حين لامستُ نصوص المبدع الصحفي عبد الكريم ساورة السردية ، انسخلتْ من ذاكرتي تماما ، سمة ذاك الصحفي الذي كان ينهال على مقاماته بمهماز لغوي مباشر ، لتتمثل أمامي شخصية أخرى من صنف آخر ، مبدع رشَمَ جنس السرد القصصي ((ق.ق .ج)) باحترافية كبيرة ، تشهد عليها نصوصه وهي تؤدي اليمين بأمانة : كتجربة كبيرة تقلّدَ مشعلَها المبدع عبد الكريم ساورة في جانب من الحياة ، والعلاقة بالعالم بكل ماتعنيه المغامرة السردية من كلمة ، وذلك بتحويل كائناته والعلاقات في ما بينها وما تهْدر بها من تنافرات إلى صور بليغة في وصف راق ، انطلاقا من سعة الخيا ل والاحترافية في الصياغة والحنكة والدقة في اختيار التيمات ، والمراس في انتقاء الألفاظ المناسبة والجميلة ، حيث لملمَ الخلطة بجميع عناصرها و بهاراتها في عجنة فنية واحدة ، لينصهر بعضها ببعض وتتدفق شلالا سرديا فاتنا ، يغري بمتعته القارئ من أول لمسة بما يهُبّ عليه من نسائم الخيال الرحب ، وما يخلخل به مبدعنا من التفاصيل اليومية ، ومايَهَبُه للذات الكاتبة من بعد تصوري ، وهي تتفرس الأحقاب الزمانية بعلامات الوجود والكائنات على محك التساؤل والاستفسار ، من أجل الكشف والاستبصار ، وسبْر غور الأشياء ، فتفجرت النصوص محملة بالرمزي والإيحائي آهِليْن بتراسلات وجودية ، يشخص فيها مبدعنا المَراحل التي تمُر منها وضعية المرأة كإنسان ،وكيف كانت تعيش على تبعيتها للرجل ، كمُعيلها الوحيد رغم ماتسديه إلى جانبه من خدمات شاقة ، وكيف أثبتت وجودها كإنسان تتقاسم معه نفس المشاعر والإحساس ، ولما بيّنت أن لها قدرات وطاقات يمكن أن تشاركه بها بنجاح إلى جانبه وفي أغلب الميادين ، سقطت على رأسه الصاعقة ، ولم يتقبل الأمر ، فانتشرت بعض الخرافات التي ترى أن وضعية المرأة هي البيت ...
فالمبدع هنا يسلط الضوء على أفكار ذكورية ظلامية تستند على التمييز ، وتكريس دونية المرأة ، وبقدر ما تدافع الذات المبدعة عن المرأة ، بقدر ما تسجل عليها بعض الكبوات والمغامرات ، التي يتِم بها اصطياد الرجل وإسقاطه في كمينها المحكم ، وماتراه في الزواج امن استقرار نفسي.. والضياع تماما إن فاتها الركب ... تشخيص من منظور الذات المبدعة الشخصي ليس بنية احتقار المرأة أو الإطاحة بها ، وإنما لإبراز إلى أي حد تلاشت في زماننا القيَم ، وانقلبت الموازين ..ومن المرأة إلى الطفل حيث تنقر الذات المبدعة بجرأة جناح الطفولة ، ويحرك بحيرتها الساكنة بجرأة ، وما تترسب فيها من دنس يمس كرامة الطفل ويجترح براءته بهمجية شرسة ، حيث نخر مبدعنا المسكوت عنه بصريح العبارة ، ليلفت اهتمام القارئ إلى أهمية مثل هذه المواضيع التي تُغض عنها الأبصارُ ، رغم أنها تلحق أضرارا وأزمات نفسية بالأطفال ، فيفقدون الثقة في أنفسهم ،ويكتنفهم الرعب مدى حياتهم .. تشخيص قوي وفاضح لقضايا الطفولة وإثارة عواقبها من أجل وضع حد لعلاجها بأمانة ..
ويعتصرالمبدع أسى ، ليس من أجل المراة والطفل فحسب بل ومن أجل الإنسانية برمتها ،خاصة المظلومين الذين يرزحون تحت نير الفساد ، ويعانون الأمرّين تحت جبروت الطغاة ،وإذا ما حاولوا انتزاع حقوقهم بالشجب والاحتجاج يتعرضون لأبشع الوسائل بطشا وعنفا ، وهذا يبين بالمباشر مدى ذوبان الذات المبدعة في جسد الإنسان مهما كان نوعه ،ومشاركتها همومه وقضاياه ، وهذا هو سر الإبداع كنتاج لاحتكاك الذات المبدعة مع مصير الإنسان وما ترغب فيه وتود من خير له ،وغياب الأدوات الممكنة لتحقيق المرجو ...
في ظل هذا الواقع العصي ، والحصار المطنب من قبل العتاة الذين يتسابقون على مناصب الأرائك والكراسي بنرجسية مطلقة ، تسحق بالكاد مصالح المواطنين ، تنفجر القريحة بسلسلة من العطاء الأدبي الجميل كوسيلة إبراء من علة سرطانية مقلقة ..
فكما حفر المبدع في اليومي فإن الذكرى ماتلبث أن تدق جيوب الذاكرة أحيانا ، لتستنهض الماضي بطزاجته ، وحين تعاكسه المشتهيات وتسْوَدّ الدنيا في عينيه ، يتملاّه الجمود ويَخِرّ له ساجدا،ليستعيد قواه لاحقا ...
