قرَعْتُ الباب بهدوءِ الحَذِر، انتظرْتُ لثواني مَضَتْ بطيئةً كدَّهْرٍ، صوتٌ دَعَانِي للدخولِ، اعتقَدْتُ سبقَ سماعه، كان المدير جالساً على كرسيِّه الفَخْمِ ، يشاهد التلفاز ويعبث بجهاز التَّحكم، رافعاً قدميه فوق مكتبه، فعَادَتْ ذاكرتي خمْسَةَ عشرَ عاماً إلى الوراء.
جاء الطبيب المُقِيمُ الجديد، أنيس، خِرِّيجُ إحدى الجامعات الروسيَّة، أذناه كبيرتان بشكلٍ مُلفِتٍ، شفتاه غليظتان قليلاً، بوجهه بعض الشحوب مع طيبةٍ ظاهرةٍ.
مرَّتْ أسابيع قليلة على وصوله إلى المشفى الجامعيِّ، بدَتْ الحقيقةُ مؤلِمةً، فالطبيب الجديد رغم شهادته المُعترَفِ بها، ومُعَدَّلهِ المؤَهِلِ لاختيار اختصاصٍ كالأمراض الباطنة، إلَّا إنَّ معارفه الطبيَّة تعادل مستوى جدِّيَّ الفلاح بذات الموضوع.
أثار أنيس للأسف سُخريَّة الجميع، أساتذةً و زملاء، مع ذلك كان متماسكاً بشكل واضح، أبدى الجديَّة في العمل، وما تخلى يوماً عن مظهره الأنيقِ.
الحقائقُ القاسيَّةُ بدأتْ بالظهورِ، فوالده التَّاجر مُفْرِطُ الغِنَى أبى على ابنه إلَّا أنْ يدرس الطبَّ في روسيا رغم أنَّ شهادته الثانويَّة أدبيَّة.
عاد من موسكو بعد سبع سنوات دراسةٍ ، ومعه شهادة طِبٍّ بدرجة جَيِّدٍ جداً، زوجةٌ فائقة الجمال، ووكالة تجارة أحذيِّةٍ روسيِّةٍ في حلب.
حاول أنيس تعلَّم ما فاته من معلوماتٍ طبيِّةٍ، رغم صعوبة البدء من الصفر تقريباً، فبعد درسٍ مَلْغُومٍ لأحد الزملاء الخبثاء في تشريح الأعصاب، ظَّن برسوخٍ ما كان لقُرىً نائيةٍ، تسميةً لتلافيف دماغيَّةٍ.
نالَ بعد سنواتٍ أربع شهادةَ الاختصاص، ويبدو أنَّ طيبته الشديدة لعبت دوراَ، وما تَسَرَّبَ عن أزواجٍ من الأحذيَّة الروسيَّة وصلت إلى مَنْزِلَي مُديرِالمَشْفَى، ورئيس القِسْمِ.
يوم حصوله على الماجستير، سَقَطَتْ والدتُهُ على الأرض مُغمَىً عليها من الانفعال الشَّديدِ، نطق الدكتور أنيس فوراَ:
- تحتاجُ أمّي لطبيب أمراضٍ باطِنَةٍ، استدعوه بسرعة!
اختفت عنِّي أخبارُ أنيس لسنواتٍ، ظهر فجأةً على شاشات التلفزة العربيَّة والعالميَّة، مُثَقَّفَاً مُمَثِّلاً للمجتمع المدني في إحدى تظاهرات الرَّبيع العربيِّ الصاخبة.
سقط البلد كُلّهُ ضَّحِيَّةً لفوضى خَنَّاقةٍ أودت بالبشر والحجر، أصبحتْ حلب مَدينةً مُدمَّرةً، عيادتي القريبة من قلعة حلب أصابتْها قذائفُ مباشرة أحالتها إلى أنقاضٍ .
ضاقت بيَّ سُبُلُ العيش، و خُفْتُ على عائلتي، قررْت الرحيل بانتظارأيَّامٍ أفضل.
شاهدت على الإنترنت إعلاناً لِمشْفَىً في جدَّة يطلب طبيباً للأمراض الباطنة، أرسلْتُ أوراقي و انتظرْتُ.
جَاءَنِي اتصالٌ من إدارة المشافي في وزارة الصحَّة السعوديَّة، وافق مَبْدئيَّاً على عملي لديهم، لكنه اشترط حضوري إلى مشفى جدَّة الوطنيِّ لمقابلة المدير قبل تأكيد العمل.
دَقَّاتُ قلبي تَسارعَتْ من الفرح، فالخوف من الرَّصَاصِ والقنابل شارف على النِّهايةِ.
بَلغْتُ بِشِقِّ الأنْفُسِ معبر العريضة ، بعد أيَّامٍ وليالٍ من الرَّعْبِ الأزرق.
حين أقْلَعَتِ الطَّائرةُ السعوديَّة من مطار بيروت، اعتقدتُ أنَّ سنواتي السَبْعُ العِجافُ قد اقترب آخرها.
وصلتُ إلى بهو المشفى الأنيق، لمحتُ عَرَضَاً صورة المدير بابتسامةٍ مُمَيَّزةٍ بين كوادر المشفى، تتصدر صالة الاستقبال الرَّئيسيَّة.