها أقوى مما سبق، وخرج أعداؤه ضعفاء مشتتين مهلهلين، ان الوحش يطلب العذراء الوحيدة التي في قريتنا، وكما يحدث عندما يغادر كل شبان قريتنا مخابئهم واضعين سلاحهم، ستخرج العذراء الفريدة في كامل زينتها، ليس لتهب نفسها طائعة، بل لتقاتل حتى النهاية.
في مثل هذا الزمن عندما تغير الريح اتجاهاتها، وتظهر الغيمة الوحيدة للفلاح الذي سكنت شرايينه خلايا الجفاف القاري، فيجثو على ركبتيه من جديد أمام الاله في الصحراء-الهي لك الحمد على نعمك - متمنيا ان تكون غيمته الوحيدة محملة بالمطر، قطرة واحدة تكفي وبعد ذلك فليعد الجفاف، كما كان منذ الازل، ذرة نور واحدة تكفي وبعد ذلك فليكن العدم.
وفي مثل ذلك الزمن عندما تهتف كل جوارحك-المنفى المنفى- ما عاد يربطنا بهذه الغابات طيورها ولا أزهارها، حتى الدغل الكثيف الذي استعملناه فراشا بعد ان سكرنا وضحكنا حتى النهاية ذات مساء ربيعي، حتى الدغل تراجع ولم يترك وراءه الا أشواكا ونباتات الدفلة والحمض البري الوحيدة القادرة على الصمود في مناخ جاف كهذا.
...............................
كنت أعتقد انني وحيد في ذلك المكان الذي انتقلت اليه حديثا، عملا بنصيحة الطبيب، قال لي بلهجة الآمر المتعاطف:
-ابتعد عن التوتر - لماذا لا تبتعد عن المدينة كلها، أسبوعا أو أسبوعين، أغلق هاتفك و نصيحة أخوية دع الكمبيوتر أيضا- ضحك وأضاف - ربما أطلب منك المستحيل- لم أعقب عليه كنت فقط أنظرالى ضحكته والى اسنانه المتراصة البيضاء ولم أقل كلمة واحدة فقد كنت مشوش التفكير...
..................................
صحبني صديق بعيدا خارج المدينة وسلمني المفتاح وقال لي :
-الشقة رقم 5
وقبل ان يقفل عائدا بسيارته، مددت له يدى من النافذة مسلما و همست:
-هل هذه الشقة كانت معدة لغزواتك؟
- لا، أؤكد لك انها غرفة طاهرة- قال ذلك بسخرية متعمدة ومد لسانه - اكتشفها -
-لست كريستوف كولومبس انا هنا لنقاهة نفسية ليس الا - قلت ذلك وانا أبتعد عن السيارة التي قامت بنصف دورة.
صرخ صديقي من داخل هيكل السيارة حتى يغطي على صوت المحرك الذي كان يهدر:
- لم يكن كريستوف كولومب ليكتشف الكثير من الاشياء حوله، لانها كانت قريبة، لقد أعاد اكتشاف أمريكا لانها كانت بعيدة. انه ولع الانسان بالأشياء التي ليست في متناول يده.
- هل تلمح الى اكتشاف الذات مثلا؟
- لا، ألمح الى اكتشاف شقتي
.....
كانت شقة صغيرة في عمارة من أربع طوابق، تطل على شارع نصف مغلق، غير معد للمرور تتوقف في أحد أطرافه سيارة بوجو حمراء، مصابيحها مهشمة، احد أبوابها يبدو وكأنه تعرض للفتح عنوة بيد فاعل بهدف السرقة، وعند الطرف الاخر كان مفتوحا على شارعين فرعيين لا يمر منهما الناس عادة، كان الحي ساكنا، حملت حقيبتي، وأدرت المفتاح بصعوبة. ولم أكن أستطيع التقدم داخل الشقة الا وانا أضع يدي على انفي، الاتربة والغبار في كل مكان، كانت غرفة مهملة. أشعلت النور و شرعت أكتشف الغرفة، صالون ، كنبة، مصباح أزرق موضوع على طاولة بها رسم لفتاة صغيرة تحمل شيئا بيدها، ساعة كهربائية تومض باللون الاحمر وفيها على سبيل الكمال راديو ترانزيستور.
اجتزت الصالون بأربع خطوات كان التلفاز مغطى بازار بني داكن، وفوقه سفينة خشبية مفككة الى أجزاء صغيرة، الاشرعة، الدفة، الصاري ...
وضعت يدي على زر التشغيل ولم يعمل التلفاز... أحسست بالوحدة أكثر.
