توقف قليلا في منتصف الممشى الإسمنتي الرابط بين الإدارة والباب الخارجي، حتى يسمح لنفسه بتعديل وضع الحقيبة على ظهره، وبعد ذلك، أمسك بيسراه الوثيقة التي مده بها مدير السجن، فتأملها وهو يمشي ببطء، كان كأي عالم آثار أخرج لتوه قطعة أثرية؛ رأى حروف اسمه واضحة المعالم، فقد كان مكتوبا بالبند المضغوط، بارزا، كأنه يناضل بين الحروف، حتى لا يتيه في الكلمات الروتينية التي تتكرر في كل الوثائق الأخرى.
استطاع تهجي الحروف تباعا، واسمه، هو الكلمة الوحيدة التي يستطيع كتابتها بإتقان، والتعرف عليها أيضا من بين ركام الكلمات بسرعة، وهذا كل ما تعلمه في السجن.
في أسفل الوثيقة، يتربع ختم إدارة السجن المدني، وهو كتابة في دائرتين تحتهما طابع مستطيل، وتوقيع عجيب يمينهما، أما إلى اليسار فكُتبت جملة تتجاوز كلماتها ربع السطر؛ دوَّنها الموظف المرافق للمدير بقلم حبر جاف تحت توقيع السجين.
بعد ذلك، وكأنه يكتشف الأشياء لأول مرة، اطلع على بطاقة هويته، تلك التي استرجعها بعد نفاذ المدة التي أفناها خلف القضبان، كان يحملها بيده اليمنى كأنها رضيع، أو كأنه يتطلع إلى ماضيه المطل خلف الصورة.
استمر في التقدم نحو البوابة القريبة؛ وهو يجر خطواته المتثاقلة، ودون حتى أن يعي، وجد نفسه غير بعيد من ذلك الباب الحديدي الصدئ الموصود؛ إنه الباب نفسه الذي استقبله منذ أشهر.
أيقظه من سهوه حارس الباب بحركة من يده، مُرفقَةً بصوت صفارته الحاد، ذلك الصوت الذي أرغمه على أن يسترد وعيه، وماضيه القريب والبعيد، البئيس، "إنه الصوت نفسه مهما اختلفت الصفارات أو تنوعت الشفاه خلفها"،هكذا خاطب نفسه. ولما سمع هدير محرك سيارة كبيرة قادما من الخارج حدس ــ مستعينا بما حفظت له ذاكرته ــ أنها لن تكون إلا سيارة شرطة، أو سيارة إسعاف، فهذا ليس وقت قدوم موزع الخبز، وإذن فإما أن تكون سيارة إسعاف جاءت لتحمل مصابا إثر تعنيف جماعي، وهذا هو الغالب...
أمره الحارس، بعنف، أن يبتعد عن الممر الإسمنتي، فحرك رأسه مطيعا، وانحرف يمينا باتجاه البيت المربع الصغير، الذي يقف كاليتيم في قاعدة الباب الجانبية.
رأى حارسين مسلحين ببندقيتين رشاشتين، وقد وقفا متأهبين فوق برج البوابة، ثم تحرك حارسان آخران بزيهما الرسمي ففتحا دفتي الباب الكبير جرا من اليمين واليسار في آن واحد، وانزلقت سيارة شرطة متوغلة وهي تزمجر، ثم أغلِق الباب بالسرعة التي فُتِح بها.
"لا بد أنها محملة بمحكومين مدانين، وربما بينهم أبرياء" حدثته نفسه.
أمره حارس السجن، ليس الذي زجره قبل قليل، ولا أي من اللذين فتحا الباب، بل آخر، في زي مدني، ولأول مرة طوال هذه المدة، يخاطبه شخص مدني من غير السجناء، ربما، حتى يعودونه على الحياة المدنية خارج المعتقل، أمره أن يتقدم نحوه، مكتفيا بإشارة من يده وصوت خفيض يكاد لا يسمع، ثم دخل قبله إلى الغرفة ذات الشباك الحديدي، والنافذة الزجاجية.
تقدم نحو الغرفة بخطوات سريعة هي أقرب إلى الهرولة منها إلى المشي، كأنه يريد إنهاء الطريق بأقصى سرعة، ثم وقف عند الباب، راقب الحارس الذي كان يطالع من خلف نظارتيه النازلتين على أرنبة أنفه الوثيقة وبطاقة التعريف.
والمكتب في الأصل غرفة ضيقة جدا، أو قُلْ إنه مجرد زنزانة منفلتة من مجمع العنابر، بحيث لا تسمح بغير الوقوف عند الباب أو دونه قليلا، تتوسطه طاولة خشبية، متساوية الطول والعرض، ومهترئة بحيث لو جلس أحدهم وسطها لانبعجت، وخلفها يقبع كرسي تهشم خشب منضدته، ولذلك اختار إدريس عدم حشر نفسه فيها.
ردَّ إليه الوثيقة وبطاقة التعريف بعد زهاء الدقيقتين، دونَّ خلالهما كلمات في سجل أسود موضوع عند طرف المكتب، أحس إدريس حينها كأن الوقت قد تباطأ كثيرا، فودّ لو يسأل الموظفَ عن حاله مع هذا المكان الذي لا يعلم غير الله المدة التي قضاها فيه، ولا كم من الرجال أفنى هذا القبر.
نزع الحارس نظارتيه، ربما وضعهما خصيصا لتفحص ما قدمه السجين، فبدت عيناه بشكل مضحك، كان أقرب إلى الضفدع منه إلى البشر، مد يده بعيدا عن عينيه بعد فركهما، ثم كرر عليه نفس الأسئلة التي كان قد سمعها قبل وصوله إليه.
صدرت هذه الحركات عن الحارس، وهو يعيد نظارتيه من جديد، استعدادا للكتابة مرة أخرى، لكن على ظهر ورقة بيضاء هذه المرة:
ــ هل عندك معارف في هذه المدينة؟ إلى أين ستذهب؟ زودنا بعنوانك".
ثم أردف:
ـ أوف ! إدارة اتكالية، إنه عملهم بالداخل، هذه ليست من مهامي.
ـ لقد طرح علي أحد الموظفين الأسئلة نفسها سيدي، لكنه لم ينتظر مني جوابا، بل رافق المدير دافعا إياي خارج المكتب، ربما كانت عندهم حالة مستعجلة !
ــ ما الطارئ الذي قد يستعجل أحدهم هنا؟ الزمن نفسه يشتكي من التباطؤ والملل، طيب، أجب باختصار.
ــ إلى أين قد أذهب؟
فكر مليا في عش قد يؤوب إليه، ففرت به الذاكرة بعيدا، ووجد نفسه مقتحما أمواج الماضي بمركبه الصغير.
المدينة القديمة بفاس؟ لا، لن أعود إليها أبدا، وحتى لو شئت ذلك، فماذا سأفعل هناك؟ لا أهل ولا بيت ولا...أبواي توفيا في تلك الحادثة المشؤومة، ولطالما رفض أخوالي تبنيَّ، ولا حتى كفالتي. أعمامي؟ يا ليت! أنا أصلا لا أعرف أصل أبي، وهو لم يحدثني عنه يوما، ظل يقول إنه مقطوع من شجرة؛ ولم يكن سوى عامل مياوم في فرن الحومة التقليدي، لفظته إحدى خيريات مدينة الدار البيضاء بعد أن بلغ سن الثامنة عشر، ـ هكذا كان يقال ـ وهروبا من شبح اللقيط قصد مدينة فاس، فاحتضنه صاحب فرن تقليدي وعلمه أصول المهنة؛ جدي لأمي، ولشطارته وإخلاصه بات منافسا لأخوالي المتكاسلين، وهذا منبع كرههم لنا، ثم، وبعد أن صارت أمي حاملا بي منه، لعن الله تلك اللحظة التي جمعتهما، زوجه جدي إياها وأدخله البيت، فبقي معهم هانئا مسالما، رغم النظرات واللمزات.
