موضوع الشهرة أو الانتشار الذي يحصده بعض المشتغلين في الحقل الرمزي دون سواهم من الظواهر الإنسانية الأكثر استشكالا ، يتجنب الكثيرون الخوض فيه ، ويربط البعض ممن يقدم على ذلك الشهرة بالعبقرية أو الذكاء الخارق أو النبوغ أو ما شابه هذه الصفات ، و التي و إن كانت تلامس التفسير ، فإنها لا تمسك به. بينما يرد البعض الانتشار بشكل ميكانيكي تبسيطي إلى عوامل من خارج الحقل الرمزي، من الحقل السياسي في الغالب، و من الحقلين الاقتصادي و الإعلامي في حالات عديدة، و من الحقول الثلاثة مجتمعة و متداخلة في أحسن الأحوال. و ضمن كل هذه الأنماط من قراءة ظاهرة الشهرة ، تبقى المنتوجات الرمزية التي من خلالها و بها تحقق الانتشار لصاحبه بعيدة عن كل نبش و حفر و تفكيك ، و الحال أن في ثناياها و بين تضاريسها يوجد التفسير ، أو على الأقل الجزء الأهم منه.
و قد يكون تأخير عالم الاجتماع الفرنسي الشهير بيير بورديوPierre Bourdieu محاولة البناء العلمي لظاهرة الشهرة إلى آخر مشواره ذا دلالة عميقة ضمن حديثنا عن استعصائها ، و هو الذي نبش في أشد الظواهر و الوقائع تعقيدا و تمكن من بنائها علميا ، و أزاح – بذلك مثلا – قناع البراءة و الحياد عن المؤسسة التعليمية ، وكشف تورطها في السياسة باعتبارها جهازا في يد السائدين لممارسة العنف الرمزي و تطبيع الحرمان و الفاقة إلى جانب الغنى الفاحش و الاستهلاك السفيه، و كذا لإعادة إنتاج نفس علاقات القوة داخل المجتمع من خلال المسالك التي تتيحها لأبناء كل شريحة اجتماعية على حدة. كما رصد استمرار استفحال التمييز بين الرجل و المرأة و الطابع الذكوري للمجتمعات الغربية التي لا تفتأ تدعي الديمقراطية و المساواة ، كيف ذلك و الأستاذة الجامعية الغربية تبوح بكونها " تجد زوجها الذي يشارك في أعمال المطبخ رجلا ينقص من رجولته " ! كما يسجل بورديو. إلا أن إثارة الموضوع المتأخرة لم تكن مانعا أمام جعلها مدوية باتخاذها شكل إعلان ميلاد علم جديد هو الذي أطلق عليه بورديو اسم " علم الأعمال الفكريةscience des œuvres، و نحت أو إعادة بناء مفاهيم خاصة تمكنه من مجابهة وقائع الحقل الجديد ، كمفهوم "الحقل ")إعادة بناء( ، و الميكروكوزم Microcosme )الحقل الصغير أو الجزئي كالشعر أو الرواية أو القصة مثلا داخل الحقل الكبير الذي هو حقل الأدب( )نحت(، و "الحرب" داخل كل حقل وكل ميكروكوزم بين الفاعلين فيه ...الخ. و هذه أرضية صلبة يعتمدها العديد من الباحثين اليوم بعد وفاة بورديو ، ستمكنهم لا محالة من كشف ألغاز العديد من القضايا الممتنعة إلى حد الآن )انظر موقع بورديو على الانترنيت و خصوصا كتابه "Raisons pratiques-sur la théorie de l action" ، و كذا تعاليق العديد من الباحثين عليه ، و بالضبط على الفصل المعنون ب :"من أجل علم الأعمال الفكرية"( ، و قد يكون موضوع الشهرة التي ينتزعها بعض الكتاب دون غيرهم على رأس القضايا التي سيتم فك شفرتها خلال العقود الأولى من القرن الذي نحياه. فكيف تحققت للكاتبين المغربيين محمد شكري و محمد زفزاف؟
ربط الانتشار بالعوامل الخارجية أي التي من خارج الحقل ، لا يفسر الظاهرة كما بينا في البداية ، و دعم السلطة السياسية أو الحزبية أو الإعلامية أو كلها مجتمعة لهذا الأديب أو ذاك ، حتى و إن كان من الصعب إنكار اشتغالها كوقائع و خلقها و ترويجها ل"أعلام" ، فان هؤلاء إما أن يأفل نجمهم مع أفول نجم السلطة أو الحزب أو المؤسسة الإعلامية ، أو أن انتشارهم يظل محدودا أو مشوبا بالشبهات. و في كل الأحوال لا يكون لانتشارهم ذلك الطعم اللذيذ و تلك الجاذبية الفادحة ، و كثير منهم ينتشر و يشتهر سمسارا أو بوقا أو مستكتبا مؤجرا لسانه بائعا حبر قلمه، و البون شاسع بين معنى الانتشار هنا و المعنى الذي نقصده.
و التفسير ب " الكتابة بلغة الآخر")المستعمر السابق في الغالب( ، لا يصمد أمام الحفر بعمق ، صحيح إن هذا الآخر (بالنسبة لسياقنا) يتحكم في دواليب إنتاج الأفكار و خصوصا في رواجها كما أكد ذلك تفكيكا الفيلسوف ميشيل فوكو ، ولنا نحن اليوم بعد فوكو نماذج فاضحة على ما انتهى إليه ، كما الحال بالنسبة للمعرفة المتعلقة بالطاقة النووية التي يحتكر الغرب أسرارها و يتحكم في منعها على الآخرين ، أو يجود بها بلا حساب على من تخدم مصالحهم مصالحه و تستجيب لرهاناته. إلا أن هؤلاء الكتاب بلغة الآخر لا يتحقق لهم الانتشار الذي نقصده ، يفسده و يحرمهم منه وصفهم من طرف الكثيرين بتورطهم في مشاريع ما بعد استعمارية مباشرة ، أو ب"فلكلرة ") من الفولكلور( الثقافة و الرموز الخاصة للوطن الأصلي ، أو بالهروب من الواقع بعد العجز عن مجابهته، أو الوقوع ضحية التغريب )بالنسبة للكاتب الشرقي( و الافتتان المخدوع بثقافته و نمط عيشه ...الخ. و عموما تبقى شهرة هؤلاء منقوصة مهما سطع نجمهم. و للإشارة الضرورية ، فليست المسألة أبدا قاعدة تنطبق على كل كاتب بلغة الآخر ، فكم من العمالقة الذين كتبوا بلغة هذا الآخر و حققوا العالمية في أقصى صورها ، و لكن بتفجير لغته و التمرد على الرسمي و السائد فيها ، بل و الهجرة فيها إلى تخومها البكر ، وكل ذلك من خلال التمكن من بناء عوالمهم الخاصة التي غالبا ما تكون جزئيا أو كلية على أرض ذلك الآخر ، و يعتبر الروائي و الشاعر المغربي الراحل محمد خير الدين مثلا من النماذج الساطعة في هذا السياق.
يوصينا بورديو في مبادئه الأولية لعلمه المعلن تجنب سلك مثل هذه السبل إن نحن ابتغينا الإمساك بما من شأنه أن يفسر الظاهرة بالفعل ، و يلح على أن نظل داخل العمل الفكري أو الأدبي ، و أن نقيم فيه ، و إن نحن خرجنا ، فمن أجل قلب تربة الحقل أو الميكروكوزم و الحفر فيها. و لا يأتي استنطاق العوامل الخارجية و الضرب عليها بالمطرقة إلا مكملا )طبعا ضروريا( في آخر المطاف.
إن محمد شكري و محمد زفزاف لم يكونا في بداية مشوارهما سوى مدرسين عاديين في قطاع التعليم الرسمي )بعد مرحلة تشرد طويلة و فظيعة عاشها الأول على الخصوص( ، مغمورين إلى حد الفداحة ، الأول بطنجة ببيت من غرفة واحدة يؤويها ليلا لينام على "كارتون" ،و الثاني بالدار البيضاء بشقة متواضعة حد التقشف. و لا علاقة لهما بالسلطة و أهلها ، كما لم يتبث عليهما انتماء ل"حزب" سياسي، و لم ينتبه لهما الإعلام إلا بعد أن ذاع صيتهما في أصقاع الأرض ...، و المهم من كل هذا الكلام أن ربط انتشارهما بعوامل خارجية لا يفسر شيئا على الإطلاق.فمن أين جاءت شهرتهما؟
نضيف أن الشهرة و الانتشار الفعليين لا يشتريان بالمال ، ولا تحققهما أبواق الدعاية ، و لا اللحى المطلوقة على عواهنها حد القذارة ، و لا شعر الرأس المربوط من الخلف على شاكلة بعض القدامى ، و لا البوهيمية الفجة ، و لا الاشتهار المشبوه بجعل زاوية حانة إقامة أولى بعد البيت ، و لا الطعن في الثقافة الخاصة و رموزها و نعت كل من مانع ضد قيم العم سام بالارتكاسية ! كما بات ذلك موضة أو سبيلا نجسا للفتات عند بعض الانتهازيين ...، كل ذلك و غيره لا يصنع الانتشار و الشهرة بالمعنى الذي تحقق لشكري و زفزاف. أما ما يجعلهما يغازلان الجديرين بهما ، المنذورين لهم فهو مدى قدرة هؤلاء وحجم استعداداتهم لخلق و صيانة "عالمهم" الروائي أو القصصي أو المسرحي أو الشعري الخاص بهم، و التضحية بكل ما من شأنه أن يمس به أو يوجهه أو يحرفه مهما كان إغراءه و مهما كانت المنافع ( المادية) المضمونة منه ، إلى الحد الذي يجعل أعمال الروائي أو القصاص أو الكاتب المسرحي أو الشاعر هي و ذلك العالم الخاص وجهين لناذر مثير واحد هو العمل الروائي أو القصصي أو المسرحي أو الشعري ، و هو في الوقت ذاته " العالم الخاص" المشبع بقوة الجذب و الإغراء لقراءته. و لا مجال عند الانتقال من "العالم الخاص" إلى "العمل الإبداعي" للانفصام و التشرذم و التوزع ، و لا للأصباغ و النفاق ، للانتصار لقيمة في "العالم الخاص" و لنقيضها في "العمل الإبداعي" ، لمواقف حادة و مغالية في جرأة بطل الرواية أو القصة...، بصدد عشق الوطن مثلا ، و تهريب صاحبها ( الرواية أو القصة) أبناءه لمتابعة تعليمهم بالخارج عبر قنوات الزبونية وإصراره الفظيع على ألا مكان لهم للعودة إليه (هنا بالوطن) لأنه مقبل على الإفلاس ! . أو إشراقات شعرية ترسم بالحبر أو على الحاسوب المرأة ، و الرجل ينحني أمامها إعلانا )لغويا( بمساواة فاحشة بين الجنسين ، تخرج نصف المجتمع من حال مقموع المقموع و الشلل ، ولكن سلوكات شهريار و كل طقوس الذكورية المريضة داخل البيت على الأرض . تظاهر بالراديكالية و التمرد خلال الوضعيات التي تسمح باقتناص الرمزية ، و مواقف في غاية الرسمية و النمطية و الامتثالية حين تقتضي ظروف أخرى ذلك ...الخ. لا متسع في "العالم الخاص" للروائي أو الشاعر أو القصاص أو الكاتب المسرحي لمثل هذا الانفصام و التشرد ، لمثل هذا الموقف أو السلوك أو القيمة في ذلك العالم و لنقيضه/ها في منتوجه الرمزي ، يتعلق الأمر باستمرارية في أقصى معانيها إن لم نقل بذوبان هذا في ذاك. ألم يؤكد الشاعر اليوناني الخالد قسطنطين بتروس كفافي على كون أشعاره هي تقطير لوجوده ، بمعنى أن الشعر ليس أبدا مجرد أحاسيس و مشاعر بل هو أولا تجارب تعتمل داخليا في الأعماق و تمسك بالكينونة كما تمسك الكينونة بها ، و تتحين اللحظة الحاسمة التي تترجم فيها إلى تحف رائعة. و ما ينطبق على الشر، يخص الرواية و القصة و الكتابة المسرحية أيضا.
