كثيرة هي الكتب ، في الساحة الثقافية ، التي تهتم بالنقد العربي ، وقليل منها ما يبقى راسخا في الأذهان . فعندما تبحث عن الأسباب ، التي تبوئ هذه المراجع المكانة المتميزة والراقية في خريطة النقد العربي ، تجد السدى المتين الذي يشد بناءها المعرفي المتماسك ؛ مقاوما بذلك عوادي الزمن ، وتقلباته المعرفية والثقافية . فعلى المستوى المنهجي ، إنصات كلي إلى المناهج الحديثة ، وما جادت به من نظريات تخدم تلقي النص الأدبي ، منفتحة تارة على ثقافة الآخر ، وعلى ما يدور في فلكه من نصوص نقدية تارة أخرى . أما على مستوى الفكري ، فانتظام الأفكار فيها وتسلسلها يخلق عالما من التأمل و التحليل ، ويكبد القارئ مشقة إعمال العقل بقوة ؛ لاستبانة إشكالاتها المعرفية والثقافية والتاريخية ، وتدفعه ـ أي القارئ ـ نحو أخذ مسافة الأمان بينه وبين النص الأدبي ، مبرزا موقفه تجاه ما يعج بها من نظريات وأفكار ومعارفَ . أما على المستوى اللغوي ، فتصيد المعجم المناسب ميسم دأبت عليه هذا النوع من النصوص المتميزة ؛ بهدف تفكيك واستجلاء الغامض والمبهم من المفاهيم والقوانين الثاوية فيها . تلكم أهم توصيفات كتب الكاتبة اللبنانية حكمت صباغ الخطيب المعروفة ب : يمنى العيد .
في أحد حواراتها ، مع الدكتور أحمد الجرطي ، التي جمعها في كتاب " رهانات الخطاب النقدي العربي " ، أكدت يمنى العيد على أنه من المفروض جدا الانفتاح على ثقافة الآخر ، ولا خيار في ذلك ، بهدف السير قدما نحو تحديث الثقافة العربية ، وعدم القصور فقط على التراث النقدي العربي ، وما استصدره من مصادر أغنت الخزانة العربية بأمهات الكتب النقدية . من الجاحظ إلى حدود عبد القاهر الجرجاني ، تنوع فسيفسائي كبير في الدرس الأدبي والبلاغي ، فما كان ليمنى العيد إلا أن ارتأت أن تمزج بين ثقافتين ، بالرغم من التباين المنهجي الحاصل ، الذي يفصل بينهما .
ففي كتابها " في معرفة النص " جعلت من المسألة النقدية ، التي تواكب النصوص الأدبية ، تنظيرا للأدب ، بل أكثر من هذا أضحت الممارسة النقدية نشاطا معرفيا موضوعها الأدب . وفي هذا الصدد ، طرحت تساؤلات عمقت بموجبها منسوب الإشكالية النقدية من قبيل :
ـ هل هدف النقد هو إنتاج نص أدبي ؟ أم أن النقد نص أدبي فرعي يرفع الغموض و اللبس عن الأصل؟
إن المزية التي استخلصتها ، يمنى العيد من هذه الإشكالية ، هي أن النقد ، كنص مواز ، يعيش مأساة حقيقية ، وذلك عبر إطلالتين ؛ أولاهما أنه ـ أي النقد ـ عبارة عن نص يكرر الأول إما عن طريق الشرح والتفسير والتوضيح ورفع الغموض والإبهام ، وإما عن طريق المقارنة بينه وبين نصوص أخرى . وفي هذه الحالة ، ينظر إلى الأثر الأدبي من منظور النصوص المهاجرة في الثقافة الإنسانية . ثانيتهما أنه موسوم بالخيانة المطلقة للنص الأول ، وبالتالي فهو غير أمين على أفكاره ومعارفه . في هذه الصفة، التي تلازمه تلازما مطلقا ، يبني مجده على حساب النص الأدبي الأول ، وبالتالي فهو يهدم من أجل أن يبني صرح المعرفة ؛ إنه هدم وبناء . فالثقافة النقدية ، بذلك ، تستقدم تدمير الذات من أجل الحصول على البناء الجديد . وفي هذا ، كانت ترى يمنى العيد في المنهج البنيوي ، للفيلسوف الفرنسي رولان بارت ، خير إطار تتبلور فيه نظرتها إلى النصوص الأدبية ، حيث إن النص ، من منظور البنيوية ، يكون معزولا عن سياق تاريخي واجتماعي . وهذه الظاهر تنبني ، بالأساس ، على عزل عنصر من بنائه الخاص لدراسته دراسة مستفيضة .
تجعل يمنى العيد من محاضرات الفيلسوف السويسري فردنان دوسوسير ، مرجعا أسياسيا في البحث الفكري والمعرفي من خلال ثنائياته السيميائية المعروفة ، التي بلور بها فردنان نظرياته المعرفية الخاصة باللغة . ونتيجة لذلك كانت الدياكرونية و السانكرونية ، عند يمنى العيد ، مدخلا أساسيا لدراسة الرواية العربية .