تُوفي جدي ، ذلك العام المشؤوم، فحرَّم أخوالي الدار على الوالد بعد العشاء الثالث للجنازة، رأيت بعيني هاتين كيف كانت أمي المسكينة المغلوبة على أمرها تبكي أمامه تحت ضوء عمود النور في الزنقة، ولأنه رجل، وليس مجرد ذكر، كما كان يردد ليلتها، فقد قصد طنجة، المدينة الواقعة عند التقاء البحرين، وما إن أمّن عملا وبيتا بالإيجار، حتى عاد ليأخذنا، وينقدنا من المذلة التي أغرقنا فيها أخوالي، لا سامحهم الله.
كنت نائما في الحافلة ليلتها، ولما صحوت وجدت نفسي في المستشفى، معافى إلا من جروح خفيفة، فاستقدمتني الجدة إلى الدار الكبيرة رغم أنف أخوالي، وبعد أيام علمت بالخبر المفجع؛ خبر وفاة الوالدين.
تقبلت يتمي وتعايشت معه، فما كنت أحلم بأكثر من الأمن، ولا طالبت بغير الخبز، بل ونفذت بالحرف كل ما كان يطلب مني، ولما اشتد عودي قل احتمالي لمضايقة الأخوال ونسائهم:
"من يأمن بقاء سليل الخيانة هذا بين نسواننا؟"
"ذلك الغصن من تلك الشجرة"...
لملمت ملابسي في محفظة،
وتحت جنح الظلام خرجت
فقصدت المجهول،
وحيدا كنت،
أنا والقمر.
أحدٌ لم يفتقدني،
ولا روح الوالدين.
تجنبت دخول المدينة القديمة ما وسعني، إلا في ذلك اليوم المشؤوم الذي أفضى بي إلى هذا الجحيم.
ــ "هيه، إني أنتظر!" صاح الحارس ملوحا بالورقة.
ــ لا أدري!
ــ طيب، هاتنا عنوانا، مهما يكن.
ــ سجل العنوان الذي تشاء.
سجل الحارس شيئا على الورقة، ابتسم بمكر وهو يدسها في سجله الأسود، ثم أشار من تحت الشباك للحارسين بأن يسمحا للسجين بالخروج.
وهو يبتعد عن المكتب ذي الشباك الحديدي، اخترق طبلة أذنه خطاب من الحارس خلفه:
ــ ابحث عن حياة جديدة، واحذر العودة.
تساءل وهو في آخر الطريق الإسمنتي، كيف يمكن للإنسان أن يبدأ حياة جديدة؟ وماذا عن الحياة القديمة؟ أتعوض الجديدةُ القديمةَ؟ ليس لنا من العمر ما يكفي لتجريب عدة حيوات، لا بد أن الحارس قد حفظ هذه العبارة من كثرة التكرار، فلم تعد تعني عنده شيئا.
أراد أن ينبه الحارس إلى سؤال سمعه من الموظف الفظ، ولم يكرره هو على مسمعه:
"هل تريد العودة إلى فاس، فنكفل لك رحلة في إحدى الحافلات، أم ستبقى في سلا؟"
كاد أن يعود ليذكره بالسؤال لو لم ير الحارس البواب وهو يفتح له الباب الصغير، والذي هو في حضن دفة الباب الكبير اليمنى، فاجتاز الباب والحارسين عنده دون أن يبادلهما ولا كلمة وداع واحدة، ولا هما فعلا، فقط اكتفى الحارس بفتح الباب، تماما، كأنه آلة، وألقى إدريس رجله فصار خارجا.
كل الحراس كذلك، نعم، حراس السجون جميعا، ملامحهم خالية من أي تعبير، اكتسبوا من عبوسهم، أو، ربما من فراغ قلوبهم، اكتسبوا تعابير متشابهة، فاقدة للمعنى، وموحدة إلى الحد الذي يدفع الإنسان إلى الشك إن كانوا بشرا أصلا، وإن كانت لهم قلوب وعواطف، أم مجرد محركات، الله وحده يعلم حالهم مع أهلهم.
في الخارج، رأى طابورا طويلا من الزائرين نساء ورجالا، كانوا محملين بأكياس البلاستيك، من نفس نوع الأكياس التي كانت تصل الزنازين، إلى جميع السجناء، باستثنائه هو.
لم يحَدِّث أحدا في سبب ذلك النضوب غير المبرر، ولا واحدا منهم سأله في ذلك؛ فقد كان قليل الكلام، قليل الثقة، وطيلة الأشهر الستة، لم يربط ولا علاقة عابرة مع أحد، لكنه كان يعطف على الجميع، خاصة حمودة الصغير.
حمودة، الذي كاد رئيس الغرفة "خطوطو" الشرس أن يغتصبه في إحدى الليالي، طبعا لولا تدخل خَلَفِ ابن الخيرية هذا؛ استفاق إدريس فجأة على صوت أنين سمعه، وبخفة بديهته أحس بما يدور في الزنزانة، ثم، وعلى بصيص الضوء الضعيف المنبعث من الكوة، سدد ركلة قوية إلى مؤخرة رئيس الغرفة الذي كان عاريا فوق حمودة وهو يخنقه بيده حتى لا يصيح.
كانت الركلة كفيلة ليس بإبعاد الأذى عن حمودة فقط، بل بجعل المغتصب يقبل الأرضية بعنف.
قامت الدنيا والبلبلة، وما قعدت إلا بدوي صوت الصفارة، ثم أضيئت الغرفة، ودخل حارسان، فرفعاه من فوق خطوطو وهو يلكمه، والأخير عاريا.
ما كان أحد من نزلاء تلك الزنزانة المزدحمة يحقد على إدريس، ولا كان منهم من يحب خطوطو المتعجرف، فقد عاش المقهورون تحت رحمته طويلا؛ وقلما ناموا هانئين مطمئنين.
لقد كان اللواط منتشرا في بعض الزنازين، ولكن زنزانتهم كانت شبه هادئة، ولذلك وقفوا وقفة رجل واحد إلى جانب إدريس، وشهد الجميع بما اقترف المجرم، فتم إبعاده، وهكذا ضمن إدريس صداقات، ولاسيما نصيبا طيبا من كل المؤن التي كانت تأتي مع الزيارات.
تحسس جيبه، فوجد بعض الأوراق المالية وقطعا نقدية معدنية، أعادوها له بعد نفاذ مدة محكوميته، فقصد مقهى قريبة من السجن، جلس على كرسي متموقع تحت الشمس قليلا؛ بحيث سمح له موضعه بحماية رأسه تحت ظل الشماسية، وإطلاق رجليه تحت الشمس، ممددتين.
طلب من النادلة قهوة سوداء لما وقفت أمامه، ومسحت الطاولة بمنشفة صفراء اجتذبتها من طرف وركها حيث كانت معلقة، ولما عادت أعقابها تتبعها بعينيه متمليا بمشيتها؛ إنها في مثل عمره تقريبا، فملامحها أخبرته أنها لم تتجاوز العشرين إلا قليلا، والله وحده أعلم بما دفعها للعمل في مثل هذه المهنة.
إنها جميلة ــ خاطب نفسه ــ ومكانها بيت الزوجية، لتخدم زوجها وحماتها وأبناءها، لا خدمة من هب ودب.
قدمت له فنجان القهوة باسمة، فرد عليها بابتسامة خفيفة، ثم أخذ الكأس مباشرة بعدما وضعتها، رشف الرشفة الأولى مُرَّةً، فاستغربت منه ذلك؛ عقدت حاجبيها وهي تغادره إلى زبون آخر، ثم أشارت إليه بسبابتها أن "ضع طوب السكر واخلطه بالملعقة".
