تتفجر الأرض ضبابا، تنهمر من السماء قطعُ سحب كصخور نارية، زخات داكنة تقرع الأرض في صوت مائج يرجرج المكان، سيول لزجة متدفقة تخترق كل الضفاف حولي، وأوْحال في غليان هائج تنبعث منها أشباه فقاعات عملاقة متناسلة لا يحدّ انفجارَها تكاثرها اللامتناهي... تتقلص الرؤية فتستحيل أمامي المرئيات ظلالا وأشباحا بأشكال هلامية يستصعب التحقق من طبيعتها. تمور الأرض من تحت قدميّ، أصرخ ملء قواي، فلا يُسمَع لصراخي صوت ولا لنداءاتي المتوسلة.
يتأجج هذا الاضطرام الداهم، وجوده العملاق غير قابل للمغادرة، وكل المؤشرات لا تدل على رحيل محتمل. أمدّ يدي اليمنى التي انفصلت عن بدني نحو ما يتراءى لي من هذه الأشباح والأخيلة، لكن ضجيجا صاخبا يعلوه صفير حاد يخترق رأسي، فيفجر دماغي وما تبقى من أعضائي. تواصل يدي انبساطها صوب وجوه كثيفة لا أخطئ تقاسيمها، تنظر إليّ بعيون نافرة ملتهبة، تتعاظم ضحكاتها والقهقهات منها تدك جسدي...
لكني بدون جسد! أهو مجرد إحساس بالجسد ينتابني!؟
تطأ سمعي الآن خطوات كالقرع على الطبول والصنوج، تدنو مني رويدا رويدا، أطلق ساقي للريح، فتتسع خطاي مسافات كلّما عظمت سرعتي، لكنها لا تطوي غير الفراغ السحيق.
من ألقى بي في هذا.. !؟
لم أتمم مخاطبة نفسي حتى كاد يهوي على رأسي صندوق أسود قاتم، يأوي حبالا ومسامير ومطرقة ضخمة. أيقنت بأنه تابوت.
من يبتغي دفني!؟ التابوت للموتى... لست ميتا أنا...
أجدني بلا وعي أردّد بعضا من كلام الرجل الهرِم في قصة زكريا تامر.
- أهي مؤامرة من أبنائي كما في القصة!؟
يتعالى صوتها صخبا، أتبيّن ملامحها الآن جيدا. تخطو في اتجاهها أصابعي منبسطة ودودةً، تردّ عليها بقهقهات مزبدة راعدة... تشرع في جرجرة التابوت الأسود، لكنها تتراجع فتطرحه أرضا. تغير الاتجاه نحو قصد محدّد، تحطم المزهرية على مكتبي، وتشرع بجنون في سحق الأزهار بقدميها العريضتين المسطّحتين. تغوص في مكتبتي، تنتقي منها كل أعمالي، تُقطعها بأنياب متوحّشة إربا إربا... وعلى حين غِرّة، تندلع من يدها نار مستعرة، فتلقي بلظاها الحارق على جبل الكتب أمامي...
تتلقف بيد من عمق الصندوق المطرقةَ الضخمة، وبأخرى تجرجر التابوت نحوي من جديد.
يشتد الضباب والزخّات الداكنة وهي تتقدم...
أطلق العنان لصرخاتي الهوجاء...
لا أسمع لها صوتا ولا لنداءاتي المتوسلة.