و من قدر له أن يستمتع بقراءة الأعمال الأدبية لمحمد زفزاف من بدايتها مع المجموعة القصصية "حوار في ليل متأخر" - 1975، إلى رواياته المتعددة التي لم يفقد أي منها رونقه و جاذبيته ) "المرأة و الوردة" 1972 ، "أرصفة و جدران"1976 ، "بيضة الديك"1984 ، "محاولة عيش"1985 ، "الثعلب الذي يظهر و يختفي"1989 ...، وباقي أعماله القصصية الغزيرة ( " الأقوى" ،" الشجرة المقدسة" ، "غجر في الغابة" ، "الملاك الأبيض" ، "بيوت واطئة" ، "بائعة الورد" ،"العربة" ، "سردين و برتقال" ( ، و قدر له في نفس الوقت أن يلج "عالمه الخاص" أو على الأقل أن تكون له فكرة غير مغلوطة عن ذلك العالم ، لابد أن يستخلص كون رواياته و قصصه هي نفسها في كل شيء فيها ذلك "العالم الخاص" الذي تمكن من خلقه ، طبعا بعد صياغته فنيا و إعادة إخراجه إبداعيا ليتخذ شكل تحف حقيقية تسحر القارئ و تتملكه، فالتمرد هونفسه هنا وهناك ، و الأطفال بعوزهم و براءتهم في "العالم الخاص" يقفزون أو يتسمرون شاحبين بين السطور ، و الثعالب في "العلم الخاص" شخصوا في ثعلب واحد لكنه يضاهيهم كلهم، و الأرصفة هنا كما هناك ، و القدح في ذلك العالم تقفز لذته إلى لسان القارئ من بين سطور النص ، و الكرم و نكران الذات و سخاء يد العون للمحتاج ) وللمحتال( في ثنايا الرواية أفعال في العالم الخاص يشهد بها القاصي و الداني ، كتب عن تجسيد زفزاز لها بشكل مذهل الكاتب العراقي فيصل عبد المحسن وهو يرثيه. لا مجال عنده للانقطاع بين "العالمين"، بل لا وجود أصلا لعالمين ، لأن الانقطاع مجلبة للصنعة و الزيف هنا أو هناك. و لا شهرة و لا عالمية حقيقيتين بالتصنع و التزييف ، و حتى إن حصلا ) بدعم من حقول خارجية( ، فإنهما لا يمكن أن يضمنا الاستمرارية و الانحفار في قلوب و وجدانات القراء. و حرصا منه على طرد كل شائبة من شوائب ذلك الانقطاع المهدد ل " العالم الخاص" و محاصيله معا ، لم يتردد زفزاف في التضحية بالوظيفة )الضامنة للعيش (! لأن في عالمه لا مجال ل"العيش" )الحياة بمقتضياتها لا مكابدة أدنى شروط الآدمية جنبا إلى جنب مع الاستهلاك السفيه لأقلية(،بل فقط لمجرد "محاولة عيش" )عنوان لإحدى رواياته 1985(، كما لا مجال في ذلك العالم للامتثالية و النمطية ، للمواقيت المحددة و الهندام المحدد و اللغة المحددة. كما ضحى بالحياة الأسرية ما دامت إكراهاتها/ امتثالاتها لا تتلاءم مع منطق "العالم الخاص" الذي شيده و الذي يعتبر كل من مس به تهديد لمشروعه، و هو ما لا تلامس مغازيه و عمق دلالاته بعض التحليلات المدججة بأحكام القيمة المكرسة لتأبيد النمطية و منع كل محاولة للتفرد ، فلا تتردد في نعت زفزاف و الكبار أمثاله بالشذوذ أو الجنون أو العبثية !!.
أما بالنسبة لمحمد شكري الذي –على العكس من زفزاف- اختار نحت السيرة الذاتية إلى جانب الرواية ، فان "عالمه الخاص" جلي ناطق إلى الحد الذي يجعل القارئ يجد صعوبة في التمييز بين "اللحم و العظم") في الواقع( و "الآلام المبرحة للتشرد") الفعلي( و "الأرصفة ليلا و غرائبها بطنجة" )على الأرض و...و...من جهة ، و كائنات النص اللذيذ الذي يعصره شكري . وليس المقصود هنا أبدا ما يسميه البعض بالواقعية في الأدب ، فكم من أشباه الأدباء و المبدعين تصنعوا كتابة ينسبها البعض للرواية و البعض الآخر للقصة ويراهن آخرون بها على تنصيبهم شعراء أو كتاب مسرح ، تحاكي الواقع في كل صغيرة و كبيرة فيه ، و كانت النتيجة مكتوبا ممسوخا فجا محملا تعسفيا بواقع خام كالخبز النيئ الذي بين يدي طفل و هو في طريقه به إلى الفرن، ما دام الواقع في هذه الحالة لا يمت بصلة لنسيج "العالم الخاص" لصاحبه ، بل يفتقد العديدون من هذا الصنف من "الكتاب" في الغالب الأعم لعالمهم الخاص ، و ما العمل الرمزي عندهم سوى مشروع للربح المادي أو للتظاهر بين جماعة الأقران في العمل ، أو لاحتسابه في الترقية الوظيفية ، أو لإكمال بناء البيت ، أو لدفع مصاريف تعلم الأبناء)في مدارس علية القوم في الغالب( ...، لا ، ليس المقصود ب "العالم الخاص" كل ذلك ، ليس أبدا الواقع كما هو ، فهذا يضمنا جميعا نحن البشر العاديين ، و المبدعين على السواء ، أما ما بناه شكري فهو عالم خاص به ، بشخوصه المختلفة مواقعها الاجتماعية الممتدة من العاطل و الصعلوك و الخادمة التي يحرص على عتقها من الأمية ، إلى الكاتب مثله ، و الأستاذ و الملاك الكبير ، و حتى الموظف السامي و الوزير. و أيضا بشخوصه المتعددة الجنسيات من الأسبان و الفرنسيين و الألمان واليابانيين و الأمريكيين ...، و كذلك بمجالاته أو فضاءاته المتعددة الممتدة من البيت المتواضع فوق سطح عمارة ، ولكن الصاخب بالحيوية حتى الساعات الأخيرة من الليل ، إلى حانات طنجة المتواطئة دوما مع عشاق الليل ، و أرصفتها المشوب صمتها كلما وضعت قناع النهار أوزارها، إلى دكان الأسماك الذي يفتخر صاحبه بعلاقته بصاحب "العالم" ، و حارس العمارة الذي يحترم ساكن البيت المتواضع أكثر من سكان الشقق لكرمه وسخائه كلما كان في وضع مادي مريح ) وهو وضع لم يكن أبدا تابتا و شكل هو الآخر جزءا من العالم الخاص ( ، كما شكلت مدينة أصيلة الصغيرة القريبة من طنجة جزءا أساسيا من فضاءات ذلك العالم الذي أثثه شكري بعناية و وفر له كل مسببات "الهدير" غير المنقطع ، و الذي كلما "اشتعل" ينتشي شكري لأنه يجد خزان عالمه الرمزي في أحسن أحواله ، يستفز للقطاف ، ويتيح له الأخذ بلا حساب ، بل و بأقل المشاق. و من يعيد قراءة أعماله حفريا ، سواء تعلق الأمر بالسيرة الذاتية أو الرواية ، يلاحظ كون شكري لم يكن في حاجة لكثير عناء و جهد لتخيل شخوص أعماله و أحوالهم الاجتماعية و النفسية و انفعالاتهم و ردود أفعالهم في المواقف المختلفة ، للبسطاء منهم و المتوسطين المعذبين و الممزقين ) ما دام أبشع حال للإنسان على الأرض هو أن يكون له الحق في أنصاف الأشياء أو أشباهها ، لاهو من هنا و لا هو من هناك( ! ، و من علية القوم و المتوهمين أنهم سادة....