فعلت ذلك وفغرت فاها بضحكة رائقة، لكنه لم يعر حركتها اهتماما، لأنه قد تذوق مرارة القهوة عمدا، لا سهوا ولا غباء، فهي أشبه شيء بالحياة؛ الحياة في الأصل سوداء حالكة، ومرة، لكننا نضيف إليها تحلية لنستسيغها ونتلذذ بها، ثم إننا ندمن القهوة كما نحن ندمن الحياة نفسها.
استلذ مرارة القهوة فلم يضف لها سكرا، ولما كان منتشيا بحريته فقد غاب عما حوله حينا، ثم عاد بفكره إلى المرأة/النادلة، خاصة لما رآها عند طاولة زبون غير بعيد.
وكان ذلك الزبون يطالع نهديها النافرين بينما هو يحدثها، وفي اللحظة التي انتصبت لتغادر طاولته، أشاح إدريس ببصره بعيدا، تماما قبيل التفاتها جهته بأعشار في المائة من الثانية؛ فعل ذلك حتى لا تعلم أو تظن أنه يراقبها أو ما إلى ذلك.
غار في أعماق نفسه فلم يجد قطرة ميل إليها، وأما ما بدر منه، فقد عزاه إلى الغريزة المكبوتة لمدة أشهر؛ فقد عادت بعد ضمورها مدة الاعتقال، وخاصة لما حركتها مؤخرة النادلة وصدرها البارزين.
للعلم، لا يجد إدريس في نفسه ميلا إلا إلى النسوة كبيرات السن، ربما، لأنه يجد في أحضانهن دفء الأم المفقود، أو لأنه متأثر بتجارب سلبية؛ مثل اليوم الذي خرج فيه مع تلك المراهقة، وحتى أوضح، فهو لم يخرج معها إلا لدفع الشبهات عليه، وبصفة خاصة ليضع حدا لتنكيت إسماعيل الحلاق، لعنه الله، طريقه كلها شرور.
ــ هل قدمت مسافرا؟
انبعث الصوت الأنثوي من خلفه هامسا كالحلم، أو كصحو أخرجه من الحلم، التفت ليجد النادلة عند الطاولة خلفه، إلى جانبه قريبا، تأمل جيدها في صمت حين اقتربت أكثر، فوجده خفيف السمرة، ولما لم يجب عن سؤالها ألحت عليه وقد انحنت متكئة على الطاولة بيد، وواضعة يدها الأخرى على منضدة الكرسي حيث يجلس، فجاءها الرد باردا كأرض الزنزانة:
ــ نعم، قبل أربعة أشهر، ثم أضاف: في سيارة السجن.
تأمل ملامح وجهها إن كانت ستتغير، أو أن تنقبض أساريرها لما عرفت أنه قد كان سجينا، لكن هذا لم يحدث، بل طورت السؤال:
ـ من أين؟
ـ فاس !
ـ آه، أنت فاسي إذن، أتحب أكل الخليع على الفطور، أم حلوى الكرواصة (هلالية) والشاي مثلنا؟
خرج سؤالها بنبرة فاسية ضاحكة، ثم تركته مستجيبة لنداء زبون.
هل أنا فاسي؟ لقد عشت حياتي كلها وأنا ذلك الغريب، هذا ما قُدِّر لي؛ منذ فتحت عيني بين أخوالي، وحتى لما استقر بي المقام أخيرا في تلك الغرفة التي كنت مستأجرا في حي الزهور الشعبي، آه يا تلك الغرفة! ربما اقتحمها صاحب الدار بعد غيابي في السجن، وإن فعل ـ وهذا مؤكد لأنه لن يحجزها لسواد عيني ــ فسيكون قد غنم قنينة غاز صغيرة، والحد الأدنى اللازم من الأواني، وفراش بسيط، وتلفاز صغير.
ماذا لو لم؟، لا، ليس الآن، لا...
مرت النادلة قريبا منه، وابتسمت له بدلال، فرد عليها بانحناءة هادئة، أحس كأنه قد جعلها تنجذب إليه برزانته ورباطة جأشه، هكذا راودته نفسه، فتساءل:
ــ ما الذي أعجبها مني؟ هل اغترت بعضلات صدري وذراعي؟ هذه العضلات التي روضت بالتمارين الرياضية التي كنت أملأ بها ساعات فراغي الدائمة بالسجن؟ إنها امرأة غامضة ومغرية، ولكن إلى متى سيجرني الإغراء والإغواء؟ ودوما، إلى دماري؟
لاحقت تلك الشابة، فجرتني إلى ذلك الحي الشعبي لتتلقفني أيدي عصابة حطمت عظامي ضربا بعدما وجدوا جيوبي فارغة، فأدركت أخيرا، بعد الدرس الصعب، أن الفتاة لم تكن إلا طُعما/إغواء، ثم بعدها... لا، يجب أن أنسى ذلك، إلا هو، إنه آخر ما يمكن تذكره، الله وحده سينتقم لي ممن ظلم.
أحس كأن الذاكرة ستنفجر عليه من كل الجهات فلم يستطع مقاومة تدفقها:
ماذا لو سألتك سمراء الجيد عن سبب سجنك؟ ما الحكاية التي ستنسج؟ أو تلفق؟ ألن تجد نفسك، وأنت في لحظة صفاء تحكي لها أنك كنت عائدا من يوم عمل شاق، تماما بعد حصولك على أجرة الأسبوع، التي في جيبك الآن، وأنك دخلت غرفتك فوجدت قنينة الغاز فارغة، وأن بطنك الجائع لم يمهلك وقتا لتستبدلها بغيرها فتنعم بكأس شاي منعنع وخبز مغمس في الزيت كعادتك، فخرجت طالبا مطعم الحي على وجه السرعة، وأنك قد مررت في طريقك بإسماعيل الحلاق، الذي غالبا ما كنت تجلس عنده ساعات المساء والليل.
ولما دخلت الصالون لم تجده، ولكنك لمحت إبريق شاي يتبخر دفئا، وإلى جانبه كأسا وصحنا مليئا بالسفوف فلم تتمالك نفسك، فوقعت فريسة الجوع والإغراء؛ قالت نفسك: ذق! فذقت، ثم جاء الأمر المغري، كلْ لقيمات ريثما عاد، وهكذا تابعت؛ ملعقة تتلو التي قبلها...
لما دخل إسماعيل زعق لِما رأى أولا، لكنه كتم غيظه أو ضحكته بعدها، وأنت، أيها الغبي لم تنتبه، ولم تستفسر، بل ولم تعتذر حتى؛ انتشيت بانتصارك، فبدا لك كأنك قد ثأرت منه لنفسك لأنه شرب كأس الليمونادة خاصتك ذات سهرة مع الأصدقاء، فقلتَ له وأنت تغادر الصالون:
"الله يخلف عليك، لقد كان لذيذا".
إن الذاكرة الآن محَفزة حد القفز على الأحداث، كأنها صبية تلعب بالحبل، ولكن صورها لا تزال ضبابية، ولا يزال إدريس يعمل جاهدا على طمسها.
تمنى لو كانت الحياة شريطا يمكن التحكم فيه، إذن لقص هذا المقطع البئيس من حياته، فأخذته الفكرة بعيدا؛ لو كانت الحياة البشرية شريطا سينمائيا لوجب قطع جزء كبير جدا منه، ولكن هل سيكون ذلك كفيلا بإزالة البؤس؟
محتمل، لكن ذلك أبعد من الواقع، لا بد أن هناك حكمة إلهية تحرك خيوط اللعبة، فربما تجربة الألم هي الأصل في الحياة، فما يمكن أن تكون السعادة دون شقاء؟ بل وكيف يمكن تحديدها؟ لأنها من الأشياء التي لا نحسها فقط، بل نعرفها بنقيضها، ولولا النقيض لما عرفناها، ولو لم يطرد آدم من جنة السماء ليواجه شقاءه في الأرض لما أدرك النعمة التي كان يرفل فيها، ربما تجربة الألم سبيل لإدراك نعم الله ومعرفتها؟.
