" .. لكني ما لبثت أن اضعت صوت الولية فيحاء في زحمة الصيحات من حولي واشتداد وقع الخطى والأحذية المصفحة .. " (ص:361)
هل أضاع " زين شامة " صوت الولية فقط ؟
1 ـ نهاية لبدايات متعددة ..
تلك نهاية الرواية " زين شامة .. المعطل بينكم " للروائي بنسالم حميش، نهاية جمعت الرواية وفتحت لها ـ من جديد ـ بدايات تطل على الآتي.. الآتي الذي يتتبع الخطى.. خطى الذين صنعوا وانصهروا مع أحداث الرواية، وبنوا فضاءاتها وأحداثها، مداخلها ومخارجها وأسرارها، آلامها وآمالها.. أو الآتي البكر الذي لا يزال في رحم التكوين التخييلي في ذهن القارئ الذي أنهى الرواية، ليعيد إنتاجها ببناء خاص، يكون امتدادا لنهاية فتحت للآتي هوامش الإبداع والمغامرة والانطلاق..وبما أن القراءة وجه آخر للكتابة، وخوض لغمار لعبة السرد، كتابة أو تخييلا أو تماهيا..فإن القارئ الذي تعول عليه الرواية / القراءة لم «يعد مجرّد مستهلك للنص بل أصبح مشاركاً فيه بصوره أو بأخرى»(1)
نقط الحذف الثلاث التي انتهت بها الرواية، دليل على أن السارد أنهى الرواية ولم ينه الحكي، ليترك للقارئ هامش التخييل والانطلاق، نحو فضاءات يبنيها اعتمادا على تراكمات سابقة، ليكون للقراءة معنى، وللأحداث أن تتخذ لها أساسا من واقعٍ مرٍ فارغ من الأمل والانتظارات، إذ هو الواقع المستمر والساري فينا، ونحن الذين نصنعه معطلون ، محكومون وحكام، سلبيون أو مؤثرون.. بل هو من يُعلننا قرَّاءا باحثين عن التغيير فينا أولا ، ثم في محيطنا ثانيا..
فالقراءة خطوات.. والخطو سير واندفاع إلى الأمام، إلى خوض مجاهل الحياة، إلى البحث عن أحداث لبناء جديد ينهض على أكتاف شخوص جديدة تحضنها فضاءات جديدة، فنطازية أو حقيقية.. أو من الواقع قريبة..
النهاية القوية تحريض على البحث في الآتي، فيما وراء نقط الحذف الثلاثة.. استمرار الحكي الذي سكنت عنه السارد، وانفتاحٌ لخوض أفاق فتحت لها الرواية نوافذ يشع منها السر منكسرا على ضفاف تمتد بعيدا، تنفتح ببطء على المدى،، لتنسج عالما يأخذ من الرواية امتدادا وبحثا في اسرار عوالم جديدة تنتظر من القارئ أن يلجها سيرا على خطى " زين شامة " وآخرين..
النهاية في " زين شامة.. المعطل بينكم " توقُّعُ، استمرار للنص باستمرار المجتمع الذي تتوالى أحداثه ومواقفه ولا يتوقف عند نقطة النهاية والجملة الأخيرة والصفحة الأخير، بل تتعدى ذلك إلى خوض المجهول الذي ملك القارئ مفاتيح بداياته..
النهاية هنا، لا تعني التوقف، لأن التوقف موت ، ولكنها ترسيمة ذكية لبناء نص جديد، يرصص أحداثه وفضاءاته وشخوصه كل قارئ يسعى وراء لذة ومتعة القراءة أولا، ثم خوض مجاهل عالم يعج بالأحداث والمتناقضات والأبطال الذين يؤثرون أو موجَّهون.. أو "زين شامة" آخر معطل، يحاول التحليق إلى عوالم الانعتاق والانطلاق والفعل، فتنكسر أجنحته ويُداس بالأحذية المصفحة.. ويضيع منه الصوت ليعيش آلامه وآماله، لتنكتب في أعماقه بداية جديدة....
2 ـ وماذا بعد ؟..
النهاية تترك للقارئ هامشا واسعا لطرح السؤال.. وماذا بعد ؟.. للبحث في آليات البناء الروائي، في اللغة، في اختيار ورسم الفضاءات..في إعادة الاعتبار للشخوص المؤثرة في الأحداث، في استمال اللذة والمتعة القرائية، في الوقوف على مؤثثات الحكي الروائي من لغة وبناء وفضاءات وأحداث وأزمنة.. وفي خوض غمار التخييل لوضع أسس جديدة لبناء سرد جديد..