فقارئ "الخبز الحافي" و "الشطار" و " زمن الأخطاء" و "مجنون الورد" و "غواية الشحرور الأبيض"، ناهيك عن "بول بولز و عزلة طنجة" و "جان جنيه في طنجة" ، و خصوصا القارئ الذي أتيحت له في نفس الوقت فرصة لولوج "العالم الخاص" لشكري لن يجد صعوبة في كشف اللاانقطاع ، بل الاستمرارية و التداخل في أبهى صورهما بين العالمين عند الكاتب ، "عالمه الروائي و القصصي الخاص" باعتباره وقائع على الأرض ، و "عالمه الرمزي" ) أعماله الأدبية( باعتباره معمارا فنيا رائعا أو نصوصا ساحرة يكتب لها الانتشار و الخلود، رغم ما لا يمكن تجاهله فيما يخص تواضع اللغة و التحكم في توابث الكتابة الروائية و كتابة السيرة الذاتية ، لا ، بل إن تجسيد شكري للاستمرارية بين العالمين في أرقى مستوياتها يجعل مثل تلك الأمور في عداد الثانوي ما دام الجوهري على قيد الشموخ.
و قد يقول قائل إن "العالم الخاص" الذي يتم الحديث عنه هنا ، إن هو سوى العالم السفلي للمجتمع بكل موبقاته الممتدة من الخمرة إلى "المومس" ) المرأة البائعة جسدها بالتقسيط( و ما بينهما ، وهو قول مردود بالمشهور عن عالم شكري – كما بينا سابقا – كونه ضم في نسيجه أساتذة جامعيين مرموقين و ميسورين مغاربة و أجانب، و كتابا و مفكرين تصرح أحوالهم برغد العيش ، و عديد من "علية القوم" من أصحاب المال و الجاه، بشكل أو بآخر لأن المهم هو أن يشملهم "العالم الخاص" و يغتني بهم.
ثم أليس هناك العديد من الشعراء و الروائيين و القصاصين و الكتاب المسرحيين على المستوى العالمي ينتمون اجتماعيا إلى الشرائح العليا من مجتمعاتهم، تمكن البعض منهم من اكتساح الشهرة و العالمية ؟ و القارئ الفعلي لأعمال هؤلاء و المقترب منهم و من مسار حياتهم، يكتشف أنهم إنما نجحوا لأنهم تمكنوا من بناء "عالمهم الخاص" بهم، و لا يهم إن كان عالما للرفاه و المتع و رغد العيش و لشخوص تسرف بشكل سفيه و لنؤومات الضحى ! المبدرة للملايين في مواد التجميل و عمليات تصغير أو تكبير الثديين و مواضع أخرى من أجسادهن حسب الموضة و بحسب توجيه الصورة الماكرة اليوم ...، المهم أن يصدق هؤلاء أيضا و يحققوا الاستمرارية بين "عالمهم الخاص" و "عالمهم الرمزي"، فتكون أعمالهم أدبا رفيعا في الغالب. و حالة الكاتب هنا هي نفس حالة المعلم تماما ، إذ ليس من الضروري أن يكون المعلم من العالم السفلي للمجتمع أو من المحرومين، لا بل إن العديد من البلدان خارج العالم المتقدم على الخصوص ترتكب اليوم خطأ جسيما بجعل التعليم العمومي حكرا على الكادحين معلمين و متعلمين و مشرفين إداريين و تربويين، و ينظر بعض المغفلين إلى المسألة باعتبارها مكاسب انتزعت ! ، و الحال أن مدرسا من موقع اجتماعي متميز يعلم محرومين قد تكون له قيمة مضافة هائلة بالنسبة لهؤلاء أولا، و بالنسبة للسلم الاجتماعي ثانيا، و حتى بالنسبة للسائدين أنفسهم ثالثا)وهو ما يغيب عنهم نتيجة جهلهم في الغالب(. فالمتعلمون قد يأخذون عن هذا المعلم القادم من موقع متميز نظافته و نظرته إلى الأعلى وبعض آفاقه و أفكاره العقلانية أيضا ) خصوصا حين لا يكون انتماؤه إلى العالم العلوي بالمال و الخيرات المادية فقط كما الحال عند محتكريهما عندنا( . ثم إن تفاعل هذا النمط من المعلمين الميسورين مع متعلمين محرومين و غير محرومين يخلق استعدادات مستقبلية للتعايش و السلم الاجتماعيين و يجنب المجتمع مفعولات التمييز شبه العنصري بين مدارس هؤلاء و مدارس لأولئك. كما أن مدير مدرسة من موقع متميز ماديا و رمزيا غالبا ما يؤثر على فضائها جماليا و على العاملين فيها علائقيا و ميتا معرفيا، و يهتم بنظافة مرافقها و يفتح إمكانيات لعلاقاتها مع محيطها، عكس المدير الكادح الذي يستغرقه عوزه و لا يجد في المؤسسة التربوية ! غير مسكن آمن يؤويه من بطش الكراء ،و فرصة ناذرة للإفلات من الفقر باختلاس ممتلكاتها مهما كانت قيمتها ، و التدليس في صرف ميزانيتها و التفنن في أساليب المكر و الدسيسة لضمان سكوت العاملين فيها، مما يحولها في آخر المطاف إلى مذأبة حقيقية لا صلة لها بمنطق التعليم و روح التربية. كذلك الشأن تماما بالنسبة للروائي و الكاتب القصصي و الشاعر و الكاتب المسرحي الذي مهما بلغ حجم الرفاه الذي يحياه، فإنه إن هو تمكن من نسج "عالمه الخاص" و جاء محصوله الرمزي مجسدا للاستمرارية و التناغم بينهما بعيدا عن كل تصنع ، فإن أدبه لا بد أن يكون رفيعا، و لا بد أن يفيد الناس من كل المواقع ما دامت اللذة في النص ليست مرتبطة قطعا بكون موضوعه هو الحرمان و أحياء القصدير، و تعدد الأطفال و شح الدقيق، و أطفال الشوارع و فظائع اغتصابهم ليلا...، إلى غير هذا و ذاك من مواضيع الآلام و الاحتراق الداخلي للقارئ. فالجميل و الفاتن و العذب و اللذيذ قد ينتجه هؤلاء و قد ينتجه أولئك، أم أن التحف لا ينتجها إلا المحروم ؟ ! كم هو مجحف الجواب بالإيجاب عن هذا السؤال تماما كما هو ظالم الجواب بالإيجاب عن السؤال: هل يحق للسائدين وحدهم أن يحتكروا خيرات الوطن و يمنعوا عنا سبل العيش الكريم الجدير بأن يعاش؟ ! . فهل نملك إمكانية إنكار الشعر عن جورج نويل غوردون George Noel Gordon ، ذلك الوجه الشامخ من وجوه الرومانسية الانجليزية إلى جانب وورد سوارتWordsworth و كولريدج Coleridge و شليShelley أو كيتز Keats ؟ هل يمكن إنكار ذلك على من تسجل في حقه موسوعة أغورا Encyclopédie de l Agora كونه "واحدا من أكبر شعراء انجلترا في وقت معين، تفوق على مجد الجميع بما في ذلك ولتر سكوت ، Walter Scott و وورد سوارت ، و سو تني، و مور Moore، و كامبيل Campbell ". و غوردون هذا كان لوردا أولا، و هو الاسم الذي اشتهر به )Lord Byron(، و ثانيا ، ورث ثروة هائلة عن أحد أقاربه ، و عاش الرفاه في أقصى متعه و ملذاته ، إلا أنه خلد اسمه شاعرا كبيرا يؤرخ به للشعر و تحولاته، لا لشيء سوى لكونه تمكن من تشييد "عالم خاص" به و من صيانته رغم ارتجاجات و أعاصير الرفاه ، و إبداع أشعار تتناغم و ذلك العالم، بل تفوح روائحه منها. و يتعلق الأمر بعالم خاص فريد فعلا ، ذلك الذي أدرك عمقه غابييل ماتزنوفGabriel Matiznoff في كتابه المشهور عن بايرون : "La diététique de Lord Byron –Folio 1988 "، و هو القائل عنه :" هذا المتشائم المرح، الأناني السخي، الشره الزاهد، الشاك الهائم، هذا السيد الإقطاعي اللامبالي، هذا الثوري النشيط، ذو مزاج اليمين بأفكار اليسار، المثلي المغطى بالنساء، هذا العدو للامبريالية الذي احترم نابليون، الانتحاري العاشق للحياة، صديق الأتراك الذي مات من أجل حرية الشعب اليوناني، هذا الشاعر ذو الصيت الذائع و القلب السليم". إنه تعبير بليغ عن تملك الشاعر الكبير ، الثري حد التخمة، لعالمه الخاص شديد التفرد، و الذي ما كان للمنتوج الرمزي لصاحبه إلا أن يكون مدرسة جديدة في حقل الشعر. فاللورد بايرون كان الكاتب الذي يتجلى بكليته في أعماله، كتاباته هي هو ذاته، الشاعر و الإنسان في حالة بايرون لا يشكلان إلا واحدا. فكما كان نشاطه المادي غير مألوف، يخترق كل السائد عند الشريحة الاجتماعية التي ينتمي إليها، كان نشاطه الفكري غير مألوف أيضا لأنه كان إبداعا فعليا بكل مواصفات العمل الإبداعي الأخاذ. لايختلف في ذلك عن العمالقة من أمثال محمد الماغوط و ممدوح عدوان وأمل دنقل و معين بسيسو و محمد خيرا لدين و محمد شكري و محمد زفزاف و غيرهم كثيرون.