حدق بعينيه باحثا عن النادلة السمراء، فلمحها وهي منهكة في خدمة الزبناء الذين توافدوا في لحظات متقاربة كأنهم كانوا على موعد، ولوهلة اختلطت عليه الأحاسيس، هل هو منجذب إليها، أم هي التي انجذبت إليه؟.
"آه، إنه الإغواء مجددا، لا بد أن أفر بجلدي، وبماضي، وببؤسي"، هكذا حدث نفسه، فحاول أن يتحاشاها لما رآها قادمة نحوه بابتسامتها العريضة، كانت تحمل على راحة كفها صينية مليئة فظنها طلبية لزبون خلفه، لكنها توقفت عند طاولته هو، فوضعت الصينية وجلست أمامه،
ــ أظنك جائع أيها الفاسي السجين.
ــ لا بأس، لا بأس، لا شهية عندي الآن، ثم، في الحقيقة، لقد كان الفطور آخر وجبة تناولتها في سجن الزاكي.
ــ كذاب !
اضطرب في مكانه، فقد صدمته الطريقة التي نطقت بها تلك الكلمة، وفجأة لم يجد جوابا، وهي أيضا لم تنتظر منه ردا، بل وضعت على الطاولة كأس شاي دافئ وحلوتين هلاليتين، واحدة منهما كانت مذهونة بالجبن والأخرى فارغة، ثم أخرجت سيجارة من الحقيبة الملتفة حول خصرها، فوضعتها أمامه وانصرفت، وقد ازدان وجهها ببسمة الرضا.
وجد يده تمتد نحو الحلوى المذهونة أولا، فقضم منها قضمة بملء فمه، وأردفها رشفة شاي، فوجده حلوا ودافئا ولذيذا... بعد دقائق أكمل الفطور، ثم داعب السيجارة بأصابعه وهو مستغرق في اللاتفكير، كأنه قد خرج من حدود الفضاء،
ــ ولاعة؟ سألته، وقد وقفت عليه مجددا فرد عليها:
ــ لا، لا أدخن، شكرا.
ــ طيب، بالصحة والراحة.
أخذت السيجارة، وأعادتها إلى مكانها من العلبة المفتوحة، ثم جلست قربه، لم تكد تنطق بكلمة حتى سمعت تصفيق أحد الزبناء في الطرف الآخر، فقامت متأففة وهي تغمغم:
ــ " أوف، طلبات هذا الأحمق لا تنتهي".
فكر في أمر السيجارة؛ "هكذا هو حكم الناس المسبق على السجناء، ترى كيف فهمتني لما أخبرتها أني لا أدخن؟ هل يعني أنني رغبت في إعطائها صورة الفتى الصالح الذي تتمناه كل مقبلة على الزواج؟"
قرِف من الفكرة؛ فهو في الأصل ليس مدخنا، ولا يتعاطى المخدرات، لكنه يشرب الخمر أحيانا، وأول ما تناول مخدرا ـ ولو بالخطأ ـ جنى على نفسه.
لقد كان صحن السفوف في صالون إسماعيل خليطا مخدرا، يدعى المعجون، وفي لغة أهل الاختصاص يسمى القرطاس والطيارة وغيرها، ولأنه تناول السفوف المخلوطة بالمخدر على الجوع، فقد لعب المخدر بعقله، وأثر عليه بقوة.
يذكر، وقد أسعفته الذاكرة، أنه اقتحم المنطقة المحظورة "المدينة القديمة" ذلك المساء، فجال في أزقتها الضيقة، وبينما هو كذلك إذ رأى بغلة محملة بالبضائع؛ كانت مقبلة اتجاهه بلسانها المتدلي، فبدت له كأنها ستلتهمه، ففر منها.
ركض وسط الزحام وهو يلهث حتى تقطعت أنفاسه، كان يلهث وقد تدلى لسانه كالبغل، رأى نفسه بغلا ظمآن، فكرع على ماء آسن وشرب حد الارتواء من تجمع ماء المجاري، وأمام أعين الناس وعجبهم، لا يزال متأكدا أنه سمع بعض المارة وهم ينهرونه عن ذلك، وربما ركله أحدهم فلم يرد عليه، لأن عليه ــ ككل بغل ــ أن يتحمل الركل والضرب، ثم خرج من فاس الجديد، التفت يسارا فرأى حديقة القصر في شارع العلويين، وككل بغل، قصدها وبدأ يقطف الورود ويأكلها.
سمع صفيرا من بعيد، وآخر أطول نفسا، ثم توالى الصفير من حوله، لم يهتم لأمر ذلك الرجل ذي الزي الموحد الذي كان يلَوِّح ويزمجر وهو يعدو نحوه، جزم بأنه لا بد بغل منافس، لذلك وجب عليه أن يقطف جل الورود، حتى إذا ما وصل البغل ذي الزي الموحد، فلن يجد شيئا، هكذا حدثته نفسه، وذلك ما فعل.
ولكنه قبل أن يشبع رغبته، وجد نفسه قد اختُطِف من مكانه، وأُلقِيَ به في سيارة.
ارتاح للأمر؛ وفهم منه أنه قد صار سمينا، وأنهم آخذوه إلى السوق، ففرح بالفكرة، أقلها سيتغير مالكه ومرعاه، وفي هذا مدعاة لسعادة البغال وغيرتهم وتحاسدهم أيضا.
ما إن انطلقت السيارة، حتى بدأت اللكمات والركلات تنهال على رأسه وظهره من كل الجهات، زمل برجله كالبغال ليركل أحدهم، لكن السيارة كانت قد انعطفت فانهار على أرضيتها.
في قاعة شبه مظلمة، وضعوه على طاولة، مستلقيا على ظهره، ثم كبلوه بحزام كأنه صبي مقمط. أراد أن يصيح كالصبيان علهم يشفقون عليه فيرضعوه حليبا، لكن أحدهم وضع قطعة من الإسفنج في فمه فكانت كفيلة بإسكاته، بل وكادت تخنق أنفاسه، ثم بدأت أشواط من الضرب على قدميه بالسوط، وبين كل شوط والذي يليه، كانوا يسألونه بعض أسئلة تثير ضحكه، فيضحك ويضحك حتى تنقطع أنفاسه بقطعة الإسفنج التي تعود إلى فمه، فتُوقِّع العِصِي موسيقاها على كامل جسمه. تناوب عليه الجلادون؛ حتى إذا ما كلَّ أحدهم، عوضه آخر.
لم يفق من تأثير المخدر إلى أن وجد رأسه يتدلى وسط إناء قد ملئ ماء باردا، فيغمره حتى تنقطع أنفاسه ويختنق. هكذا دام موسم تعذيبه مدة متواصلة لم تتوقف إلى أن دخل أحدهم، وأمرهم أن يكفوا عما هم فيه.
ــ لقد فتشوا غرفته، وتعرفنا على هويته، ليس له أي انتماء سياسي، ولا بد أنه تحت تأثير مخدر ما، ربما أكل المعجون، فهو الذي يسبب الهلوسة والهستيريا.
كان لا يزال مكردسا في قماطه لما سأله ذلك الضابط الذي دخل لتوه وأنقده؛ فقال له وهو يطالع بطاقة التعريف التي عثر عليها في غرفته:
ــ هل أكلت شيئا غير عادي؟ مخدرا مثلا، أو ما إلى ذلك؟
وقبل أن يتم سؤاله، قفز الجواب من لسان إدريس مندفعا بحرقة:
ــ السفوف، أكلت السفوف سيدي.
