الآن: المدينة هذا اليوم ما بين الظلام، يد الظلام تمسك بها بيد من حديد، فتغرقها في السيل العرم من الفوضى، المدينة تبوح بوجعها، حيث حاصروها تجار الدم بالأوغاد، والحشاشين..
قطعوا عن طرقها الطرق، وعن سمائها السماء؛ الصوت يأتي منها يشبه نشيجا محموما، الناس تقول من هناك، بان الناس قد غابت عن هناك، الناس كلها مستغيثة:
- قد مزقوا ثوبها للمرة الألف، وتركوها بلا شبكة للموبايل، أو هاتف ارضي إذ عزلوها عن الشمس، منعوا فيها الصحف، والانترنيت، والرجولة، والخضار، ورائحة الأمل: اتصلتُ بمن بقي هناك، اتصلت بمن علق هناك.. اتصلت بآمالي الكبار وبحدسي تواصلت الأخبار، بالأخبار..
يقولون لي: بان ما بين دمار ودمار؛ دمارا أفظع من الدمار، وان ما بين رجل وآخر موتا حاضرا، وان ما بين موت وموت جيفا تنتشر ما بين الجثث وأصحابها، والموت صار الحاضر بين الأحياء، ما من موت يتخلص من الجيف، والجيف تحاصرها الفكرة، لأجل ان تبوح بالفطيسة بدلا من قداحها، ولكنه اليوم نفسه الذي تخظلت مسرة الخضرة الطازجة بالبارود، بعقوبُ يا قمراً كنت على ديالى، وفرسا عصية اللجام على خراسان، بعقوبُ يا آسرةُ التائبين عن تحريف التاريخ، ومفتاح الأجاص والزعرور إلى مواسم العطاء.. هل بعقوبُ أغنية المارد الذي أعطى وشاحه إلى المشمش والآلو بالو...
فما ارخص الإنسان عندما يُستخدم جهله، وما أبشع سلاح الجهل، الذي يعد فتاكاً كأسلحة الدمار الشامل، يقفش المرء من عقاله، ويجره إلى التهلكة، يجرّ العشيرة من مكانها ويجبرها ان تستدرج ذاتها بذاتها إلى الهاوية، فكم من جهل دمر، وكم من دمار أوقعه الجهل، والعدو يعرف بان الجهل سيد الأسلحة، ويدرك جيدا ماذا يتقن، فكك التاريخ وعاد به الى وراء، وفكك الفهم وعاد به إلى أمام، وما بين أمام ووراء سقط الدمار، وسقط الإنسان جاهلا في الهاوية، وبقي المشهد يتكرر..
بعقوبُ يا سوءة طريق قصر شيرين، ويا غبش العصاري عند حافات المصائر، وعصرية الشاي الحار.. ألا تسامحين من مضى إلى الشرق، وعاد عازما على الإذلال، الست أنت يا بعقوبُ المسار إلى المسار، وأنت الاتجاه الى الاتجاه، وأنت من رأى الأقواس الهاونية تذبح مدارس الأطفال، وأوراق التهديد، تزيل المهابة، فما من بقية لأسئلة، ولا بقية من صمت..
يا سرُّ الإسرار، كيف أصبحت اليوم؛ برتقالٌ يسير كالدم العصي على التخثر، كيف أضحيت عصية النسيان، وفيك ساحة البرتقالة التي يعدمون فيها القلب الذي يضحك في المساحة، ويهزا من المسافة، ويعيدون فيك التاريخ بالسيف والنطع، ويعدمون بالمسدس؛ احدهم سال الأطفال: كيف تريدوننا ان نميت هذا المرتد بالسيف أم بالمسدس، واختاروا الاثنين معا...
بعقوبُ مسار الله في أسبوعه الكامل، حيث الصلاة تقام بألف مغدور، والفتاة باغتصاب متسلسل، من قاضي القضاة حتى حرس الحراس، قبيل حفلة الإعدام، والتعذيب، والوشاية..
بعقوبُ المسلة والخان والمنجرة، بعقوبُ بهرزٌ، وام النوى، والعنافصة، فما كانت خطيئة العراق ان يكون عراقيا، فالأب الجائع باعوه بألف مئة ومائة إلف دولار، والظل المتخفي تحت سماحته بالحق الذي لا يحق إلا عند الذين يردونه لهم، وجثته بعد حين بيعت بألف مئة تومان..
بعقوبُ من فيك له كل هذه الأصابع، المليونية، التعددية، الديمقراطية حيث تقتل القتيل والقاتل، والتقتيل ديدن لا يفرق بين متوال ومتواز أو متعامد، التقتيل بالعراقي لأنه العراقي، والتقتيل بالهواء لانه يهب بالهواء، ويعيث المجد بمجده كلما يلتقي القتيل بهوية القاتل، ويلتقي القاتل بوجه القتلة، ويبقى شاهد قتل متواصل بالقتل، حيث المروحة ذاتها علق فيها ابن الأخت خاله، وابن العمة قرينة، وجلبت بكليهما هواءً اسمه أن لم تقتلني سوف أقتلك، وان تتركني فأنني لن أتركك، وان أخلصت لي فاني سوف اخلص بخلاصي منك..
