كم يلزمني يا والدي من الفرح كي أخطو نحو الأمل، كم يلزمني يا والدي و أنا الموجوعة بفقدك من الصبر على فراقك، و كم يلزمني من الصمت كي أنصت لهمسك و أنت تحدق في السقف و توصيني بأن أعتني بنفسي و بوالدتي، كم يلزمني من القدرة على النسيان كي أنساك يا والدي، و أنسى خروجك من البيت على غير رغبة منك محمولا فوق أكتاف الرجال، و خلفك القرية تبكي و تولول ذارفة دموعها عليك و على فراقك. لنا الله يا والدي و لنا هذا المدى الممتد من الحزن و الصمت المطبق المكمم لأفواهنا، و لنا هذا الحب الساكن بين جوانحنا الذي يحمينا و يحرسنا...
الجراح النازفة و الخنجر المغروز في الخاصرة و القلب المكلوم بفقدك، و هذه المسافات الممتدة من المواجع تتوه فيها المشاعر و يقبع خلفها الفرح مديرا ظهره إلي محدقا بنظراته الجامدة في مرابعي المحاصرة بالأحزان الساكنة في كل مكان، في الحقول التي لم تزهر أزهارها و لم تورق أشجارها، و في الجداول التي نضبت مياهها، و في أعشاش العصافير المهجورة، و في القلب المكلوم المحاصر بالمخاوف و الخيالات.
كم يلزمني يا والدي من الدموع لأذرفها على قبرك كلما زرتك و أنت الراقد بين اللحد و اللحد.
أراك الآن قادما نحوي بأكوام من السعادة تغمرني بها و ترسم لي بها دربا لم أتمكن من السير فيه بعدك، فأقف مشدوهة، و تنتابني الحيرة و أسأل نفسي كيف تحرم نفسك من الأفراح و تؤثرني؟ و عجبت منك يا والدي كيف تمد إلى فمي اللقمة و تظل جائعا، فتشبع لشبعي؟ و كيف تدثرني و ترضى بالبرد فتشعر بالدفء عندما يغمرني دفء عواطفك؟ عجيب أنت يا والدي. أراني الآن قادمة نحوك فتفتح لي ذراعيك و تحضنني، فأدس أنفي بين أثوابك و أتعطر بسحر الأبوة و روعة الإحساس بالأمان.
لم يبق لي من كل ذلك غير هذه الذكريات التي يحدق بعضها في بعض في حيرة و اكتواء.
جالت هذه الخواطر في نفس سعاد و هي تقف محدقة في صورة والدها المثبتة على الجدار، والدها الآن تراه ذكرى بعيدة، لكنها لن تمحى، ها هو أمامها بوجهه المورد و عينيه الطافحتين حبا و صدقا، و تلك الابتسامة الجامدة تمنح الصورة جاذبية و سحرا، تراه الآن كما كانت تراه منذ عشرين عاما يفتح لها ذراعيه و يرفعها عاليا ثم يضمها إلى صدره و يضع وجهه فوق عنقها ليتزود منها بعطرها الطفولي العذب، تراه الآن يجمع الأفراح و يحملها إليها و يغمرها بها فيتركها في فرح عميق ثم يمضي كأن لم يكن له هم سوى إسعادها.
سعاد سمّاها و أصر على ذلك، و لم يرضخ لرغبة والدتها التي أرادت أن تختار لها إسما من أسماء إحدى الممثلات اللاتي يطللن عليها عبر الشاشة. أصر بعناد حاد، و أقسم على ألا تحمل ابنته سوى ذلك الإسم، و أبر بقسمه و لم تنفع توسلات زوجته و لا أخته، و أمر ألاّ تنادى ابنته إلا بالإسم الذي اختاره لها، و هدد من لا يستجيب لأمره تلميحا لزوجته التي رفضت في البداية طلبه، و أصرت أن لا تسميها سوى رغدة، لكنها في النهاية أذعنت خوفا لا رضى.
ليالي العمر لا تقاس بكم الساعات التي نقضيها، بل بحجم الآلام التي نكابدها و المواجع التي تقض مضاجعنا، و حياة سعاد كم هائل من المواجع و المآسي، تآلفتا حتى لا انفصال بينهما رغم سعيها الدؤوب إلى أن تنعم ببعض السويعات من حين لآخر حين تزور إحدى جاراتها، أو تزورها إحدى قريباتها خلال الأمسيات التي لا يكون لها ما يشغلها. و ها هو العمر ينفلت من بين سنواتها العجاف، لا تكاد تمسك بطرف الحبل حتى تفلته يدها المرتخية أعصابها في شبه إعياء و خيبة. أعرضت عن الزواج وفاء لذكرى رافع بن خالتها الذي احتوته الغربة و انقطعت عنها أخباره و ظلت تتعقبها سنتين كاملتين ثم أسلمت الدفة لقدرها يبحر بها حيث يريد.