هكذا أجاب، وقد استعاد وعيه رغم الألم الذي لا يزال صائلا وجائلا في جسمه كله، بالإضافة إلى دوار حاد في رأسه، فخرج الأمر هادئا من فم الضابط:
ــ فكوا رباطه!،
امتثلوا للأمر ببطء وامتعاض واضحين، كأنهم كانوا مستمتعين بأشواط التعذيب تلك، ثم أمروه أن يلبس حذاءه،
لم يستطع وضع قدميه في جوف الحذاء بسبب الانتفاخ الناجم عما نال، فأخذ فردتي الحذاء بيده اليسرى، وقام مستأذنا بالخروج، لكنه مُنِع من ذلك، ووُضِع القيد في يده.
بعد أيام قليلة في الحجز نُقل إلى المحكمة ليمثل أمام القاضي متهَما بتعاطي المخدرات، وتخريب الممتلكات العامة والخاصة.
انتبه من غفلته التي غرق فيها لما رأى النادلة وهي تتحرك بين رواد المقهى بنشاط، فتساءل عن السبب الذي دفعها إلى الاعتناء به على ذلك النحو؛ هل هو إعجاب، أم محاولة اصطياد؟ أما كرمُها وطيبتها فجعلاه يستثني هذه الأسباب، ولوهلة أحس بانجذاب غير مفهوم إليها، ولدفع ذلك الإحساس استهجن على نفسه هذا المكوث المطول في المقهى، وانتظار مرورها بين الحين والآخر، ثم دخل في حوار مطول مع نفسه:
هل يمكن أن أبدأ حياة جديدة كما قال الحارس؟، وهل ستكون البداية مع هذه... الإنسانة، أف لهذه النزعة نحو التصنيف، إن مجرد قول هذه النادلة يعني أنني... ضحك من نفسه: أين تعلمت هذه الأحاسيس والأفكار؟
ولكن، ما معنى أن أبدأ معها حياة جديدة؟ هذا يعني زواج وإنجاب... لا، لن أنجب مخلوقا ظلما، فهذا العالم أسوء من أن أستقدم إليه كائنا حساسا، خاصة وأن مستقبله محكوم بالمعاناة سلفا، لن أقع في نفس خطيئة أبي وجدي... لا بد من مقاومة الإغواء، أنا شخص تائه ويجب أن يبقى كذلك، هذه هي الطريق التي رسمها لي قدري.
وضع حقيبته على ظهره استعدادا للمغادرة، واستخرج من جيبه ورقة من فئة خمسين درهما، ولما رأى أن النادلة منشغلة بوضع بعض الكؤوس على صينيتها، لوح لها بالورقة المالية لتراها، ثم تركها تحت الكأس الفارغة، وانصرف دون أن يلتفت،
كان كالهائم بين تفاصيل الذكريات، وثنايا الشوارع؛ راح يذرع الطريق في غير اتجاه، فتبعت قدماه الشوارع والأزقة كيفما التوت، حتى ألجأته إلى حي راق.
انتبه على نباح كلب أسود، كلب صغير مهجن، كأنه رزمة صوف تتدحرج وتنبح، ولما انتبه فجأة إلى تفاصيل الحي، أحس أنه كان غارقا في ما لم يذكر منه شيئا، لكنه في هذه اللحظة من الصحو، وجد نفسه محاطا بأسوار الفيلات الهادئة، والشجيرات المطلة من خلف الجدران.
توقف فجأة حين أحس بضيق شديد في صدره، ووجد أن لسانه قد جف من العطش، كأنه قضى مدة وسط البحر. البحر إذن، لمعت الفكرة في ذهنه كالبرق الوامض، فما أحوجه إلى برق يضيئ ظلام حياته، ويمطر فيهدأ روعه، وما البرق إلا وعد بالمطر.
"آه متى تمطر سمائي فتهدأ روحي؟، لا بد أن أقصد البحر، فمجرد النظر فيه ـ كما يقال ـ يبعث الراحة والطمأنينة".
هكذا حدثته نفسه، ولكن أين السبيل إلى البحر؟ خاصة من ذلك الموقع، وجد نفسه تائها بين المنازل الراقية المتشابهة، ولأنه لا يعرف خارطة المدينة فقد أحس بالضياع والحاجة إلى مساعدة فتبع الكلب وهو يعود استجابة لنداء غير بعيد، ولما انعطف مع الجدار الأول رأى حارسا جالسا في دكته، وهو الذي كان ينادي على كلبه ليعود إليه، فقصده.
بادر إدريس بتحية خفيفة قبل توقفه على مقربة من الطوار حيث تقف دكة الحارس، فقوَّم العجوز ظهره وهو يرد التحية بصوت خافت يكاد لا يسمع، ثم استقام كلية في جلسته وهو يدفع ظهره براحة كفه، فبدا من حركته كأنه يشكو ألما من كثرة الانحناء.
استسقاه كأس ماء، فانحنى ليلتقط من جانب كرسيه كأسا وقربة، وإذ هو يصب الماء من قربته سأله إدريس:
ــ أين السبيل إلى البحر يا أخي؟
تطلع إليه بهدوء وهو يعيد القربة إلى مكانها وقال
ــ البحر، إن لم تكن ابن المنطقة فقد تضيع قبل أن تصله.
أمسك إدريس الكأس بيده، ثم رفعها محاذيا بها فمه، وقال:
ــ لا، لست من هنا، فدلني على الطريق رجاء.
ــ عد أدراجك، إلى أن تخرج إلى الشارع الكبير من حيث أتيت، ثم انعطف يسارا، وخذ الطريق إلى مفترق الطرق الكبير، ستصل إلى إشارة مرور ضوئية، ومن هناك انعطف يسارا مرة أخرى، خض ذلك الطريق النازل إلى آخره، عندها ستصل الشاطئ.
شرب ما بالكأس دفعة واحدة، وتنفس الصعداء، ثم أدار الكأس المطلية بالقار في يده متأملا؛ إن الشرب من الكؤوس المطلية بالقار يضيف إلى الماء نكهة منعشة خاصة، فيجعله طيب المذاق. ثم طلب زيادة كأس أخرى لما رأى يد الحارس تمتد إلى الكأس في يده، كأنه يطلب منه تسليمه إياه.
ــ الماء هنا بارد وطيب، أرجوك، ارو عطشي.
ــ الحمد لله، الماء نعمة الله، وهي النعمة الوحيدة التي فاضت من الجنة فملأت الدنيا حياة.
ــ (وجعلنا من الماء كل شيء حي) قال إدريس مزكيا كلامه.
ــ صدق الله العظيم، ورحم الله من علمك، ثم قال ناصحا وهو يصب الماء ثانية:
ــ لا تشرب الماء دفعة واحدة يا ولدي، ولا تشربه واقفا، هكذا علمنا رسول الله، وقد أثبت الطب الحديث أن الشرب في وضعية الوقوف يؤذي عضوا ما، لا أعرفه، ربما الأمعاء، أما الشرب دفعة واحدة فقيل إنه يؤذي الكبد.
جلس إدريس على طرف الطوار ليشرب كوب الماء الثاني، تماما كما نصحه الحارس، لكنه كان شاردا، فطالت جلسته.