جاءت رواية " موسم الهجرة إلى الشمال " ، للروائي السوداني الطيب صالح ، النص الأدبي المثالي ، الذي سيخضع للتشريح البنيوي من قبل الناقدة يمنى العيد ، بهدف المسك على الرؤية الفنية ، التي تحرك الروائي الطيب صالح . فمهما سعى الفنان الأدبي إلى إخفاء لحظة تملكه خيط الإبداع ، إلا أن النقد يحفر بمعاول ليعري عن هذه الرؤية ، التي يرنو بها الروائي إلى واقعه . تندرج رواية الطيب صالح " موسم الهجرة إلى الشمال " ، حسب يمنى العيد ، في خانة الصراع الزمني بين لحظتين متنافرتين ؛ لحظة الغربة والبعد عن الأهل في السودان ، ولحظة تملك الأوراق من طرف الراوي الثاني الذي سيحمل مشعل الحكي في الرواية . ليحل الموت ، بعد ذلك ، كلحظة فاصلة بين هاتين اللحظتين في الرواية . ومن ثم استبدلت يمنى العيد هذين الزمنين بزمن القص وزمن الواقع ؛ فالأول ابتدأ بعودة مصطفى من بلاد المهجر؛ لندن ، والثاني يبتدئ من لحظة تسلم الوصاية ، والتي هي عبارة عن أوراق سرية للراوي .
انطلاقا من هذه الرؤية الزمنية في الرواية ، استطاع الطيب صالح ، حسب الناقدة يمنى العيد ، أن يعقد قرانا بين تملك الوطن و القوة الجنسية ، التي يتمتع بها البطل مصطفى ، فبالرغم من التدني و الإحساس بالنقص تجاه الآخر ؛ الغرب المسيطر والمسلح بالمعرفة والعلم، إلا أن التفوق الجنسي يملأ حفرا لا تكف عن الامتلاء . فبالنظر إلى المنهج المتبع ، عند يمنى العيد ، في تناولها بالدراسة والتحليل لرواية الطيب صالح " موسم الهجرة إلى الشمال " فإن إبراز الصلة التي تربطنا بالآخر ، والتي تصل إلى حدود العقدة حسب تعبير علم النفس ، تلامس من خلاله الناقدة هذا المنهج البنيوي ، الذي يحفر عميقا في مكون الأثر الأدبي ؛ ويقوم بتفكيك مكوناته وآلياته .
هنا ، يمكننا أن نطرح سؤالا يبدو لي جوهريا ، إلى أي حد استطاع هذا المنهج البارتي ، نسبة إلى رولان بارت ، من أن يتمثل روح رواية الطيب صالح ؟ وهل استطاعت يمنى العيد أن تغير من تمثلاتنا للآخر الغرب المهيمن؟
في هذا الصدد ، تنضاف رواية الطيب صالح " موسم الهجرة إلى الشمال " إلى قائمة الروايات الرائدة ، التي اتخذت من الغرب مادة دسمة للحكي . فبغض النظر إلى الجيل المؤسس ، والمتمثل أساسا في السيرة الذاتية " في الطفولة " لعبد المجيد بنجلون ، نجد روايات أخرى رائدة في هذا المجال . ف" الغربة واليتيم" لعبد الله العروي روايتان ، ينتقد من خلالهما الواقع الاجتماعي ، فضلا عن ذلك يثير الكاتب ، بشكل متفاوت ، علاقة المجتمع المغربي بالغرب . كما أن رواية " المرأة والوردة " ، لمحمد زفزاف ، تذهب في هذا الاتجاه .
تبقى هذه النصوص عالقة بالأذهان ، فمهما اجتهد النقاد في دراسة مكوناتها عن طريق اختيار أحد المناهج الحديثة ، فإنها تبقى ، في نظري ، عاجزة على الإمساك بالرؤية الفنية التي من خلالها يحيى الإبداع الحقيقي . فالنص الروائي يحاور نصوصا أخرى غائبة وغائمة ، فالمنهج وقتئذ يكون عاجزا على تمثل الفسيفساء الإبداعية ، فالمنهج البنيوي مثلا يعتوره نقصان ، عندما يرنو المبدع إلى وقائع خارجة عن النص اللغوي .
فلا حياة للإبداع دون إثارة قضايا تاريخية وسياسية وأيديولوجية وإنسانية خارجة عن الواقعة اللغوية ، لذا يبقى الحكي زئبقيا ، ينفلت من بين أصابع النقاد . ولأنه ـ أي الحكي ـ متجدد باستمرار؛ فإنه يستطيع أن يترسخ في الأذهان ، ويحجز مكانه عند المتلقي مهما تبدلت النوازل ، وتغيرت الفصول .