ما كان والدها ليرد لها طلبا لو كان حيا، و ما كان ليرغمها على شيء، ذلك الوالد العظيم الشامخ بعنفوانه، كالطود كان لا أحد يقدر على زحزحته...عجيب أنت يا والدي، من كان يظن أنك سترحل بذلك الشكل المفاجئ، لم يمهلك الموت لتلملم أفراحك، لا تزال ذكرى ذلك الصباح الجارح عالقة في ذاكرة سعاد، حين أرسلتها والدتها لحمل فطور الصباح لوالدها، فقد تعوّد أن يتناوله باكرا، فما أن خطت داخل الغرفة حتى صرخت و لطمت خدها و فخذيها ثم سقطت، و نهضت و جرت متعثرة في هلعها و حيرتها، و مرقت من البيت متناثرة الشعر حافية صارخة منادية والدتها التي كانت منشغلة بإيقاد الموقد للشاي " بابا...بابا...بابا..." ثم تهاوت و لم تدر ما حدث بعد ذلك. صورة والدها ظلت موشومة في الذاكرة، شبه ابتسامة تعلو الوجه الذي فقد حيويته و بريقه، العينان المحدقتان في السقف في جمود، و الفم المفتوح و على حافته اليسرى تيبست قطرات دم قان، و الجسد البارد المكوم في صمت و سكينة.
ها هي سعاد الآن و قد مضى على رحيل والدها حين من الدهر تكابد كي تنسى و لا تقدر، تريد ان تنسى لكن النسيان لا يطاوعها، يتأبى يرفض اختراق ذاكرتها و يمعن في تعذيبها، أنساها أحب الأشياء إلى قلبها، أنساها طفولتها و صباها، أنساها كل شيء، و أبقى على المواجع و الآلام فقط، تحدق في الآفاق البعيدة فيرتد بصرها خائبا حسيرا، هي الموجوعة بفقد والدها و غاليها، و هي المسكونة بالحزن الملازم لها، و حيدة تركاها و رحلا، الأب احتضنته الأرض التي عاش فوقها، ثم انصهر فيها، و رافع أغوته الأوهام و رحل، و ظلت حزينة تعد أيامها و لياليها في رتابة.
تنتقل ببصرها بين صورة والدها و حرف R المنقوش وشما فوق معصمها فيشتد وجيب قلبها و تخنقها العبرات، و من بين الدموع تتراءى لها العينان في شبه حركة و الابتسامة المرسومة على الشفتين تتسع و الوجه تتدفق فيه الدماء و تسري فيه الحياة، و خيل إليها ان كل ما في الغرفة صار يتحرك متجها نحوها، صار كل شيء يتحول إلى والدها، أنى التفتت رأته قادما نحوها، تمتد اليد إلى شعرها، تداعب خصلاته كما كانت تفعل، و إذا الابتسامة تتسع، و تصبح البسمة ضحكا و تسمع قهقتها، هي نفس الضحكة التي كانت تملأ أرجاء البيت حين يصفو له الدهر فيغاضب والدتها، ثم يعود ليسترضيها، كانت ضحكته تلك إيذانا بالصلح الحاصل بينهما... صوته محفور في ذاكرتها، حفظت نوتاته كمعزوفة موسيقية تدربت على تعلمها حتى أتقنتها، صوته العذب الذي لا لوثة فيه و لا درن، صوته الصافي من كل الشوائب، صوته الفريد الذي لا يشبه صوتا غيره، وحدها كانت تعرف نبراته، تستقرئ الحالات التي يكون عليها والدها، تعرف غضبه و فرحه و مناكدته لزوجته من خلال النبرات...صارت الغرفة كلها أفواها مبتسمة، اتسعت شفاهها و تعرت أسنانها. هالها المشهد و أطربها و أفزعها، أغمضت عينيها و وضعت كفيها فوق أذنيها كي لا ترى و لا تسمع، فإذا الأصوات حولها تخترق السمع، و إذا الحركة حولها تعظم و تصير كل الأشياء أياد ممتدة نحوها تلامسها تشدها من أثوابها...أرادت أن تصرخ فلم تقدر، أحست أنها فقدت القدرة على الكلام.
و فجأة نادها صوت والدتها الذي علا فوق كل الأصوات ليقتلعها من ذكرياتها و ينقذها من خوفها و هواجسها " رافع ولد خالتك جاء من إيطاليا هيا نمشيو نسلمو عليه."