مرت بهم شابة سمراء، تجر كلبا صغيرا بحبل في يدها، وكان هو في الوضع الذي سمح له بتقصي تفاصيل جسدها كاملة، كانت الفتاة في مثل سمرة النادلة تقريبا، ولكن سمرتها لم تظهر على بشرة وجهها، لأنه كان مغطى بكريمات موضوعة بعناية فائقة، أما جلد عنقها فهو الذي كان في سمرة براقة، وظاهر أنها ربما قد طلته بمرطب فبدا لامعا، ثم إنها أكثر إشراقا مما بدت عليه النادلة، وأنحف قليلا، لا بد أنها تتبع حمية مشددة لتحافظ على شكلها النحيف هذا. مشيتها مثيرة أيضا ومنمقة، أما التنورة التي ترتديها فتقف عند حدود الركبة لتكشف عن ساقين رائعين، وهذا ما سمح لإدريس بأن يسرح بعيدا، ويدب بخياله على ركبتيها صاعدا.
أعاد الكأس إلى صاحبها، وشكر له شربة الماء المنعش ثم أخذ الطريق كما وُصِفت له، فسار خلف الفتاة صاحبة الكلب قليلا؛ تبعها رويدا وهو يطالع تفاصيل جسدها إلى أن انعطفت يمينا، أما هو، فقد كان من المفروض عليه أن يأخذ الطريق شِمالا.
تبع مساره كما رسمه له الحارس، ولما وصل مفترق الطرق الأول، الذي ينتهي عنده الطريق الداخل إلى الحي الراقي، التفت يمينا فرأى الشابة وهي تصعد سيارة رباعية الدفع، في حين تكلف شاب بحمل الكلب وإدخاله إلى المقعد الخلفي.
تطلع إلى المسار الذي يلزمه قطعه، فبدا له الطريق صاعدا نحو مفترق طرق كبير، وعلى يمين الإشارة الضوئية يرتفع برج ضخم كأنه لتوزيع الماء، وبدا أن الطريق إليه ليس بالأمر الصعب ولكنه شاق ومنهك.
على الطريق الإسفلتي تمر السيارات مسرعة، أما على الرصيف فعدد الناس قليل، وهذا لأن شمس الضحى بدأت تقرع الرؤوس من فوق، وقد زاد هواء البحر المحمل بالرطوبة من شدة وقعها على الجلد.
انتبه لنفسه وهو يمشي الهوينى، وحقيبته على ظهره، ففكر: ربما سيعتبرني الناس سائحا جاء ليمضي أيام العطلة الصيفية، فلا يميزني على السياح إلا الفرق في قدر المال عندي وعندهم وهذا غير ظاهر للعيان.
كان قد وصل إشارة المرور الأخيرة المحاذية للبرج لما رأى في الجانب الآخر من الطريق دراجة ثلاثية العجلات محملة بشباب هائج، وكان في الصندوق الخلفي للدراجة أكثر من خمسة شبان مرحين ومنغمسين في الغناء بصوت عال، ومعهم مظلات شمسية، فتأكد حينها أن الطريق سالكة إلى البحر.
توقف قليلا ليستطلع الأمر، فرأى في مكان غير بعيد رقعة واسعة ومزدحمة بالناس، تماما إلى جانب الطريق، وبدا من الواضح أنه سوق، وهو ليس ببعيد عن المكان الذي وقف فيه.
كانت السيارات كثيرة، رابضة عشوائيا في بقعة قريبة لا يبدو أنها مرآب، تماما إلى جانب أكواخ قصيرة ممتدة على مساحة كبيرة؛ دونها بقعة شاسعة، وخلفها بنايات عالية، وإذا احتسبنا الحي الراقي الذي تركه خلفه، فإن سلا هي مدينة التناقضات الاجتماعية الكبرى.
التفت يسارا حيث يقف، فوجد نفسه محاذيا لمقهى في ملتقى الطرق ذاك، وإلى جانبها امتدت دكاكين لخياطة المظلات الشمسية والمشمعات، أما القاعة الأصلية للمقهى فضيقة، لكنها تعوض ذلك بالمساحة المرصوفة أمامها، حيث تمتد الكراسي في الخارج على مساحة تضاعف قاعة المقهى مرات عدة، انتابه فتور خفيف وأسى وهو يخاطب نفسه:
"ألا يرى قائد الملحقة هذا؟ أم إنهم لا يسمونه احتلالا للملك العام، يوم كنت أبيع قناني العطر في الشارع على البساط المشمع بفاس، في ذلك الشارع الذي دعوه، زورا والله حسيبهم، شارع الكرامة بحي الزهور، غالبا ما كان يتدخل القائد مدعوما بالمقدم ورجال القوات المساعدة المدججين بالهراوات، فيجلينا نحن الباعة المتجولين بالقوة، كانوا يطاردوننا بحجة أننا نحتل الملك العام، يا للظلم !
لا بد أن الفرق بيننا وبين أرباب المقاهي كامن في القيمة المالية التي نمثلها، ونروجها، فرأسمالي كله، آنذاك، ما كان ليتجاوز ثمن طاولة من هذه التي تغص الممر بمقاعدها الثلاثة، وإذن فالفرق الأساس يكمن في امتلاك المال.
جعلته هذه الكلمة الأخيرة يتفقد ماله، فدفع يده في جيبه، واستخرج وريقات مالية من مختلف الفئات، عدها، فوجدها مائتين وسبعين درهما، تذكر الخمسين درهما التي تركها للنادلة فتحسر، ثم انبسط لأنه اشترى بها راحة البال.
بدت له من داخل المقهى نادلة بيضاء البشرة، تتمشى بين رواد المقهى بدلال، فأثارته عجيزتها المكورة البارزة، وقد زادها السروال المطاط بهاء.
"أف، إنه الإغراء مجددا، أف"
لقد تشكلت لدى إدريس عقدة من الإغراء، وتأكدت مع بعض التجارب؛ هو نفسه لا يعرف من معاني الكلمة إلا بقدر ما أخذه من بعض الطلبة الإسلاميين الذين كانوا قاطنين في غرفة مجاورة لغرفته بفاس، وكانت تجمعه معهم علاقات طيبة، إلى أن أحس باستغلالهم جهله في أمور السياسة والدين، وأنهم يستدرجونه لتنظيمهم، فترك البيت الذي جمعه بهم آنذاك.
وقد استقرت دلالة الإغواء عنده في الانجراف نحو لذتي البطن والفرج، وهما سبب هلاكه؛ منذ اليوم الذي تبع الفتاة فالتقطته أيادي العصابة، ثم يوم أكل السفوف ففتحت في وجهه أبواب السجن، ولا أحد يعلم ما يخبئه له المستقبل بعد.
حدثته نفسه في شرب فنجان قهوة، ليرتاح من مشيه قليلا، ويمتع ناظريه باللحم الملفوف، لكنه ابتسم للفكرة وترك رجليه تقودانه نحو التجمع الذي بدا له غير بعيد.
في الطريق، طفت صورة النادلة صاحبة الفطور فوق بحيرة اللحظة، فلام نفسه على سوء تصرفه معها، ثم، وهو يتمشى الهوينى حدث نفسه قائلا:
ـ لقد قابلت الإحسان بالسوء، آه، لو تمهلت قليلا، فربما كانت نيتها صافية، من يدري؟ ربما كانت قد مرت من تجربة ما، فعزمت على فعل الخير. أما كان عليك أن تلاطفها؟ وأقلها، ألم يكن أولى بك وأجدر أن تسألها عن اسمها، وعن ظروف حياتها؟؟ ما كنت لتخسر أي شيء لو حاولت، أيها المجنون، من وضع القيد على يدك؟.
انتشلته أصوات أبواق السيارات من بحر ذاكرته، الذاكرة التي انضافت النادلة إلى ترسباتها، فوجد نفسه على الطرف المقابل للسوق من الشارع، وقف في ملتقى الطرق، تأمل المكان كأنه مهندس يريد إعادة تهيئته، لقد كان السوق ممتدا على يمينه، أما إلى اليسار، فتمتد حديقة محاطة بسور قصير عليه سياج حديدي صدئ ومتهالك.