و هل يمكن إنكار الشعر على محمود درويش اليوم و قد باتت مدا خيله تعد بالملايين، بفعل تهافت دور النشر على أعماله، و خصوصا بفعل الترجمات المتعددة لها ) و للإشارة الضرورية فذلك حقه أو أقل،أم أننا لا نقبل مبدعا إلا و الفقر ينهشه ( ، أليست قصائده المتأخرة أكثر خصوبة و إدهاشا؟ . إلا أن الذي يضمن لها ذلك هو عناده في صيانة "عالمه الخاص" و عدم الانقلاب عليه رغم التغيرات الكبرى في شرطه، و هو القائل بعد طلاقه من زوجته الثانية ) لم يدم هذا الزواج أكثر من عام بعدما لم يدم الزواج الأول سوى ثلاثة أعوام أو أربعة ( : "لم نصب بأي جراح، انفصلنا بسلام، لم أتزوج مرة ثالثة، ولن أتزوج، إنني مدمن على الوحدة ، لم أشأ أبدا أن يكون لي أولاد، و قد أكون خائفا من المسؤولية، ما أحتاجه استقرار أكثر، أغير رأيي، أمكنتي، أساليب كتابتي، الشعر محور حياتي، ما يساعد شعري أفعله و ما يضره أتجنبه") الغارديان البريطانية -8 حزيران2002 (. إنها التضحية بكل شئ من أجل أن يظل "العالم الخاص" شامخا، ثم إنه الإصرار على كون الشاعر و شعره يشكلان واحدا لا عالمين متباينين و متعارضين. يضيف درويش بعد استقراره في رام الله سنة 1996 انه " لا يزال في المنفى " و "أن المنفى ليس حالا جغرافية، أحمله معي أينما كنت، كما أحمل وطني") نفس المرجع السابق ( ، و ما المنفى الذي يحمله سوى عالمه الخاص المتفرد، ذلك الفردوس/الجحيم الذي كلما تفانى في الصدق له، يبدع وطنا- لغة أو بلدا من الكلمات المفعمة بالأحاسيس، المدهشة للقارئ . و لا يهم أبدا إن كان درويش قد بات ثريا أم لا ما دامت الاستمرارية قائمة بين "العالم الخاص" المشيد منذ زمان، المغتني على الدوام، و الأشعار المثيرة للدهشة.
يصدق ذلك على شكيب أرسلان بصيغة المطلق !، و على العديد من الشعراء و الروائيين و القصاصين و الكتاب المسرحيين الذين لم يحل انتماؤهم إلى مواقع اجتماعية متميزة دون أن يخلدوا أسماءهم مبدعين حقيقيين ما داموا تمكنوا من نسج عوالم خاصة بهم، و جاءت منتوجاتهم الرمزية بمثابة الوجوه الأخرى لتلك العوالم.
و لعل ما يعطي لمفهوم "العالم الخاص" للروائي أو الشاعر أو القصاص أو الكاتب المسرحي الكثير من المصداقية و القوة التحليلية، و يفسر انتشار و شهرة من تيسر لهم أكثر من كل العوامل الأخرى، ذلك العدد الهائل من الكتاب أو الذين كانوا يحلمون بأن يكونوا كذلك، من المغرب و من الخارج من مختلف بقاع الأرض، الذين كانوا يتحملون المشاق و انحناءات و تنازلات قاسية بالنسبة للبعض على الأقل، أمام الانزياحات و الارتجاجات التي كانت تسم العالم الخاص لمحمد شكري مثلا، كل ذلك من أجل ولوجه و الارتواء بنسائمه. ألم يشتهر محمد الأشعري و حسن نجمي و محمد برادة و رشيد ميموني و عبد الحي التازي و حسن أوريد و بول بوولز و جان جنيه ...، و آخرون كثيرون يصعب عدهم من المغرب و إسبانيا و فرنسا و أمريكا و بلدان أخرى كثيرة عربية و أوربية و غيرهما، ألم يشتهر كل هؤلاء بالتردد على شكري و اقترابهم منه؟ و إذا كان المألوفThe ordinary) (و المعلن هو كون المسألة تندرج في حيز الصداقة و العلاقات الإنسانية، فإن غير المألوف(The extraordinary) في ذلك المألوف، و غير المعلن عنه هو أن أغلب هؤلاء كانوا يفتقدون لمثل ذلك "العالم الخاص" الذي تحقق لشكري و زفزاف و درويش و سعدي يوسف و اللورد بايرون...، وان إصرارهم على ولوجه و تسليمهم بقبول مقتضياته حتى و إن تعارضت في العديد من تقاطيعها و طقوسها و أقانيمها مع شرطهم و هابيتوساتهمHabitus) (،إنما هي ركعات من أجل نسائمه. كل شئ يهون أمام سحر ذلك "العالم" و جاذبيته، خصوصا بالنسبة لمن يرغب و يراهن على أن يغرف منه ! ولكن هل يستوي السابح فيه أبدا كالحوت الذي إن هو خرج من الماء اختنق، و الذي يسبح فيه خلسة من دنياه و ينسحب و في اعتقاده وهم بالغنيمة؟ و الحال أن "أمير" العالم و سيده وجد في هذا "الذئب الذي يظهر و يختفي" هو الآخر و في قدومه إلى عالمه متغيرا إضافيا من العيار الثقيل، مهما للغاية في سيرورة انبناء ذلك العالم و تألقه و تشابك شخوصه بالشكل الذي يتيح إمكانيات رمزية متجددة قد تصبح ناذرة كلما انغلق ذلك العالم و أصاب صخبه بعض الفتور) فترات توقف الكاتب عن الكتابة ( .
و لعل النموذج الأبرز من بين كل أولئك الذين كانوا يلحون على ولوج عالم شكري، هو الروائي محمد برادة، يتضح ذلك في الرسائل المتبادلة بينهما و التي نشرها الأخير في شكل كتاب) ورد و رماد –رسائل –مطبعة دار المناهل –بدون تاريخ (. و إذا كانت القراءة السطحية للظاهرة تكتفي بربطها بسلوك حضاري و جرأة متفردة لصاحبها لا يتأتيا إلا للعمالقة، وهو ما لا يمكن إنكاره بأي حال من الأحوال، إلا أن الحفر بعمق أو النبش بلغة صاحب العقلانية الساخرة عبد السلام بنعبد العالي ، يكشف كون برادة بنشره لتلك الرسائل، أزاح الستار عن إصراره الشديد على استمرارية التواصل بينه و بين صاحب "العالم الخاص" مهما كان الثمن، إذ بالرغم من عزوف شكري عن الإجابة عن رسائله) و للقارئ أن يلاحظ أنها بالضبط تلك التي كانت تحاول –لأسباب غامضة- المس بقدسية ذلك العالم، وهو ما لا يمكن أن يسمح به صاحبه( ، لم يكن يتردد في معاودة مكاتبته كما تعبر عن ذلك الرسائل بشكل صريح. كما يكشف الحفر كون برادة حرص على الإدمان على "المغامرة" بين تضاريس ذلك العالم و أدغاله إلى أبعد الحدود، وجدّ الحميمي لصاحبه في الرسائل شهادة على ذلك، وكأن محمد برادة يراهن على إقناعنا نحن القراء أنه جزء لا يتجزأ من ذلك العالم، أو بالأحرى أنه عالمه هو الآخر حين يضمن رسائله بعض النصائح لصاحب "العالم"، و هي الرسائل التي كان المعني بالأمر لا يجيب عنها في الغالب كما كشفنا سابقا. وقد تبدو الواقعة بسيطة، إلا أنها تنطوي على دلالات بالغة الأهمية ضمن سياق منطق التحليل الذي نمارسه. فعدم الجواب هنا يتأطر في جزء كبير منه ضمن وعي كل صاحب "عالم خاص" فعلي بكون هذا "الفردوس" لا يمكن أن يكون تملكه بصيغة المثنى أو الجمع، فهو قلعة محصنة لصاحبه، للتميز و التفرد، بل إن منطق اشتغاله يجعله يقصي ذاتيا كل من حاول المس بتفرده و استقلاله أو اقتناص بعض الأسهم فيه و منه . كما يتأطر ضمن إحساس عميق لصاحبه بكونه مستهدفا فيه ، أي في العالم الخاص ما دام كل تزييف له أو تحريف لمنطق الاشتغال الذي يريده له صاحبه، سينعكس بالضرورة على المنتوج الرمزي و"يهذبه"، أو على الأقل يحد من عنف ارتطاماته المعبر عن هول الواقع و فظاعته، بل قد يخربط وضعية الإشكاليات المشروعة ، و اللغة المشروعة و...و...وقد يتمادى إلى حد نشر السياج أو الشباك...
و للإشارة الضرورية، فليس عيبا أبدا ولوج "العوالم الخاصة" لأصحابها و استنشاق هوائها و عبق نسائمها و تأمل مركباتها و دقة الصنعة فيها، و التمعن في التناسق الجميل و اللذيذ بينها و بين الخيرات الرمزية لأصحابها. أما العيب، كل العيب هو أن يستند هذا الكاتب أو ذاك على انطباعاته العابرة و الظرفية حول شخوصها و انزياحاتها و آلامها و جراحها المبرحة، أو مباهجها و متعها، ما دام ليس من الضروري أبدا ربط الأدب الرفيع بالسجن و الجوع و الفقر و المرض...، و استعارة و اقتطاع شخوص و مواقف و عواطف و مفارقات من "عوالم خاصة" لأصحابها، أي من سياقها التي لا معنى لها إلا داخله، و البناء عليها ) كالبناء على الرمل( ، و الإتيان بمكتوب ) بلاستيكي( ممسوخ ينسب تعسفا إلى الرواية أو القصة أو الشعر أو المسرح، و تكشف أولى عمليات تفكيكه غياب أهم مقومات هذه الميكروكوزمات داخل الحقل الأدبي الكبير، ألا و هي الصدق و الانسجام و التطابق بين "العالم الخاص" و المنتوج الرمزي لصاحبه، و غياب التصنع المتعدد الأبعاد، الممتد من الزخرف اللفظي المتظاهر بالهجرة داخل اللغة ، إلى التقاط شخوص و مواقف و مشاعر...من "عوالم خاصة" لأصحابها و حشرها خارج سياقها في رواية أو قصة أو قصيدة أو نص مسرحي يفتقد صاحبه/ها لعالمه الخاص به. و يكون المنتوج في الغالب باهتا لا يحقق الشهرة و الانتشار بالمعنى الذي انتزعه به شكري و زفزاف، و حتى و إن تحققا بغير هذا المعنى ، فتحت تأثير عوامل من خارج الحقل في الغالب، تتخذ شكل دعم من حقول أو قوى لها مصلحة في ذلك، و يكون الانتشار و الشهرة زائفين يخسّران الأدب الرفيع الكثير.
