حين انتهى عبد القادر من التهام البيضة الرابعة شعر بالشك ، لكنه اكتفى بغسل فمه و دعك أسنانه بالسواك ، ثم ارتدى فوقيته السوداء ، و لم ينس أن يتطيب بالمسك كعادته . و قبل أن ينتعل الصندل ارتفع صوت فرقعة ممزوجة بأزيز طويل ، فتملكه شك جارف ، لكن أنفه لم يفلح في رصد أية رائحة مريبة ، و تساءل إن كانت كل الفرقعات لها رائحة ، و حتى يغلق الباب على الشيطان قرر تجديد الوضوء.
مضى إلى المسجد تحت شمس ظهيرة صيفية ، و كان عقله محشوا بشكوك تقتحم النوافذ دون استئذان ، أخذ يداعب لحيته الكثيفة ، و يفكر في هذه المشكلة التي ما فتئت تنغص عليه حياته منذ شهور . لام علماء الأمة لأنهم لم يهتموا لأمرها بالشكل الذي يليق ، و إن كانوا قد بذلوا جهدا عظيما في تأليف موسوعات فقهية حول الغازات المعوية . خطرت له فكرة مفاجئة : « ماذا لو تم اختراع جهاز علمي للتحقق من صلاحية الوضوء ، و إذا تسرب شيء من الفجوة الخبيثة بدأ الجهاز في الاستغفار ». راقته الفكرة لكنه أدرك سريعا سخافتها فارتسمت على وجهه ابتسامة بلهاء ، و لم يلحظ تلك النظرات الساخرة في عيون التلاميذ القادمين من الثانوية ، كانوا في مثل سنه تقريبا ، لكن لحيته الكثيفة جعلته يبدو أكبر منهم بأعوام .
كانت أصوات الباعة تتعالى قبالة المسجد ، مختلطة بنهيق حمار يجر عربة للخضر. مشى عبد القادر وسط الزحام ، محاولا بكل حرص و حذر ألا يلامس أجساد النساء . انتبه من شروده عبر سؤال روتيني عن سعر البيض ، ثم أسرع الخطى دون انتظار الرد كأنه ندم على السؤال . و زاغ بصره لما رأى تلك المرأة الواقفة قبالة عربة الخيار ، و انزلقت نظراته تلقائيا عبر جلبابها الصيفي إلى فتحة الصدر ، فأبعد وجهه في اتجاه آخر لاعنا أم إبليس ، لكن خياله المنفلت ظل متشبثا بالصورة لبعض الوقت ، فانتفخ شيء ما و نبض .
وقف مترددا عاجزا عن اجتياز العتبة ، ظنونه المتلاطمة جعلته يتصلب في مكانه كنخلة حجازية هرمة ، فربما وقع تسرب و لم ينتبه إليه ، ظل يحملق في الفراغ تائها بين احتمالات شتى ، و بدلا من الدخول قرر أن يجدد الوضوء و يصبر على الابتلاء كما ينبغي لرجل مؤمن ..
بدا له المرحاض محشوا بضجيج يتصدع له الرأس، أما الرائحة العفنة فجعلته يشعر بالغثيان . سلم على إخوانه في الجماعة و استعار من أحدهم قطعة مسك ، و قبل أن يلصقها على أنفه أخذ يصرخ بقرف :
- « افتحوا النوافذ ..صبوا الماء يا عباد الله » .
فقام له رجل عجوز و رد باستنكار:
- « عيبنا واحد يا بولحية .. أم أنك لا تأكل النعمة و لا يخرج من تحتك شيء !؟ » .
توترت الأعصاب و مد العجوز قبضته ، فصاح الإخوان محذرين ، عندئذ تدخل الناس لمنع اندلاع الغزوة و عاتبوا عبد القادر على نحو ودي ، و طالبوه بتقبيل رأس العجوز ، فأوشك أن يستجيب ، لكنه تراجع حين رأى عبوسا على وجوه الإخوان .
لم يكن في وسعه أن يتحمل الحرارة و لا الذباب الذي بدا معربدا في المكان ، راحت تظهر عليه أمارات الانزعاج من الازدحام و الصراع على الدور ، و من لزوجة المخاط على الأرضية المبللة . أدرك أن معدته سوف تصرخ كالبالوعة إذا لم يخرج إلى الهواء ، و لم يجد حلا سوى الرجوع إلى البيت و هو لا يكف عن البصق ... سوف يتوضأ بعد الاستنجاء مرتلا سورة الناس كعادته ، ثم يتطيب بالمسك محاولا دون جدوى أن يفر من هواجسه المتناسلة .