تناثر الناس في الحديقة زمرا ومثنى وفرادى، هناك أطفال يلعبون الكرة، وهنا كهول يلعبون الورق. أما من الجانب الآخر، حيث السوق، فتتعالى الأصوات، أصوات الباعة وهم يتصايحون.
يبدأ محيط السوق بمحلات صغيرة تعرض فيها الملابس المستعملة وأشياء أخرى، وللمحلات جدران إسمنت لكنها مسقوفة بصفائح القصدير أو الزنك، كتلك البيوت التي تنتشر في حيي الليدو وباب الغول بالمدينة التي لفظته، على أن الأخرى هناك كانت حيطانها من الطين وليس من الإسمنت كهذه.
لقد قطن مرة في حي الليدو الصفيحي، قبل أن تهدمه السلطات، وهناك تعرف على الحياة الطلابية وأشياء أخرى، ولو فرضت عليه الذاكرة حضورها فسيتذكر ليالي الشتاء الطويلة، ولكن لا مكان للذكريات الآن فهو مشغول عنها بحاضره.
وقبالة هذه المحلات، في البقعة المفتوحة، تربض السيارات والدراجات النارية، التي يحرسها شابان نشطان، تراهما في حركة ذؤوبة؛ هذا ينفخ في صافرته، أو يساعد سائقا على ركن سيارته، وذاك يستخلص من الزبناء، فتراه يولج يده في الزجاجة المطلة على مقعد السائق من السيارة، ومن دون أن تترك عيناه باقي السيارات يكمش كفه على ما قدمه السائق، ومن تم ينتقل إلى أخرى. ربما ساهما حتى في تنظيم حركة السير أيضا.
راقبهما قليلا، فوجد أنهما لا يكفان عن الحركة، كل عضو من جسدهما يتحرك بتناسق كالآلة، اللسانان والأيدي والأقدام. ثم فجأة، وفي غفلة منهما تحركت سيارة مركونة في آخر الطابور، وخرجت عن الصف، كان المستخلص مع زبون تأخر في إعطائه الأجرة لما أبصر السيارة الخارجة، فشرع في الصياح والهتاف مستوقفا سائقها.
انتبه صديقه فلحقها جريا، لكن السيارة كانت قد صارت أبعد من أن تُدرك، وهنا انطلقت الألسن بما تيسر من الكلمات الساقطة، صادف المشهد مرور رجل ملتح وزوجته المنقبة، فانتظر إدريس ردة فعل ما، ولكن شيئا من ذلك الذي توقعه لم يحدث، فترك الجو محتقنا بين الصديقين ومضى؛ كان كل منهما يحاول إلصاق تهمة الإهمال وعدم الانتباه إلى الآخر.
مر بين السلع المعروضة على البُسْط المنشورة بطرفي الرصيف، وإلى اليمين في الأرض الترابية غير المرصوفة يمر مجرى الماء المستعمل الخارج من بين البيوت القصديرية، وقد صار أسود تنبعث منه رائحة الحمأ؛ يمر محاذيا الرصيف إلى أن يصب في بالوعة بالشارع، وفيما بعد سيعرف أنه ليس في الحي قنوات للصرف الصحي، ما يضطر السكان إلى حفر حُفَرٍ يطمرون فيها فضلات أمعائهم، أما مياه النظافة وغيرها فيتم تصريفها خارج البيت ما يشكل مجاريا تخترق الحي وتتدفق إلى الشارع فتبتلعها بالوعات شبكة التصريف، أما إن اختنقت هذه البالوعات بالأوساخ الصلبة والأكياس البلاستيكية فتتشكل البرك العفنة في كل مكان.
مشى بين البسط بحذر، فدافع الناس بكتفه وهو يطالع السلع المعروضة والوجوه؛ وجوه شاحبة وغاضبة، تبدو بعضها كالقنابل الموقوتة. من الباعة من يعرض أشياء متراكمة لا تصلح لشيء، ولكنه لاحظ أن الناس يقبلون عليها بطريقة عجيبة؛ فترى الرجل وسط البساط، يقلب السلعة بيديه، وهي في الغالب متلاشيات لا بد أن صاحبها قد جمعها من قمامة العاصمة والأحياء الراقية.
يفتش الناس وسط تلك الأشياء المتراكمة، والبائع يصيح بعباراته التي قد تصلح لنص كوميدي، وترى الزبون يقلب ما يسمونه سلعة بيديه وبتفانٍ تام كأنه يبحث عن إبرة مفقودة؛ قد يطأ بقدمه شيئا آخر فيكسره، ولكن، لا أحد يهتم، ولاحظ أيضا أن بعض الباعة يتعاطون المخدرات علنا، وبعضهم يعرض سلعته في عربته المدفوعة أو سيارته.
لم يغره الوقوف عند سلعة، ولا الانكفاء على بساط ما كبقية الناس، بل فضل السير، فراوغ بعض الباعة الذين يعرضون سلعتهم وهم واقفون في سبيل المارة؛ يقف الواحد منهم وسط الممر، عارضا ما بيده من سلعة على كل من مر أمامه، وسلعهم في الغالب إما هواتف، أو ساعات يدوية، أو حتى ملابس وأحذية مستعملة.
وجد في طريقه جوقة من الناس متحلقين حول صاحب سيارة يعرض سلعة غير واضحة من شدة الزحام، أراد أن يتطلع إلى ما الذي يعرضه؟ وما هذا الذي جذب الناس بهذا الشكل؟ وقد أسعفه عنقه الطويل الذي مده بين الرقاب ليتطلع إلى ما هناك، فوجدها أحذية مستعملة متراكمة، والناس منهمكون في نبشها، حتى إذا ما راقت أحدهم فردة حملها بين يديه وشرع في البحث على زوجها، إلى أن يكتمل بين يديه زوج جيد، فيفاوض البائع في الثمن. كانت سيارة التاجر مرقمة بأرقام أوربية، وكان التاجر مرفقا بامرأة شقراء، ربما هي زوجته، إلا أنه هو وحده من كان يفاوض الزبناء، أما هي فمكتفية بالمشاهدة، ومراقبة السلعة بين الأيدي.
في غمرة الزحام، أحس كأن كفا تلمسه عنوة في مؤخرته فالتفت بسرعة، ووجد خلفه شابا على وجهه علامة جرح ممتد من أذنه إلى فتحة شفته، ربت الفتى على كتفه مهدئا إياه وكأن شيئا لم يحدث، فراقبه إدريس وهو يمضي إلى أن زرع نفسه في جوقة أخرى.
ركز عينيه عليه، فلاحظ أنه يحاول دفع يده خلسة في جيب شخص منحنٍ على تلك السلعة التي تجمع الناس حولها، كأنه كان منحنيا لأخذ شيئا ما، وبمجرد ما استقام الرجل واقفا، وهو يقلب كماشة بين يديه، كان الفتى قد نشل من جيبه هاتفا محمولا، أدار إدريس عينيه بين الناس، فلاحظ أن النشال قد كان تحت مرأى كثير من الباعة، ولكن أحدا لم يتدخل.
وجد أمامه ـ غير بعيد ـ طريقا ضيقة مؤدية إلى ساحة فسيحة مملوءة عن آخرها بالخردة والمتلاشيات المعروضة على البسط الصغيرة والكبيرة، فتمشى قليلا بينها، ثم توقف ساهما، عاودته الرغبة في الذهاب إلى البحر بعد هبوب نسيم رطب، ولكنه وجد متعة في البقاء ومطالعة أحوال الناس، وفي غمرة تيهه وقف عليه شاب نحيل وهو يمد له ساعة يدوية، فرد عليه مصدوما:
ــ عفوا يا أخي، لا رغبة لي فيها.
ــ با با با...