المراجع المعتمدة:
بالعربية:
- أعمال محمد زفزاف :
أ- الروائية:
1- المرأة و الوردة.
2- أرصفة و جدران.
3- بيضة الديك.
4- محاولة عيش.
5- الثعلب الذي يظهر و يختفي.
ب-القصصية:
6- حوار في ليل متأخر.
7- الأقوى.
8- الشجرة المقدسة.
9- غجر في الغابة.
10- الملاك الأبيض.
11- بيوت واطئة.
12- بائعة الورد.
13- العربة.
14- سردين و برتقال.
- أعمال محمد شكري:
15- الخبز الحافي.
16- الشطار.
17- زمن الأخطاء.
18 - مجنون الورد.
19 - غواية الشحرور الأبيض.
20 - بول بوولز و عزلة طنجة.
21- جان جنيه في طنجة.
22- محمد برادة – محمد شكري: ورد و رماد – رسائل – مطبعة دار المناهل- بدون تاريخ.
بالفرنسية:
Pierre Bourdieu : Raisons pratiques- sur la théorie de l’action édition du seuil-
1994.
- Pierre Bourdieu : Les règles de l’art –Genèse et structure du champ littéraire–
Edition du seuil -1992.
- Pierre Bourdieu : Science de la science et réflexivité : Raison d’Agir –Paris -
2001.
- Florian- Parmentier : La littérature et l’Europe – Histoire de la littérature
Française de 1885 à nos jours – Paris – Eugène Figuière -
1994.
- Encyclopédie de l’Agora.
- Encyclopédie Hachette 2001.
- Gabriel Matiznoff : La diététique de Lord Byron- Edition : Folio – 1988.
و التفسير ب " الكتابة بلغة الآخر")المستعمر السابق في الغالب( ، لا يصمد أمام الحفر بعمق ، صحيح إن هذا الآخر (بالنسبة لسياقنا) يتحكم في دواليب إنتاج الأفكار و خصوصا في رواجها كما أكد ذلك تفكيكا الفيلسوف ميشيل فوكو ، ولنا نحن اليوم بعد فوكو نماذج فاضحة على ما انتهى إليه ، كما الحال بالنسبة للمعرفة المتعلقة بالطاقة النووية التي يحتكر الغرب أسرارها و يتحكم في منعها على الآخرين ، أو يجود بها بلا حساب على من تخدم مصالحهم مصالحه و تستجيب لرهاناته. إلا أن هؤلاء الكتاب بلغة الآخر لا يتحقق لهم الانتشار الذي نقصده ، يفسده و يحرمهم منه وصفهم من طرف الكثيرين بتورطهم في مشاريع ما بعد استعمارية مباشرة ، أو ب"فلكلرة ") من الفولكلور( الثقافة و الرموز الخاصة للوطن الأصلي ، أو بالهروب من الواقع بعد العجز عن مجابهته، أو الوقوع ضحية التغريب )بالنسبة للكاتب الشرقي( و الافتتان المخدوع بثقافته و نمط عيشه ...الخ. و عموما تبقى شهرة هؤلاء منقوصة مهما سطع نجمهم. و للإشارة الضرورية ، فليست المسألة أبدا قاعدة تنطبق على كل كاتب بلغة الآخر ، فكم من العمالقة الذين كتبوا بلغة هذا الآخر و حققوا العالمية في أقصى صورها ، و لكن بتفجير لغته و التمرد على الرسمي و السائد فيها ، بل و الهجرة فيها إلى تخومها البكر ، وكل ذلك من خلال التمكن من بناء عوالمهم الخاصة التي غالبا ما تكون جزئيا أو كلية على أرض ذلك الآخر ، و يعتبر الروائي و الشاعر المغربي الراحل محمد خير الدين مثلا من النماذج الساطعة في هذا السياق.
يوصينا بورديو في مبادئه الأولية لعلمه المعلن تجنب سلك مثل هذه السبل إن نحن ابتغينا الإمساك بما من شأنه أن يفسر الظاهرة بالفعل ، و يلح على أن نظل داخل العمل الفكري أو الأدبي ، و أن نقيم فيه ، و إن نحن خرجنا ، فمن أجل قلب تربة الحقل أو الميكروكوزم و الحفر فيها. و لا يأتي استنطاق العوامل الخارجية و الضرب عليها بالمطرقة إلا مكملا )طبعا ضروريا( في آخر المطاف.
إن محمد شكري و محمد زفزاف لم يكونا في بداية مشوارهما سوى مدرسين عاديين في قطاع التعليم الرسمي )بعد مرحلة تشرد طويلة و فظيعة عاشها الأول على الخصوص( ، مغمورين إلى حد الفداحة ، الأول بطنجة ببيت من غرفة واحدة يؤويها ليلا لينام على "كارتون" ،و الثاني بالدار البيضاء بشقة متواضعة حد التقشف. و لا علاقة لهما بالسلطة و أهلها ، كما لم يتبث عليهما انتماء ل"حزب" سياسي، و لم ينتبه لهما الإعلام إلا بعد أن ذاع صيتهما في أصقاع الأرض ...، و المهم من كل هذا الكلام أن ربط انتشارهما بعوامل خارجية لا يفسر شيئا على الإطلاق.فمن أين جاءت شهرتهما؟
نضيف أن الشهرة و الانتشار الفعليين لا يشتريان بالمال ، ولا تحققهما أبواق الدعاية ، و لا اللحى المطلوقة على عواهنها حد القذارة ، و لا شعر الرأس المربوط من الخلف على شاكلة بعض القدامى ، و لا البوهيمية الفجة ، و لا الاشتهار المشبوه بجعل زاوية حانة إقامة أولى بعد البيت ، و لا الطعن في الثقافة الخاصة و رموزها و نعت كل من مانع ضد قيم العم سام بالارتكاسية ! كما بات ذلك موضة أو سبيلا نجسا للفتات عند بعض الانتهازيين ...، كل ذلك و غيره لا يصنع الانتشار و الشهرة بالمعنى الذي تحقق لشكري و زفزاف. أما ما يجعلهما يغازلان الجديرين بهما ، المنذورين لهم فهو مدى قدرة هؤلاء وحجم استعداداتهم لخلق و صيانة "عالمهم" الروائي أو القصصي أو المسرحي أو الشعري الخاص بهم، و التضحية بكل ما من شأنه أن يمس به أو يوجهه أو يحرفه مهما كان إغراءه و مهما كانت المنافع ( المادية) المضمونة منه ، إلى الحد الذي يجعل أعمال الروائي أو القصاص أو الكاتب المسرحي أو الشاعر هي و ذلك العالم الخاص وجهين لناذر مثير واحد هو العمل الروائي أو القصصي أو المسرحي أو الشعري ، و هو في الوقت ذاته " العالم الخاص" المشبع بقوة الجذب و الإغراء لقراءته. و لا مجال عند الانتقال من "العالم الخاص" إلى "العمل الإبداعي" للانفصام و التشرذم و التوزع ، و لا للأصباغ و النفاق ، للانتصار لقيمة في "العالم الخاص" و لنقيضها في "العمل الإبداعي" ، لمواقف حادة و مغالية في جرأة بطل الرواية أو القصة...، بصدد عشق الوطن مثلا ، و تهريب صاحبها ( الرواية أو القصة) أبناءه لمتابعة تعليمهم بالخارج عبر قنوات الزبونية وإصراره الفظيع على ألا مكان لهم للعودة إليه (هنا بالوطن) لأنه مقبل على الإفلاس ! . أو إشراقات شعرية ترسم بالحبر أو على الحاسوب المرأة ، و الرجل ينحني أمامها إعلانا )لغويا( بمساواة فاحشة بين الجنسين ، تخرج نصف المجتمع من حال مقموع المقموع و الشلل ، ولكن سلوكات شهريار و كل طقوس الذكورية المريضة داخل البيت على الأرض . تظاهر بالراديكالية و التمرد خلال الوضعيات التي تسمح باقتناص الرمزية ، و مواقف في غاية الرسمية و النمطية و الامتثالية حين تقتضي ظروف أخرى ذلك ...الخ. لا متسع في "العالم الخاص" للروائي أو الشاعر أو القصاص أو الكاتب المسرحي لمثل هذا الانفصام و التشرد ، لمثل هذا الموقف أو السلوك أو القيمة في ذلك العالم و لنقيضه/ها في منتوجه الرمزي ، يتعلق الأمر باستمرارية في أقصى معانيها إن لم نقل بذوبان هذا في ذاك. ألم يؤكد الشاعر اليوناني الخالد قسطنطين بتروس كفافي على كون أشعاره هي تقطير لوجوده ، بمعنى أن الشعر ليس أبدا مجرد أحاسيس و مشاعر بل هو أولا تجارب تعتمل داخليا في الأعماق و تمسك بالكينونة كما تمسك الكينونة بها ، و تتحين اللحظة الحاسمة التي تترجم فيها إلى تحف رائعة. و ما ينطبق على الشر، يخص الرواية و القصة و الكتابة المسرحية أيضا.