3 ـ وبعد، هل أضاع " زين شامة " صوت الولية فقط ؟
الضياع والعطالة وما يدور في فلكهما، سمات تناولتها الرواية كتيمات تؤكد بهما رداءة الواقع، ودناءة الحكام وزبانيتهم، الذين يصنعون للمواطن حياة على مقاسهم، فيُعطلون حياته، ويتحكمون فيها ويديرون دواليبها حسب هواهم حين يُقَوْلبون مواطنين يكثرون الالتفات خوفا ،والهمس خنوعا، والانكماش صَغارا، وقبول الواقع المفروض ديموقراطية، كما يوزعون العيون، والقمع والاستبداد، والبطش والاستنطاق في تربة تتعاقب عليها سلالات يحترفون المكر والخداع والكذب ليُثبّتوا حكمهم على أساس من التفرقة والبطش..
" زين شامة " أو " زين الدين بن علي الرامي "، واحد من كثيرين سحقهم التعطيل، فانسحقوا تحت الأحذية المصفحة، التي تترك الأثر في النفوس المهزوزة والخائفة والباحثة عن دائرة الظل للانكماش..
العطالة والضياع، سمتان بنى بهما السارد أحداث الحكي عبر متتاليات يغوص بهما إلى عمق الذات الحائرة، والمتصارعة مع واقعها الذي ينغل بالمتناقضات التي تخدم الطغمة الحاكمة، وتنسف أحلام المواطنين الذين يجتمعون في بطل الرواية، البطل المقهور، المعطل، الضائع والباحث عن منافذ النجاة والحياة الكريمة..
العطالة في الرواية جاءت في معاني كثيرة، عميقة، أعطتها دلالات يتخذها المعطل " زين شامة " وآخرون مطية لكسر حاجز القمع والاستبداد، والتسلط والقهر، واتخذت لها ـ بفنية وحرفية عالية ـ مسارات أعطتها رؤيا تمتد على طول الخيال الذي يصنع الأحداث، وتسير بالقارئ إلى نهاية ستكون البداية، وذلك عبر متتاليات للبناء الروائي التي وظفها الكاتب توظيفا عمَّق به المعنى الحقيقي للمعطل الذي عطّلوا حياته ليجعلوا منه مواطنا لا يرى.. لا يسمع .. لا يدافع عن حقه المسلوب عنوة ..
1 ـ السجن..تعطيل للحرية، للإرادة.. في نفس السياق يظهر المارستان كسجن من نوع آخر تمارس فيه كل أنواع التعذيب والحرمان واللاإنسانية..
2 ـ الخبل..تعطيل للفكر، والعقل والوعي، ووضع الفكر في خانة ضيقة لا ينفذ إليها النور..ينظر إلى الأشياء بعيون تكاد تنغرز في صور الواقع التي ينهض عليها الفكر الحاكم..
3 ـ التجوال والتيه..تعطيل الخمول والسكون والركون إلى الواقع الغائص في الوحل والذل حد الموت
4 ـ الحب..تعطيل للكره وموت القلب، الحب الذي حارب من أجله " زين شامة " ليرتفع به عن واقعه وليعبر به عن وجوده..الحب الذي جعله إنسانا رغم سطوة "الحاج الزبدي"..
وبين هذه المتتاليات، تسير الحياة/الأحداث سيرها "الطبيعي" الذي يصنعه الفريق الفهد والذي صنعه من قبله اللواء الليث وآخرون..
وبعد، في خضم هذه الأحداث، هل أضاع " زين شامة " صوت الولية فقط ؟ أم أنه هو الذي ضاع بين ألوان صنعتها الأفواه الهاتفة بالأماني الكاذبة حين تتدرج بين "الكموني" و"الكاكي"، وألوان أخرى إلى القمع أقرب، كما ضاع حلمه الذي عض عليه بالنواجد، وحبه الذي تحُفُّه النار والخوف والتلصص و "الحاج الزبدي" الذي كان صورة لمجتمع ينسج مخاوفه الليث والفريق وغيرهما، الذين لا يرون في الإنسان إلا تابعا يخاف ظله قبل أن يخاف حاكمه وزبانيته المتلصصين على رقبته، يحسبون عليه شهقاته وزفراته، ولا يسير إلا حانيا رأسه يطلب السلامة والاختباء..
غير أن "زين شامة"، رغم أنه يصطدم بالقمع الذي يجثم على الأرض، يُحيل المعطلين راكعين لا يستطيعون السير إلا منكفئين، معطل إيجابي، بمعنى أنه يحاول تغيير ذاته والمحيط، فهو يقرأ، يحب، يمارس حياته ولو بالضئيل من المواجهة، يصطنع الهبل والحمق ليسُب أعداء الوطن، يحاول ابتداع عالمه الجديد مؤكدا أن تحدي المنغصات ولو بالسخرية قد يدخله في خانة من رأى منكرا فليغيره..
(1)ـ فوزي عيسى، النص الشعري وآليات القراءة، ص 9.