فهم أنه أبكم، فوضع راحته على صدره وانحنى معتذرا، لكن الأبكم أصر على وضعها في يده، ورغم أنه حاول التنصل منه، إلا أن الساعة قد صارت بمعصمه، ثم شرع الأبكم يقبل رؤوس أصابعه مجتمعة، دلالة على أنها وجدت اليد المناسبة، ومما زاد ورطة إدريس أنْ تدخل أّحد المارة فاستحسن منظر الساعة وموقعها من يده، وأضاف:
ــ تعاون معه، لا بأس، اعتبرها صدقة، لن تخسر لو أعطيته خمسين درهما مقابلها! ثم وضع يده على معصم إدريس وقد قرب وجهه من الساعة، وأردف:
ــ إنها ماركة سويسرية، ثمنها الحقيقي يتجاوز الألف درهم.
ــ خذها منه إذن،
ــ سامحني، أنا، ها هي عندي،
قال هذا وهو يكشف عن ساعة في معصمه، ثم مضى وهو يتمتم بكلمات.
هَمَّ إدريس بنزع الساعة من يده، لكن الأبكم خطف يده وقبلها، ثم فرد أصابعه الخمسة أمام وجه إدريس وهو يتوسل، استخرج إدريس ورقة من فئة عشرين درهم وعرضها عليه، لكن البائع الأصم امتنع أولا، ثم قبِل العرض في الأخير، خاصة لما نصل إدريس الساعة من معصمه، ووضعها في الكف اليمنى للبائع، فمد الأبكم يده لالتقاط الورقة النقدية ثم انصرف ساخطا.
أمسك إدريس الساعة بيده، حار في ما سيفعل بها، ثم فكر بألم:
ــ لا بد أني سأصبح غدا في السجن مجددا، فمصروفي على هذا النحو سيدفعني إلى السرقة كي أعيش، وأنا لا أتقنها.
كانت نيته أن يقتر على نفسه حتى لا يفلس من ليلته؛ وللاستدراك خمن أن بإمكانه المبيت ليال عدة في الخلاء، ربما في الشاطئ، أو في محطة القطار، أو غيره، على أن يبحث عن عمل في البحر إلى أن يستقر به الحال.
مذ كان في السجن وهو يخطط لركوب البحر في مركب صيد تقليدي، أو أقلها ليشتغل في المرسى أولا؛ كأن ينظف المراكب، أو أن يساعد في تفريغ الحمولة... المهم أن يبقى بجانب البحر، وأن ينفتح على أمواجه الفضية ومياهه الزرقاء، وحده البحر يستحق الإعجاب، مياه زرقاء تلد أمواجا فضية.
كان غارقا في أمواج فكره، يمشي بين الباعة كمن يسير خلال النوم، والساعة لا تزال في يده، إلى أن استوقفه رجل:
ــ بِكَمْ؟
انتبه من غفلته لما علم أن السؤال موجه إليه، ودون سابق تخطيط وضع الساعة في يد الرجل على طريقة الأبكم، ثم قال باسما:
ــ جرب أولا، ولا بأس بخصوص الثمن،
عدل الرجل وضع الساعة في معصم يسراه ببطئ، ثم قال:
ــ طيب، كأنها صممت لي شخصيا.
طالع إدريس الرجل فحدس من خلال هندامه أنه رجل ذو دخل سمين، فقد كان يرتدي قميصا أبيض وسترة شديدة السواد، أما حذاؤه، فقد كان من الجلد، راقيا وملمعا، مما أوحى له أنه لا بد جاء راكبا سيارة، ثم تذكر أن ذلك الرجل قبل قليل قد أخبره بأن ثمنها يضاهي الألف درهم، فرد عليه بكل لباقة:
ــ يا أخي، إن ثمن الساعة في الحقيقة باهظ، ولكنني في حاجة إلى مال، ثم أردف مستفزا إياه: وربما لا أظنك قادرا على دفعه.
ــ أجل، أعرف أن هذا النوع غال، وأنا أريدها لنفسي، وسأشتريها منك على أن تخصم لي قليلا.
ــ أنت يا ابن الأصل الطيب أحق بها، ومساومتك عيب علي، أعطني فيها ثمان مائة درهم وهي لك.
ــ أرجوك !
ــ ...
ــ أعطيك خمسمائة؟
ــ يا أخي، والله لو كان الأمر بيدي، فما كنت لأبيعها، ولكن، لما قدر الله بذلك، فأنت يا ابن الكرام أولى بها، زدني مائة وخمسين، والله وليي.
قدم الرجل المال لإدريس، ثم ذهب جذلا والساعة معه، لكنه ترك إدريس عالقا وحائرا؛ عدَّ المال مرات ومرات، فركها ورقة تلو الأخرى، وفكر مع نفسه:
"هل كان هذا الرجل ملاكا أرسله الله لأجلي؟ أم إني في يوم حظي؟ ثم ماذا عن الأبكم؟ وقبله النادلة؟
فجأة قرر البحث عن البائع الأبكم، فربما ما كان بشريا، بل كائنا بُعث ليُفهمه شيئا خفيا، ربما بعثه الله بسره كغراب قابيل وهابيل، وربما هذا يعني أني ظلمت هابيل/فاطمة.
جال في السوق قرابة نصف الساعة بحثا عن صاحب الساعة ليتيقن إن كان آدميا أم لا، فأرهقه الإعياء وأيقن أنه لن يجد الأبكم أبدا، خاصة وأن السوق كان غاصا بالناس.
مر بالقرب من صاحب عربة يبيع فيها وجبات سريعة، فتنادت أمعاؤه طلبا للأكل، ولبى النداء.
كان صاحب العربة مشغولا بقلي السردين المحشو بالتوابل، وأمامه على الشواية رُصَّتْ قطع الدجاج مصفوفة فوق الجمر المتوهج، وقد احمرت أطرافها فصارت شهية ومغرية، طلب منه سندوتشا مكونا من أربع حبات سردين ونصف خبزة.
أخذ السندوتش من يد صاحب العربة، وعض طرف الخبز مباشرة بعد جلوسه على كرسي بلاستيكي، فسال المرق على أصابعه، فلعقها وتابع أكله بلهفة وتلذذ؛ لقد وجد السمك طريا وهائلا، وهو لم يذق طعاما مستساغا طوال المدة التي قضاها في السجن.
كانت وجباتهم فقيرة وعفنة؛ إما قطاني تسبح حباتها في ماء أصفر، أو مرق أحمر بخضر قليلة وغير صالحة للأكل لولا أنها فرضت عليهم، وعليه هو خاصة، لأنه لم يكن في إمكانه الاستغناء عن وجبات السجن كبعض ممن عرف؛ أولائك الذين كانوا يعيشون في ترف. أما اللحم في السجن فقد كان كالخشب، وهذا أفضل تشبيه وجده.
بعد فراغه من الأكل دفع للبائع عشرين درهما ووقف منتظرا الفكة، ولكم دهش لما رَدَّ إليه صاحب العربة أربعة عشر درهما؛ عرضها في راحة كفه، وعدها قطعة قطعة، فوجد الوجبة رخيصة، بعدها سأله عن ثمن فخذ الدجاج المشوي، ولما أخبره أنه بعشرة دراهم، مدها له في الحال، ثم طلب معه قليلا من الصلصة، فجعل يغمس الفخذ فيها ويرفعه ليلتقمه بفمه، وهكذا إلى أن أتى على آخره، ثم مص العظم امتثالا للمثل المغربي السائر:
"اللذة كلها في العظم".
قام من مكانه وقد أحس بالشبع والارتياح، فأخذ ورقة معلقة بجانب العربة، وفيها مسح يديه، ثم التف مغادرا، وهنا التقى بالأبكم صاحب الساعة، فبادره بالتحية واضعا يده على صدره وانصرف مرتاحا.