و من قدر له أن يستمتع بقراءة الأعمال الأدبية لمحمد زفزاف من بدايتها مع المجموعة القصصية "حوار في ليل متأخر" - 1975، إلى رواياته المتعددة التي لم يفقد أي منها رونقه و جاذبيته ) "المرأة و الوردة" 1972 ، "أرصفة و جدران"1976 ، "بيضة الديك"1984 ، "محاولة عيش"1985 ، "الثعلب الذي يظهر و يختفي"1989 ...، وباقي أعماله القصصية الغزيرة ( " الأقوى" ،" الشجرة المقدسة" ، "غجر في الغابة" ، "الملاك الأبيض" ، "بيوت واطئة" ، "بائعة الورد" ،"العربة" ، "سردين و برتقال" ( ، و قدر له في نفس الوقت أن يلج "عالمه الخاص" أو على الأقل أن تكون له فكرة غير مغلوطة عن ذلك العالم ، لابد أن يستخلص كون رواياته و قصصه هي نفسها في كل شيء فيها ذلك "العالم الخاص" الذي تمكن من خلقه ، طبعا بعد صياغته فنيا و إعادة إخراجه إبداعيا ليتخذ شكل تحف حقيقية تسحر القارئ و تتملكه، فالتمرد هونفسه هنا وهناك ، و الأطفال بعوزهم و براءتهم في "العالم الخاص" يقفزون أو يتسمرون شاحبين بين السطور ، و الثعالب في "العلم الخاص" شخصوا في ثعلب واحد لكنه يضاهيهم كلهم، و الأرصفة هنا كما هناك ، و القدح في ذلك العالم تقفز لذته إلى لسان القارئ من بين سطور النص ، و الكرم و نكران الذات و سخاء يد العون للمحتاج ) وللمحتال( في ثنايا الرواية أفعال في العالم الخاص يشهد بها القاصي و الداني ، كتب عن تجسيد زفزاز لها بشكل مذهل الكاتب العراقي فيصل عبد المحسن وهو يرثيه. لا مجال عنده للانقطاع بين "العالمين"، بل لا وجود أصلا لعالمين ، لأن الانقطاع مجلبة للصنعة و الزيف هنا أو هناك. و لا شهرة و لا عالمية حقيقيتين بالتصنع و التزييف ، و حتى إن حصلا ) بدعم من حقول خارجية( ، فإنهما لا يمكن أن يضمنا الاستمرارية و الانحفار في قلوب و وجدانات القراء. و حرصا منه على طرد كل شائبة من شوائب ذلك الانقطاع المهدد ل " العالم الخاص" و محاصيله معا ، لم يتردد زفزاف في التضحية بالوظيفة )الضامنة للعيش (! لأن في عالمه لا مجال ل"العيش" )الحياة بمقتضياتها لا مكابدة أدنى شروط الآدمية جنبا إلى جنب مع الاستهلاك السفيه لأقلية(،بل فقط لمجرد "محاولة عيش" )عنوان لإحدى رواياته 1985(، كما لا مجال في ذلك العالم للامتثالية و النمطية ، للمواقيت المحددة و الهندام المحدد و اللغة المحددة. كما ضحى بالحياة الأسرية ما دامت إكراهاتها/ امتثالاتها لا تتلاءم مع منطق "العالم الخاص" الذي شيده و الذي يعتبر كل من مس به تهديد لمشروعه، و هو ما لا تلامس مغازيه و عمق دلالاته بعض التحليلات المدججة بأحكام القيمة المكرسة لتأبيد النمطية و منع كل محاولة للتفرد ، فلا تتردد في نعت زفزاف و الكبار أمثاله بالشذوذ أو الجنون أو العبثية !!.
أما بالنسبة لمحمد شكري الذي –على العكس من زفزاف- اختار نحت السيرة الذاتية إلى جانب الرواية ، فان "عالمه الخاص" جلي ناطق إلى الحد الذي يجعل القارئ يجد صعوبة في التمييز بين "اللحم و العظم") في الواقع( و "الآلام المبرحة للتشرد") الفعلي( و "الأرصفة ليلا و غرائبها بطنجة" )على الأرض و...و...من جهة ، و كائنات النص اللذيذ الذي يعصره شكري . وليس المقصود هنا أبدا ما يسميه البعض بالواقعية في الأدب ، فكم من أشباه الأدباء و المبدعين تصنعوا كتابة ينسبها البعض للرواية و البعض الآخر للقصة ويراهن آخرون بها على تنصيبهم شعراء أو كتاب مسرح ، تحاكي الواقع في كل صغيرة و كبيرة فيه ، و كانت النتيجة مكتوبا ممسوخا فجا محملا تعسفيا بواقع خام كالخبز النيئ الذي بين يدي طفل و هو في طريقه به إلى الفرن، ما دام الواقع في هذه الحالة لا يمت بصلة لنسيج "العالم الخاص" لصاحبه ، بل يفتقد العديدون من هذا الصنف من "الكتاب" في الغالب الأعم لعالمهم الخاص ، و ما العمل الرمزي عندهم سوى مشروع للربح المادي أو للتظاهر بين جماعة الأقران في العمل ، أو لاحتسابه في الترقية الوظيفية ، أو لإكمال بناء البيت ، أو لدفع مصاريف تعلم الأبناء)في مدارس علية القوم في الغالب( ...، لا ، ليس المقصود ب "العالم الخاص" كل ذلك ، ليس أبدا الواقع كما هو ، فهذا يضمنا جميعا نحن البشر العاديين ، و المبدعين على السواء ، أما ما بناه شكري فهو عالم خاص به ، بشخوصه المختلفة مواقعها الاجتماعية الممتدة من العاطل و الصعلوك و الخادمة التي يحرص على عتقها من الأمية ، إلى الكاتب مثله ، و الأستاذ و الملاك الكبير ، و حتى الموظف السامي و الوزير. و أيضا بشخوصه المتعددة الجنسيات من الأسبان و الفرنسيين و الألمان واليابانيين و الأمريكيين ...، و كذلك بمجالاته أو فضاءاته المتعددة الممتدة من البيت المتواضع فوق سطح عمارة ، ولكن الصاخب بالحيوية حتى الساعات الأخيرة من الليل ، إلى حانات طنجة المتواطئة دوما مع عشاق الليل ، و أرصفتها المشوب صمتها كلما وضعت قناع النهار أوزارها، إلى دكان الأسماك الذي يفتخر صاحبه بعلاقته بصاحب "العالم" ، و حارس العمارة الذي يحترم ساكن البيت المتواضع أكثر من سكان الشقق لكرمه وسخائه كلما كان في وضع مادي مريح ) وهو وضع لم يكن أبدا تابتا و شكل هو الآخر جزءا من العالم الخاص ( ، كما شكلت مدينة أصيلة الصغيرة القريبة من طنجة جزءا أساسيا من فضاءات ذلك العالم الذي أثثه شكري بعناية و وفر له كل مسببات "الهدير" غير المنقطع ، و الذي كلما "اشتعل" ينتشي شكري لأنه يجد خزان عالمه الرمزي في أحسن أحواله ، يستفز للقطاف ، ويتيح له الأخذ بلا حساب ، بل و بأقل المشاق. و من يعيد قراءة أعماله حفريا ، سواء تعلق الأمر بالسيرة الذاتية أو الرواية ، يلاحظ كون شكري لم يكن في حاجة لكثير عناء و جهد لتخيل شخوص أعماله و أحوالهم الاجتماعية و النفسية و انفعالاتهم و ردود أفعالهم في المواقف المختلفة ، للبسطاء منهم و المتوسطين المعذبين و الممزقين ) ما دام أبشع حال للإنسان على الأرض هو أن يكون له الحق في أنصاف الأشياء أو أشباهها ، لاهو من هنا و لا هو من هناك( ! ، و من علية القوم و المتوهمين أنهم سادة....
فقارئ "الخبز الحافي" و "الشطار" و " زمن الأخطاء" و "مجنون الورد" و "غواية الشحرور الأبيض"، ناهيك عن "بول بولز و عزلة طنجة" و "جان جنيه في طنجة" ، و خصوصا القارئ الذي أتيحت له في نفس الوقت فرصة لولوج "العالم الخاص" لشكري لن يجد صعوبة في كشف اللاانقطاع ، بل الاستمرارية و التداخل في أبهى صورهما بين العالمين عند الكاتب ، "عالمه الروائي و القصصي الخاص" باعتباره وقائع على الأرض ، و "عالمه الرمزي" ) أعماله الأدبية( باعتباره معمارا فنيا رائعا أو نصوصا ساحرة يكتب لها الانتشار و الخلود، رغم ما لا يمكن تجاهله فيما يخص تواضع اللغة و التحكم في توابث الكتابة الروائية و كتابة السيرة الذاتية ، لا ، بل إن تجسيد شكري للاستمرارية بين العالمين في أرقى مستوياتها يجعل مثل تلك الأمور في عداد الثانوي ما دام الجوهري على قيد الشموخ.
و قد يقول قائل إن "العالم الخاص" الذي يتم الحديث عنه هنا ، إن هو سوى العالم السفلي للمجتمع بكل موبقاته الممتدة من الخمرة إلى "المومس" ) المرأة البائعة جسدها بالتقسيط( و ما بينهما ، وهو قول مردود بالمشهور عن عالم شكري – كما بينا سابقا – كونه ضم في نسيجه أساتذة جامعيين مرموقين و ميسورين مغاربة و أجانب، و كتابا و مفكرين تصرح أحوالهم برغد العيش ، و عديد من "علية القوم" من أصحاب المال و الجاه، بشكل أو بآخر لأن المهم هو أن يشملهم "العالم الخاص" و يغتني بهم.
