- هل نحن كفار يا أمي؟
نظرت إليه بحنو و عبرات الأسى تنضح من عينيها، يكاد قلبها ينفطر من شدة الرعب. تلك الرايات الحمراء التي تتوسطها مربعات بيضاء و سوداء، كقطعة شطرنج ضخمة، تلاعبها الرياح على الهضبة المقابلة لحصن تاكرارات، أولئك الجنود المدججون بالدروع و السيوف و المتأهبون للانقضاض على المدينة و زرع الموت بين سكانها و الخراب في عمرانها.
- لا أدري يا بني عما يتحدثون، حروب الرجال يخلعون عليها لباس الكفر و الإيمان، هؤلاء مجسمة و هؤلاء خوارج. لا هم لهم سوى المال و الذهب، لا يبتغون سوى السلطة و الجاه. نحن غنائم جنونهم يا بني، رحماك يا رب.
لم يكونا الوحيدين اللذين اعتلا سطح البيت لينظرا من بعيد إلى جنود الموحدين، تتربص بمكناسة، تحاصرها، و تتحين فرصة الهجوم النهائي. امتلأت أسطح المنازل بالعيون المترقبة، أكف ترفع للسماء و حناجر تلهج بالدعاء.
- فاطمة، يا فاطمة، علينا أن نذهب للسوق، اقترب وقت الضحى، و المؤن شحيحة و التجارة كاسدة
يهيم الرجل و زوجته و ولده، في سوق الغبار، بين بعض الغنيمات الهزيلة هنا و هناك، حزم من الخضر شحب لونها، و نتف من البضائع فقدت نضارتها. الباعة أكثر من المبتاعين، و جنود الوالي يتطلعون في الوجوه و يبحثون عن الغرباء، فلو عرف جيش الموحدين قدر الوهن الذي أصاب مكناسة، لدخلوها و ما أبطؤوا.
- هل نحن كفار يا أبي؟
تحسس الرجل سيفه، دون أن يلتفت لولده، أجال ناظريه حول أرجاء المدينة و أرخى العنان لسهوة تجلو أفق السماء، دربته الطويلة في المعارك جعلت لسمعه شأوا في رصد أصوات الجلبة و لو بعدت المسافات. خيل و رجل على أبواب المدينة، يتقدمون بلا مقاومة، بل بالأفراح و الزغاريد. إنه مدد أمير المسلمين، جنود الله الذين سينقذون مكناسة من خوارج المعصوم الأشر. لباسهم و مهاريسهم، خيولهم الموشاة وتمايلهم على صهواتها، وجوههم الملثمة و بريق عيونهم.
ترك الناس قفافهم و زنابيلهم، و هرولوا كالمهابيل للقيا جيش المرابطين و الترحيب به. نزلت الجموع من فوق الكدية مهللين و مكبرين، تتطاير عمائم الرجال و أكسية رؤوس النساء، و لا يبالون. سبق الصبية و الغلمان الجمع لخفتهم و رشاقتهم، و رأوا قبل غيرهم، قطع الرقاب و إعمال السيوف. إنقلب الملثمون ضواري متوحشة، ضبحت أفراسهم و استحالت زغاريد النساء صراخا و عويلا.
- لا تتحركي من هنا، سأبحث عن أحمد، لقد خدعنا خوارج المعصوم الكذاب، و خليفته المجرم
استل الزوج سيفه، و نزل الكدية كالطود، كل الناس صعودا، هربا من بأس الحديد، إلا صاحبنا المكلوم، هزه فرق الوالد على ولده، و انطلق إلى الموت لا مباليا، كلما رأى جثمان طفل، نظر إلى وجهه مرتجيا ألا يكون أحمده.
أذن مؤذنهم للصلاة، و رفع إمامهم صوته مبشرا: أيها المجاهدون، أشكروا الله في سجودكم على هذا النصر المبين، على الكفرة أعداء الدين. سمعت فاطمة هراءه و ابتسمت ساخرة، حدقت في أقدام الجنود الذين يحرسون الأسرى و السبايا، ثم راحت تنظر إلى جهة بيتها، حيث كانت على السطح صباحا، تبصر محل سبيها مساء، مالت برأسها جهة وادي أبي الخيار، بحارة تاورة القديمة، هناك يرقد ولدها و زوجها، مع ما لا يعلمه إلا الله من شهداء الغدر و الخديعة. نزلت دمعة تتشبث بأستار الخد، بعد أن عزت الدموع، و تورمت الجفون.
طفل أسير يربت على كتف فاطمة، و بيده، يدير وجهها لتشاهد اللواء المرابطي الأبيض المرصع بشعار التوحيد، يرفرف على مئذنة جامع النجارين. إتسعت حدقاتها، مسحت دمعتها، أفردت طولها، و بكل ما أوتيت من قوة، أطلقت زغرودة، إرتجت لها كل أركان المدينة.