أطلق عليه النار فندت عنه آهة سرعان ما خفتت ليسلم خده للإسفلت .
اشتباه ؟
ربما،لكن لغة محاضر الشرطة لا تسعفه ليلا ليخلد إلى النوم صافي الذهن كأي بريء في هذه الزنزانة الأبدية . تلك الحقيقة الموجعة التي تسربلت ساعتها بظلمة دامسة ,في ليلة شاتية بُعيد صلاة العشاء, تؤرق مضجعه.لم يكن الأمر اشتباها بل رغبة دفينة في "تنظيف " الحي من الملتحين أمثاله! هذا الشيخ الذي ما إن وطئت أقدامه مسجد الحي حتى أومضت في العقول والأرواح شعلة اليقظة.
للكينونة سحرها,وحين يطمئن الآدمي إلى تعليل ما لسر الوجود ,وحكمة الباري من تتابع الفصول الأربعة بين الرحم والقبر، فإن جذوة في الروح تتقد,ويحملك الذي كان حتى الأمس القريب مخدرا وملقى على ناصية الدرب كسقط متاع ,على احترام حقه في الظهور وصنع الحدث !
كأن الحي لم يشهد ليالي خمر وأنس، ولم تعرف زواياه المظلمة قطفا مستعرا للفاكهة المحرمة ! بئست الذاكرة التي توشك أن تلقي به في هوة النسيان كما ألقت بخلان الأمس القريب. يرقبهم بين الفينة والأخرى من نافذة غرفته.هاهم اللحظة يسيرون خلف الشيخ بتؤدة بينما تعبث أصابعهم بحبات المسبحة.
- الأوغاد ! لولا رفقة الصبا لتعفنت أجسادهم في الزنازين .أسارع دوما إلى انتشال أحدهم من فضيحة أو دين تعذر سداده, ولو علمت أنهم سيديرون لي قفاهم لما أفلت أحدهم من جز رأسه كخروف وإلقائه في حفرة!
كاد أن يبصق شامتا لولا غسيل "أمي يامنة " في شرفة الطابق السفلي.عجوز ستينية تجود بين حين وآخر بطبق فاصوليا أو أقراص خبز ساخنة تحرك جذوة الحنين إلى.. تبا لهذا الشيخ, حتى أمي يامنة لم تسلم من حبائله فصارت للطبق وأقراص الخبز وجهة أخرى.
عيون متقدة كالجمر تترصده,أما العجوز فكفت عن تشييعه بدعاء النجاة من "أولاد الحرام". ربما لأنه صار واحدا منهم. ينهض النادل متثاقلا ليضع فنجان القهوة بخفة ساحر ويرتد مسرعا إلى مكانه. ينقر بسبابته ليبدو غير آبه بما يسري داخل المقهى من همهمات ثم يتحسس مسدسه.
نومه ترتيلة أشباح وخوف. ينسل كفن من محضر الشرطة لتبدأ المطاردة في درج المئذنة. تحتدم في سمعه أصوات الزغاريد والأذان وطلقة الاشتباه. يركض, ويصرخ, ويسعل.عبثا يحاول الخلاص من كفن يلتف حول عنقه.تمتد يد إلى الكفن لتسحبه . تتطاير أوراق محضر الشرطة. اشتباه ؟ ربما. يظهر الشيخ مبتسما كعادته وحوله خلان الأمس ونادل المقهى وامي يامنة.يحل الظلام في طرفة عين فتتناثر الوجوه من حوله كذرات غبار. يقف وحيدا تحت المطر البارد والمخيف. كل قطرة تلسع روحه.تغرز إبرها في مسام جلده. قدماه ملتصقتان بالأرض ويداه تضغطان على الزناد.اشتباه ؟
للروح كوة تشرف منها على حقائق لا تصدقها الحواس.يأخذ الحاضر في مناسبات ووقائع عديدة شكل المخطوط الذي لا يكف الماضي عن نسخه وتعديل فحواه ,ليُكسب المجرى الإنساني غرابة وانزياحا عن المتوقع و المأمول.روحه الآن ممسكة بتلابيب الشيخ لا تفارقه.
يصف قدميه خلفه فتغمره السكينة المشوبة بندم الغافل..
يسجد فتمنحه الأرض دفئها..
يلهج بالدعاء فتنفرج السماء لملتمس الغفران..
لست سوى مخطوط يا ابن آدم !