ثم أليس هناك العديد من الشعراء و الروائيين و القصاصين و الكتاب المسرحيين على المستوى العالمي ينتمون اجتماعيا إلى الشرائح العليا من مجتمعاتهم، تمكن البعض منهم من اكتساح الشهرة و العالمية ؟ و القارئ الفعلي لأعمال هؤلاء و المقترب منهم و من مسار حياتهم، يكتشف أنهم إنما نجحوا لأنهم تمكنوا من بناء "عالمهم الخاص" بهم، و لا يهم إن كان عالما للرفاه و المتع و رغد العيش و لشخوص تسرف بشكل سفيه و لنؤومات الضحى ! المبدرة للملايين في مواد التجميل و عمليات تصغير أو تكبير الثديين و مواضع أخرى من أجسادهن حسب الموضة و بحسب توجيه الصورة الماكرة اليوم ...، المهم أن يصدق هؤلاء أيضا و يحققوا الاستمرارية بين "عالمهم الخاص" و "عالمهم الرمزي"، فتكون أعمالهم أدبا رفيعا في الغالب. و حالة الكاتب هنا هي نفس حالة المعلم تماما ، إذ ليس من الضروري أن يكون المعلم من العالم السفلي للمجتمع أو من المحرومين، لا بل إن العديد من البلدان خارج العالم المتقدم على الخصوص ترتكب اليوم خطأ جسيما بجعل التعليم العمومي حكرا على الكادحين معلمين و متعلمين و مشرفين إداريين و تربويين، و ينظر بعض المغفلين إلى المسألة باعتبارها مكاسب انتزعت ! ، و الحال أن مدرسا من موقع اجتماعي متميز يعلم محرومين قد تكون له قيمة مضافة هائلة بالنسبة لهؤلاء أولا، و بالنسبة للسلم الاجتماعي ثانيا، و حتى بالنسبة للسائدين أنفسهم ثالثا)وهو ما يغيب عنهم نتيجة جهلهم في الغالب(. فالمتعلمون قد يأخذون عن هذا المعلم القادم من موقع متميز نظافته و نظرته إلى الأعلى وبعض آفاقه و أفكاره العقلانية أيضا ) خصوصا حين لا يكون انتماؤه إلى العالم العلوي بالمال و الخيرات المادية فقط كما الحال عند محتكريهما عندنا( . ثم إن تفاعل هذا النمط من المعلمين الميسورين مع متعلمين محرومين و غير محرومين يخلق استعدادات مستقبلية للتعايش و السلم الاجتماعيين و يجنب المجتمع مفعولات التمييز شبه العنصري بين مدارس هؤلاء و مدارس لأولئك. كما أن مدير مدرسة من موقع متميز ماديا و رمزيا غالبا ما يؤثر على فضائها جماليا و على العاملين فيها علائقيا و ميتا معرفيا، و يهتم بنظافة مرافقها و يفتح إمكانيات لعلاقاتها مع محيطها، عكس المدير الكادح الذي يستغرقه عوزه و لا يجد في المؤسسة التربوية ! غير مسكن آمن يؤويه من بطش الكراء ،و فرصة ناذرة للإفلات من الفقر باختلاس ممتلكاتها مهما كانت قيمتها ، و التدليس في صرف ميزانيتها و التفنن في أساليب المكر و الدسيسة لضمان سكوت العاملين فيها، مما يحولها في آخر المطاف إلى مذأبة حقيقية لا صلة لها بمنطق التعليم و روح التربية. كذلك الشأن تماما بالنسبة للروائي و الكاتب القصصي و الشاعر و الكاتب المسرحي الذي مهما بلغ حجم الرفاه الذي يحياه، فإنه إن هو تمكن من نسج "عالمه الخاص" و جاء محصوله الرمزي مجسدا للاستمرارية و التناغم بينهما بعيدا عن كل تصنع ، فإن أدبه لا بد أن يكون رفيعا، و لا بد أن يفيد الناس من كل المواقع ما دامت اللذة في النص ليست مرتبطة قطعا بكون موضوعه هو الحرمان و أحياء القصدير، و تعدد الأطفال و شح الدقيق، و أطفال الشوارع و فظائع اغتصابهم ليلا...، إلى غير هذا و ذاك من مواضيع الآلام و الاحتراق الداخلي للقارئ. فالجميل و الفاتن و العذب و اللذيذ قد ينتجه هؤلاء و قد ينتجه أولئك، أم أن التحف لا ينتجها إلا المحروم ؟ ! كم هو مجحف الجواب بالإيجاب عن هذا السؤال تماما كما هو ظالم الجواب بالإيجاب عن السؤال: هل يحق للسائدين وحدهم أن يحتكروا خيرات الوطن و يمنعوا عنا سبل العيش الكريم الجدير بأن يعاش؟ ! . فهل نملك إمكانية إنكار الشعر عن جورج نويل غوردون George Noel Gordon ، ذلك الوجه الشامخ من وجوه الرومانسية الانجليزية إلى جانب وورد سوارتWordsworth و كولريدج Coleridge و شليShelley أو كيتز Keats ؟ هل يمكن إنكار ذلك على من تسجل في حقه موسوعة أغورا Encyclopédie de l Agora كونه "واحدا من أكبر شعراء انجلترا في وقت معين، تفوق على مجد الجميع بما في ذلك ولتر سكوت ، Walter Scott و وورد سوارت ، و سو تني، و مور Moore، و كامبيل Campbell ". و غوردون هذا كان لوردا أولا، و هو الاسم الذي اشتهر به )Lord Byron(، و ثانيا ، ورث ثروة هائلة عن أحد أقاربه ، و عاش الرفاه في أقصى متعه و ملذاته ، إلا أنه خلد اسمه شاعرا كبيرا يؤرخ به للشعر و تحولاته، لا لشيء سوى لكونه تمكن من تشييد "عالم خاص" به و من صيانته رغم ارتجاجات و أعاصير الرفاه ، و إبداع أشعار تتناغم و ذلك العالم، بل تفوح روائحه منها. و يتعلق الأمر بعالم خاص فريد فعلا ، ذلك الذي أدرك عمقه غابييل ماتزنوفGabriel Matiznoff في كتابه المشهور عن بايرون : "La diététique de Lord Byron –Folio 1988 "، و هو القائل عنه :" هذا المتشائم المرح، الأناني السخي، الشره الزاهد، الشاك الهائم، هذا السيد الإقطاعي اللامبالي، هذا الثوري النشيط، ذو مزاج اليمين بأفكار اليسار، المثلي المغطى بالنساء، هذا العدو للامبريالية الذي احترم نابليون، الانتحاري العاشق للحياة، صديق الأتراك الذي مات من أجل حرية الشعب اليوناني، هذا الشاعر ذو الصيت الذائع و القلب السليم". إنه تعبير بليغ عن تملك الشاعر الكبير ، الثري حد التخمة، لعالمه الخاص شديد التفرد، و الذي ما كان للمنتوج الرمزي لصاحبه إلا أن يكون مدرسة جديدة في حقل الشعر. فاللورد بايرون كان الكاتب الذي يتجلى بكليته في أعماله، كتاباته هي هو ذاته، الشاعر و الإنسان في حالة بايرون لا يشكلان إلا واحدا. فكما كان نشاطه المادي غير مألوف، يخترق كل السائد عند الشريحة الاجتماعية التي ينتمي إليها، كان نشاطه الفكري غير مألوف أيضا لأنه كان إبداعا فعليا بكل مواصفات العمل الإبداعي الأخاذ. لايختلف في ذلك عن العمالقة من أمثال محمد الماغوط و ممدوح عدوان وأمل دنقل و معين بسيسو و محمد خيرا لدين و محمد شكري و محمد زفزاف و غيرهم كثيرون.
و هل يمكن إنكار الشعر على محمود درويش اليوم و قد باتت مدا خيله تعد بالملايين، بفعل تهافت دور النشر على أعماله، و خصوصا بفعل الترجمات المتعددة لها ) و للإشارة الضرورية فذلك حقه أو أقل،أم أننا لا نقبل مبدعا إلا و الفقر ينهشه ( ، أليست قصائده المتأخرة أكثر خصوبة و إدهاشا؟ . إلا أن الذي يضمن لها ذلك هو عناده في صيانة "عالمه الخاص" و عدم الانقلاب عليه رغم التغيرات الكبرى في شرطه، و هو القائل بعد طلاقه من زوجته الثانية ) لم يدم هذا الزواج أكثر من عام بعدما لم يدم الزواج الأول سوى ثلاثة أعوام أو أربعة ( : "لم نصب بأي جراح، انفصلنا بسلام، لم أتزوج مرة ثالثة، ولن أتزوج، إنني مدمن على الوحدة ، لم أشأ أبدا أن يكون لي أولاد، و قد أكون خائفا من المسؤولية، ما أحتاجه استقرار أكثر، أغير رأيي، أمكنتي، أساليب كتابتي، الشعر محور حياتي، ما يساعد شعري أفعله و ما يضره أتجنبه") الغارديان البريطانية -8 حزيران2002 (. إنها التضحية بكل شئ من أجل أن يظل "العالم الخاص" شامخا، ثم إنه الإصرار على كون الشاعر و شعره يشكلان واحدا لا عالمين متباينين و متعارضين. يضيف درويش بعد استقراره في رام الله سنة 1996 انه " لا يزال في المنفى " و "أن المنفى ليس حالا جغرافية، أحمله معي أينما كنت، كما أحمل وطني") نفس المرجع السابق ( ، و ما المنفى الذي يحمله سوى عالمه الخاص المتفرد، ذلك الفردوس/الجحيم الذي كلما تفانى في الصدق له، يبدع وطنا- لغة أو بلدا من الكلمات المفعمة بالأحاسيس، المدهشة للقارئ . و لا يهم أبدا إن كان درويش قد بات ثريا أم لا ما دامت الاستمرارية قائمة بين "العالم الخاص" المشيد منذ زمان، المغتني على الدوام، و الأشعار المثيرة للدهشة.
يصدق ذلك على شكيب أرسلان بصيغة المطلق !، و على العديد من الشعراء و الروائيين و القصاصين و الكتاب المسرحيين الذين لم يحل انتماؤهم إلى مواقع اجتماعية متميزة دون أن يخلدوا أسماءهم مبدعين حقيقيين ما داموا تمكنوا من نسج عوالم خاصة بهم، و جاءت منتوجاتهم الرمزية بمثابة الوجوه الأخرى لتلك العوالم.