بعقوبُ دم أضاع شكله، ورائحته، وفقد عذريته إذ أصبح غير مثير، وأصبح يسير إلى النهر ليغير لونه بلون النحاس، والتاريخ ما عاد تاريخا يتحمل حضور الكومبيوتر، ولا حضور بهجة النص الذي لا معنى له.. بعقوبُ حزن المدينة الأكبر، ومحاصصةُ الوضع الإقليمي، فالوضع الإقليمي يرى بأننا لسنا بشر، ودمنا ليس حقيقيا، وعقلنا ليس عقلا، وأننا لسنا مستحقين الثروة التي تحت أقدامنا، ولا التاريخ الذي صار تاريخنا، فهم على الرغم من كل شيء لن يكون إلا تاريخنا، والعقل لم يكن إلا عقلنا
سحر على البيوت، والأزقة التي كانت تفوح الحمائم برائحة شبعها، وعصافيرها برائحة الأغنيات، والصبياتُ الناهداتُ بعقوبُ؛ القداحُ الفواحُ بعقوبُ، قافلة الندى، ونسيم طيب، واليسارُ في الفكر بعقوبُ، أو لأقل بوضوح؛ الفكرة المتسلسلة في القصص التي كتبتها ونشرتها لي مدن الابتلاع والسكوت.. بعقوبُ خط الحريق ومسار النار من البساتين الى البساتين، وبعقوبُ الضحكة الصافية للنبع الذي تغنيه فيروز، بعقوبُ كم أنا متألم؛ إذ كل حرف فيك قصة، وكل حرف منك مدينة قلب، وكل قلب منك قمر وشجيرة تكي او نبق او تين او زيتون او بستان، تلم العصافير كل مغرب، أفق بعيد إلى المساحات.. كيف حويت المدن وخرائطها، وطوائفها، بهذا الزحام، بعقوبُ الإعلان البارد في زمن الهجير، وزمن العطش ما بين نهرين متجاورين.. كنا نسبح على شواطئ النهر البعقوبي، وكانت تأتي إلينا التفاحات والبرتقالات، والرمانات، والرقيات......الخ، واليوم صارت تأتي إلينا بجثث المغدورين.. بعقوبُ تفاحة طائفة بين الروح والأحقاد؛ ما كان يحدث هذا لأول امرأة أراها في أول الأحلام، تفاحة طائفة بين الروح والمسارات، ما كان أن أراك بكل هذه التلال من الإزبال؛ بعقوبُ الانفعال والإنثيال المبكي، البكاء يتواصل بالبكاءـ لدم وجثة؛ بعقوبُ أي بكاء مهراق هذا الذي يخرج دما وليس دمعا؛ بعقوبُ برتقال حزين تيسر له ان يمشي مطرق الرأس، كسير، إلى المطلق، تسير حافية عبر الخندق المؤدي إلى بساتين اليباب، بعقوبُ أبواب الذكريات والفشافيش والتكة، قداحة النهر الذي يمتد سباحة إلى المصب الأخير.. المسيح سار على الماء، وكذلك البرتقال، وتبعته الجثث، ولحقته النسوة الباحثات عن مسلة الحياة..
أين ابني: قال لها.. ربما تجدين رأسه بين الرؤوس في كيس تركوه في نهاية الزقاق، أضاف طفل بان الرؤوس تركت نظيفة، ومغسولة من الدم ليتسنى لأهلهم التعرف، أو بين دهاليز المنهولات التي سددت منافذها لكثرة ما لم تحتمل من الجثث، وتسير بعقوبُ، تسال عن ابنها: ضائع أو مختطف، قتيل أو مغدور؛ بائس عمره كله، أبعقوبُ خيمة صبر اقتلعتها عاصفة الجوار؟؛ بعقوبُ ميسرة الدخول للداخلين، ولكنها غير ميسرة الخروج..
بعقوبُ كنت خيمة الهاربين من حرب الخليج الأولى، وفي الثانية كذلك، ولكنهم اليوم هم من يستبيحك، وهم من يوشي ببرتقالك، الآن: بعقوبُ جدرانها، دولارات، وتومانات...
بعقوبُ مدينة خضراء، لورقها الخضر سميت، وخضارها مياه آسنة تسوّد كل حين.. بعقوبُ الرماد إلى المجد الزائف، وبعقوبُ البعيد اليوم القريب أبدا، ماذا يجري فيك اخبريني فكم أنا مشتاق إليك، والى شفاف دروبك الفارعة، والى شغاف نهرك العظيم..
بغداد
الأربعاء، 27 حزيران، 2007