كان ينظر إلى الصف بعين ساخطة ، و بدا كأن شيئا ما غير مضبوط ، و قبل أن يستدير الإمام أخذ عبد القادر ينهر الذي عن يمينه و يطالبه بتسوية قدميه على نحو أكثر دقة ، ثم لاحظ أن في الصف الأمامي فجوة تكفي لعبور فأر كامل ، و بدافع من حرصه على تطبيق السنة ، تجشأ و أرغم الرجلين على الالتصاق منعا لمرور الشيطان ، لكن أحدهما اعترض بشدة وبدا كأنه يريد العراك ، فلم يجد عبد القادر بدا من الانحشار بينهما عنوة ، و لم يكترث لتلك التكشيرة الساخطة في وجه الرجل الذي انسحب مغمغما إلى الصف الخلفي .
رغم الصمت المطبق لم يستطع أن يخشع في قراءة الفاتحة ، أرهقته هواجسه الذبابية ، و راحت تتقافز في ذهنه على نحو اجتراري فأوشك أن يدنو من إفلات اللجام ، و هكذا ظل يتجشأ مرارا و يتساءل إن كان قد فعلها في الطريق إلى المسجد دون أن يشعر ، و بحركة متكررة كان يقبض عضلات الحوض على سبيل الاحتياط . لما وضع جبهته على الأرض داهمته رائحة جوارب عفنة ، و تطفلت على مخيلته صورة المرأة ، فاستعاذ بالله من الشيطان ثم استغفر ، وكاد أن يبكي لكنه تماسك ، و حتى يفر من الذباب المتسكع في ذهنه ، أخرج منديلا ورقيا و نشف العرق ...
سرعان ما أحس بشيء يزحف عبر أمعائه ببطء ، ليصل أخيرا إلى حافة المنفذ و يشرع في الطرق بإلحاح شديد ، شعر به على وشك الانفلات ، فأطبق عضلات الحوض بقوة ، و قال لنفسه مشجعا : « لابد من الصمود » ، لكن الحظ عاكسه حين هم بالركوع ، و استطاع أن يسمع الفرقعة و يشم الرائحة عن يقين ، وهذا الأمر جعله يشعر بالندم على التهام تلك الكمية من البيض المسلوق ، و بعد أن أطلق زفرة بركانية عميقة استدار فجأة و أخذ يشق الصفوف.
على الجدار الخارجي أسند ظهره و تهاوى ببطء ، اعتراه إحساس بالإنهاك وقلة الحيلة ، و تأكد له بالجزم أن الشيطان يحاول فتنته في دينه. ما لبث أن استيقظ شيء ما في أعماقه ، و في نظراته الزائغة أوشكت أن تهب العاصفة. استفزته النساء بثيابهن الملتصقة على أجسادهن الدسمة و هن واقفات قبالة عربات الخضر ، واحدة تمسك بجزرة و أخرى بخيارة ، و بلغ غيظه نقطة الانفجار حين وقعت عيناه على بائع البيض ، فانتفض قائما بشكل مباغت و هجم على العربة مثلما يفعل ثور الكوريدا ، هرول البائع مذعورا وتركه يلقي بالبيض على الفراغ صوب كائن خفي لا يراه سواه ، و دون أن يدري أخذت تفلت من لسانه شتائم فظة فتضاعفت عصبيته ، و أيقن أنه صار دمية بلاستكية تحركها خيوط خفية . في تلك اللحظة كان بإمكانه أن يرى إخوانه يخرجون من المسجد مهرولين.
بدوا غاضبين جدا ، تسلحوا بالعصي و الحجارة ثم تحلقوا حوله وأعينهم تفتش في كل الاتجاهات عن شيء مجهول ، سأله كبيرهم : « أين العدو ؟ » ، عندئذ أحس عبد القادر بالقهر و برغبة في البكاء ، فأشار بسبابته إلى صدره و قال بصوت مرتجف : « إنه هنا يا إخواني .. » ، تبادلوا نظرات خالية من الدهشة قبل أن يأخذوه إلى الداخل ، بدا شارد الذهن حين مددوه على الأرض ، و داهمته حالة تشبه النعاس ، عيناه تائهتان في زمكان آخر ، كأنه يرى ما لا يراه إلا كائن ناهق . شرع كبيرهم في تلاوة سورة الجن بصوت حشاش سابق ، بينما كان أحدهم يحاول إخراج العدو بعصا غليظة ، و راح العالم يتلاشى شيئا فشيئا.
غدت الرؤية ضبابية و تحولت الصورة إلى شظايا متراقصة ، و بعد هنيهة ، كانت الراية السوداء مستلمة لمغازلة ريح وحشية ، سيوف تداعب الرقاب ، و دماء تسيل على الرمال ، تعالت الصيحات بالتكبير ، ثم تبدل المشهد في ومضة خاطفة كأن الزمن لم يكن إلا كذبة دنيوية . من بين الأشجار أطلت صبية لم تر الدنيا مثيلا لجسدها البض ، و من فوق الأغصان تدلت رمانتان شهيتان أسالتا اللعاب في جوف الفم الظمآن . ارتمت الصبية في نهر خمري فارتمى خلفها كذئب صائم ، عندئذ فرت الدماء من كل تضاريس الجسد لتحط رحالها في ذروة الجبل الشاهق .