أخرجت سيجارة أشعلتها بنزق، ونظرت من النافذة الخلفية للشقة،من بعيد بدت لي في ملابس الحمام البيضاء سيدة تجفف شعرها، كانت تنظر الى شيئ أمامها ، مرآة على الاغلب أو شيئ عاكس لصورتها، كانت تبتسم وهي تمسك بالالة الكهربائية، واستنتجت انها لم تكن وحدها،وفي غفلة عن الزمن ضبطت نفسي وانا أنظر اليها، تراجعت الى الخلف، أخرجت كراسة المدونة خاصتي، نثرت الاقلام على طاولة زجاجية مشدودة الى أعمدة حديدية على شكل أغصان، بريت قلم رصاص، وقلت لنفسي أكتب قصة...
في البدء كانت الكلمة...
صعدت حتى الدرج العشرين وشرعت ألتقط أنفاسي، أكملت ما تبقى وانا أحمل كراسة الملاحظات وأقلاما بشكل عشوائي، عندما وصلت الى السطح كانت المدينة أو على الاقل جزء كبير منها يبدو من فوق، السطوح تعطينا على الاغلب القصة الحقيقية للمنازل أكثر من الواجهات، الناس مازالوا يحتفظون بذكرياتهم فوق سطوحهم المرفعة بالزنك أو ذلك القرميد الابيض المتعرج، دراجات هوائية قديمة، ملابس كرات، أطللت من العمارة في الجهة المقابلة ورأيتها
ظهرت النورسة الوحيدة على الشاطئ،النبتة الوحيدة المزهرة في هاته البركة الاسنة وكما سيحدث فجأة ستشرق الشمس من جديد، وسينساب دفؤها شيئا فشيئا، الى الجوارح و الشرايين و النسغ والذرات، ستتسلل أشعتها لتغمر الانهار والوديان سينهض التاريخ وتتحرك الجغرافيا، وكانت البداية.
وككل البدايات ستنتابك انت الذي هناك، رغبة طفولية في البكاء، ان تجري بعيدا بعيدا لتخترق سديم المدينة وتخبر الناس والعالم، انه توق الحب في مدينة لا تعرف الحب الا لماما. المدينة لا تظهر الحب بل القسوة والعجرفة، وهي تفعل هكذا لتعيش وتستمر. المدينة لا تعرف الحب الا مدفوع الثمن مقدما. ادفع وأعشق كما تريد.
كانت امامي في البناية المقابلة في ثوب منزلي رسمت عليه أزهار صغيرة وعلى رأسها تضع شالا أخضر غامقا بدا انها شدته الى شعرها في أخر لحظة ، كانت على السطح تطعم الحمامات، كنت أسمع همسها اليهن كان الحي هادئا هادئا، وكم تمنيت لو أكون رساما، فأرسم هاته المتوحدة الفريدة في غفلة منها. طارت حمامة باتجاهي فرفعت عينيها الي، رمقتني ورجعت مسرعة من حيث أتت.
هل يمكن ان يظهر العشب الاخضر ويختفي فجأة، يتبدد كما تتبدد موجة محيطية متكسرة على الشاطئ؟
عدت الى الوراء باكتشاف. أنا لست وحيدا في هذا المكان، هذا أول اكتشاف لي، مددت عنقي مرة أخرى وكنت أستطيع ان أرى الحمامات يلتقطن طعامهن لامباليات. تسمرت الى الحائط منتظرة أن تظهر مرة أخرى.
وكما يسير الغريب في غابات مجهولة، عادت للسطح تتعثر في خطواتها وبيدها اناء به ماء .
ورفعت نظرها الي بثثاقل متعمد . كانت تريد ان ترى نظرتي اليها... ربما.
وفي الغد وبعد الغد... مضت أٍربعة أيام، وأصبحت معتادة علي.
كنا غريبين على المكان أو على الاقل هذا الوصف صحيح من جانبي، أصبحت معتادا عليها . بل وحفظت عاداتها. عند الحادية عشر صباحا تصعد الى السطح تضع الزوان في القصبة المجوفة الكبيرة، بعدها تفرك المكان بمكنستها بعد ان تكون قد رشت القليل من الماء، تنزل ثم تعود حاملة معها الماء للحمامات . تزيل ملابس من على السلك الحديدي. ثم تنزل ولا تعود الا في الغد.
في اليوم الخامس أضافت عادة جديدة.
ابتسمت لي.
في البدء كانت الاشارة.
كنا نتحدث صامتين، بعينين سوداوين كانت تتبع حركاتي وان أقوم بحركات كاذبة من قلمي على ورقة بيضاء حتى أجعلها تصدق أني أرسمها. كانت سعيدة بمراقبتي لها . وفي الحال ومضت في ذهني فكرة.
انتزعت ورقة صغيرة و كتبت عليها (ما اسمك؟) ولففتها بحجر. وقذفت بالحجر في اتجاهها.تلقفت الورقة بسرعة، تورات عن الانظار. وعادت لتقذفني بحجر أخر، فتحت الرسالة:
(انا أسمي نجمــــــــــــــــــــــــــة)
وهكذا بدأنا ...