و لعل ما يعطي لمفهوم "العالم الخاص" للروائي أو الشاعر أو القصاص أو الكاتب المسرحي الكثير من المصداقية و القوة التحليلية، و يفسر انتشار و شهرة من تيسر لهم أكثر من كل العوامل الأخرى، ذلك العدد الهائل من الكتاب أو الذين كانوا يحلمون بأن يكونوا كذلك، من المغرب و من الخارج من مختلف بقاع الأرض، الذين كانوا يتحملون المشاق و انحناءات و تنازلات قاسية بالنسبة للبعض على الأقل، أمام الانزياحات و الارتجاجات التي كانت تسم العالم الخاص لمحمد شكري مثلا، كل ذلك من أجل ولوجه و الارتواء بنسائمه. ألم يشتهر محمد الأشعري و حسن نجمي و محمد برادة و رشيد ميموني و عبد الحي التازي و حسن أوريد و بول بوولز و جان جنيه ...، و آخرون كثيرون يصعب عدهم من المغرب و إسبانيا و فرنسا و أمريكا و بلدان أخرى كثيرة عربية و أوربية و غيرهما، ألم يشتهر كل هؤلاء بالتردد على شكري و اقترابهم منه؟ و إذا كان المألوفThe ordinary) (و المعلن هو كون المسألة تندرج في حيز الصداقة و العلاقات الإنسانية، فإن غير المألوف(The extraordinary) في ذلك المألوف، و غير المعلن عنه هو أن أغلب هؤلاء كانوا يفتقدون لمثل ذلك "العالم الخاص" الذي تحقق لشكري و زفزاف و درويش و سعدي يوسف و اللورد بايرون...، وان إصرارهم على ولوجه و تسليمهم بقبول مقتضياته حتى و إن تعارضت في العديد من تقاطيعها و طقوسها و أقانيمها مع شرطهم و هابيتوساتهمHabitus) (،إنما هي ركعات من أجل نسائمه. كل شئ يهون أمام سحر ذلك "العالم" و جاذبيته، خصوصا بالنسبة لمن يرغب و يراهن على أن يغرف منه ! ولكن هل يستوي السابح فيه أبدا كالحوت الذي إن هو خرج من الماء اختنق، و الذي يسبح فيه خلسة من دنياه و ينسحب و في اعتقاده وهم بالغنيمة؟ و الحال أن "أمير" العالم و سيده وجد في هذا "الذئب الذي يظهر و يختفي" هو الآخر و في قدومه إلى عالمه متغيرا إضافيا من العيار الثقيل، مهما للغاية في سيرورة انبناء ذلك العالم و تألقه و تشابك شخوصه بالشكل الذي يتيح إمكانيات رمزية متجددة قد تصبح ناذرة كلما انغلق ذلك العالم و أصاب صخبه بعض الفتور) فترات توقف الكاتب عن الكتابة ( .
و لعل النموذج الأبرز من بين كل أولئك الذين كانوا يلحون على ولوج عالم شكري، هو الروائي محمد برادة، يتضح ذلك في الرسائل المتبادلة بينهما و التي نشرها الأخير في شكل كتاب) ورد و رماد –رسائل –مطبعة دار المناهل –بدون تاريخ (. و إذا كانت القراءة السطحية للظاهرة تكتفي بربطها بسلوك حضاري و جرأة متفردة لصاحبها لا يتأتيا إلا للعمالقة، وهو ما لا يمكن إنكاره بأي حال من الأحوال، إلا أن الحفر بعمق أو النبش بلغة صاحب العقلانية الساخرة عبد السلام بنعبد العالي ، يكشف كون برادة بنشره لتلك الرسائل، أزاح الستار عن إصراره الشديد على استمرارية التواصل بينه و بين صاحب "العالم الخاص" مهما كان الثمن، إذ بالرغم من عزوف شكري عن الإجابة عن رسائله) و للقارئ أن يلاحظ أنها بالضبط تلك التي كانت تحاول –لأسباب غامضة- المس بقدسية ذلك العالم، وهو ما لا يمكن أن يسمح به صاحبه( ، لم يكن يتردد في معاودة مكاتبته كما تعبر عن ذلك الرسائل بشكل صريح. كما يكشف الحفر كون برادة حرص على الإدمان على "المغامرة" بين تضاريس ذلك العالم و أدغاله إلى أبعد الحدود، وجدّ الحميمي لصاحبه في الرسائل شهادة على ذلك، وكأن محمد برادة يراهن على إقناعنا نحن القراء أنه جزء لا يتجزأ من ذلك العالم، أو بالأحرى أنه عالمه هو الآخر حين يضمن رسائله بعض النصائح لصاحب "العالم"، و هي الرسائل التي كان المعني بالأمر لا يجيب عنها في الغالب كما كشفنا سابقا. وقد تبدو الواقعة بسيطة، إلا أنها تنطوي على دلالات بالغة الأهمية ضمن سياق منطق التحليل الذي نمارسه. فعدم الجواب هنا يتأطر في جزء كبير منه ضمن وعي كل صاحب "عالم خاص" فعلي بكون هذا "الفردوس" لا يمكن أن يكون تملكه بصيغة المثنى أو الجمع، فهو قلعة محصنة لصاحبه، للتميز و التفرد، بل إن منطق اشتغاله يجعله يقصي ذاتيا كل من حاول المس بتفرده و استقلاله أو اقتناص بعض الأسهم فيه و منه . كما يتأطر ضمن إحساس عميق لصاحبه بكونه مستهدفا فيه ، أي في العالم الخاص ما دام كل تزييف له أو تحريف لمنطق الاشتغال الذي يريده له صاحبه، سينعكس بالضرورة على المنتوج الرمزي و"يهذبه"، أو على الأقل يحد من عنف ارتطاماته المعبر عن هول الواقع و فظاعته، بل قد يخربط وضعية الإشكاليات المشروعة ، و اللغة المشروعة و...و...وقد يتمادى إلى حد نشر السياج أو الشباك...
و للإشارة الضرورية، فليس عيبا أبدا ولوج "العوالم الخاصة" لأصحابها و استنشاق هوائها و عبق نسائمها و تأمل مركباتها و دقة الصنعة فيها، و التمعن في التناسق الجميل و اللذيذ بينها و بين الخيرات الرمزية لأصحابها. أما العيب، كل العيب هو أن يستند هذا الكاتب أو ذاك على انطباعاته العابرة و الظرفية حول شخوصها و انزياحاتها و آلامها و جراحها المبرحة، أو مباهجها و متعها، ما دام ليس من الضروري أبدا ربط الأدب الرفيع بالسجن و الجوع و الفقر و المرض...، و استعارة و اقتطاع شخوص و مواقف و عواطف و مفارقات من "عوالم خاصة" لأصحابها، أي من سياقها التي لا معنى لها إلا داخله، و البناء عليها ) كالبناء على الرمل( ، و الإتيان بمكتوب ) بلاستيكي( ممسوخ ينسب تعسفا إلى الرواية أو القصة أو الشعر أو المسرح، و تكشف أولى عمليات تفكيكه غياب أهم مقومات هذه الميكروكوزمات داخل الحقل الأدبي الكبير، ألا و هي الصدق و الانسجام و التطابق بين "العالم الخاص" و المنتوج الرمزي لصاحبه، و غياب التصنع المتعدد الأبعاد، الممتد من الزخرف اللفظي المتظاهر بالهجرة داخل اللغة ، إلى التقاط شخوص و مواقف و مشاعر...من "عوالم خاصة" لأصحابها و حشرها خارج سياقها في رواية أو قصة أو قصيدة أو نص مسرحي يفتقد صاحبه/ها لعالمه الخاص به. و يكون المنتوج في الغالب باهتا لا يحقق الشهرة و الانتشار بالمعنى الذي انتزعه به شكري و زفزاف، و حتى و إن تحققا بغير هذا المعنى ، فتحت تأثير عوامل من خارج الحقل في الغالب، تتخذ شكل دعم من حقول أو قوى لها مصلحة في ذلك، و يكون الانتشار و الشهرة زائفين يخسّران الأدب الرفيع الكثير.
المراجع المعتمدة:
بالعربية:
- أعمال محمد زفزاف :
أ- الروائية:
1- المرأة و الوردة.
2- أرصفة و جدران.
3- بيضة الديك.
4- محاولة عيش.
5- الثعلب الذي يظهر و يختفي.
ب-القصصية:
6- حوار في ليل متأخر.
7- الأقوى.
8- الشجرة المقدسة.
9- غجر في الغابة.
10- الملاك الأبيض.
11- بيوت واطئة.
12- بائعة الورد.
13- العربة.
14- سردين و برتقال.
- أعمال محمد شكري:
15- الخبز الحافي.
16- الشطار.
17- زمن الأخطاء.
18 - مجنون الورد.
19 - غواية الشحرور الأبيض.
20 - بول بوولز و عزلة طنجة.
21- جان جنيه في طنجة.
22- محمد برادة – محمد شكري: ورد و رماد – رسائل – مطبعة دار المناهل- بدون تاريخ.
بالفرنسية:
Pierre Bourdieu : Raisons pratiques- sur la théorie de l’action édition du seuil-
1994.
- Pierre Bourdieu : Les règles de l’art –Genèse et structure du champ littéraire–
Edition du seuil -1992.
- Pierre Bourdieu : Science de la science et réflexivité : Raison d’Agir –Paris -
2001.
- Florian- Parmentier : La littérature et l’Europe – Histoire de la littérature
Française de 1885 à nos jours – Paris – Eugène Figuière -
1994.
- Encyclopédie de l’Agora.
- Encyclopédie Hachette 2001.
- Gabriel Matiznoff : La diététique de Lord Byron- Edition : Folio – 1988.