ومن قضايا الإنسان إلى قضايا الأمة العربية وعلى رأسهم العراق ، وما لحق به من تمزقات ، ألحقت شروخات واسعة بالجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية والاستقرارية ، حيث أصبح يعيش أوضاعا كابوسية قاتلة ، والضمائر العربية تتمطى في أقبية باردة لايضيرها أمر، فتسكب الذات المبدعة شعلة غضب على ضمير (( النحن )) لتكشف الغطاء عن لغة الإشارات والأوامر التي نعيش تحت أعتابها منزوعي الحريات ، خارج دائرة القرارات للتلاعب بمصائرنا ؛ هي نفحة نضالية مغروسة في ضلع مبدعنا حتى النسغ الأخير من الإحساس ، يشحَن بها تراسلاته الوجدانية ،ليصبّها خمرا في كؤوس قرائه لأجل نشر ثقافة الوعي بالأفكار الرجعية المهيمنة ، والتوجهات الظلامية التي تفضي بنا إلى أعمق الهاويات ، ولاتنشر في أحواضنا غير البؤس واللبس ، والفقر والقهر... لذا لن يبُحّ للمبدع صوت ، ولن يجفّ له قلم ، بل سيواصل مسير الصرخة عاليا حتى يأتي يومه المنشود ((لن نقبل بملكية السور ولا بوشمه في ذاكرة أجيالنا، إنه وهم ثقيل وخرقة مثقوبة صنعها أعداء تاريخنا الجليل)).
تعيش الذات المبدعة صراعا قويا بين أوضاع مزرية وأمل جامح للتغيير ، وحين لاتسعفها اللحظات ، تفر من خيمة الاحتراق واللوعة والقلق والتوتر إلىصرح الإبداع ، لتصُب جام الانفعال في الكلمة النبيلة/ الإبداع القصصي ، كملاذ فاتن تستجدي به بردا وسلاما ، لأن الإبداع هو الإيوان السحري ، الذي ترمّم فيه الذات أسوارها المهترئة ، والبلسم الشافي لما تلقته من خدوش غائرة عصية الإبراء .. فانثالت قصص راقية بلغة فريدة ، طرزها المبدع بالخرافي والأسطوري والتاريخي واليومي ، والسلفي والحاضر ، مما يدل على أن مبدعنا عبد الكريم ،له جعبة ممتلئة من المعارف الثقافية ، نهلها من ينابيع مختلفة و مشارب متعددة ، تتجاسر فيها ثقافة الأجداد ،وتجارب الآخرين ، وما له من حنكة ومراس ، فانبثقت تجربة مضطلعة تواقة إلى الأمام بالبحث عن الجديد .. والإتيان بالمدهش ...
وقد طعّم جل نصوصه بضمير المخاطب ، بقصد منه أو بغيره ، كإشارة نوعيية إلى ((الأنت )) ليشارك المتلقي تقاسيم مشاعره وإحساساته ، حيث أطلق العنان للغة لتُطلق إمكاناتها فتلامس الجانب الشعري في أبعد تجلياته ،وبأوفر خصائصه ، فاستأصلت النصوص الحاجز المنتصب بين الشعر النثري والنثرالشعري ،الذي طالما لهج برطانه العديد من النقاد لترسيخه ، فأغلقت تلك الفجوة الفارقة بين السرد والشعر ، لتنبثق النصوص نَُتَفا وشرائح مقدودة من السرد ، لكنها تنطلق من ينابيع في سفوح عبر أشياء ووقائع وأحداث وحواش ، تنجلي بعمق شعري ، (( تعشقين الطيور بلون النار، لم تعد شهيتك مفتوحة لأشجار البلوط) حيث تناسلت اللغة بالفراشات والعصافير وأسراب من النحل ، ترفل في مجازات وصور ملونة ، مشفرة مبطنة ،تتنامى بدلالات وتستنبت بمعانٍ ، فتنمو وتتجدد وتحيا في كل قراءة ...فالتجربة إذا لم تأت من فراغ ، وإنما هي عصارة بؤرة مشتعلة نتج عنه مايلي :
1 ــ الذات مشروخة بإيقاعها المزلزل وإحساسها الرهيب أثناء ملامستها للواقع ووخزها بنصاله الحادة الساخنة ...
2 ـــ تجاوب الذات لهذا الاهتزاز بالقلق والتأ مل ..
3 ــ التعبير عن هذه الحالة بما تملكه الذات من طاقات لغوية وحنكة في الصياغة و التركيب ..
فتقطرت نصوص فريدة من الطراز الرفيع كعصارة ورشاح زلاليين ، الغرض منها بالدرجة الأولى ترميم شقوق الذات ،وإعادة الاطمئنان إليها ، قبل ترصيف النصوص في خانة الجب القصصي ،التي ستوقظ مبدعنا عبد الكريم ساورة من غفوته ، ويعي تمام الوعي أن تجربته أثمرت نصوصا سردية متميزة تعتبر قيمة مضافة إلى مكتبتنا المغربية والعربية ..
وحتى أختم فنصوص المبدع الصحفي عبد الكريم ساورة عميقة متعددة الجذوع والأوراق ،غائرة في تربة خصبة من الثقافة والتعدد المعرفي ، لملمها كاتبنا من عدة مناهل ومشارب تناسل فيها اليومي بالسالف ، والآني بالقصي ، أكسبتها منطلقات مختلفة ،ونهايات مربكة تستدعي أكثر من قراءة ، وأكثر من تأويل من قبل قارئ مُحنّك له دربة في استنطاق مكنونها ، والإنصات إلى صخبها ، والحفر في تضاريسها للتنقيب عن مناجم كنوزها ، وملامسة بؤرة الإشعاع الجمالي ، وما تصطخب به اللغة الشفيفة التي تزمجر بدلالات ومعاني ملفوفة في أسلوب تترصف فيه الكلمات كحبات عقد ماسي ...