تقديم :
تحتوي أضمومة تقاسيم الصرير، للشاعر مصطفى فرحات على اثنين وثلاثين قصيدة، كتبت ما بين 1988 و 2004، مع تقديم حول سؤال الشعر من تأليف نفس الشاعر.
الصفحة الأولى من الغلاف تضم صورة لباب خشبي عتيق، وعنوان الأضمومة، في حين تضمنت الصفحة الأخيرة، صورة فتوغرافية، مع بطاقة تعريف خاصة به، المجموعة صدرت عن دار وليلي للطباعة والنشر بمراكش في طبعتها الأولى سنة 2006.ولعل المساحة الزمنية الطويلة 14 سنة تنم عن تراكم التجربة وتجدرها بشكل كبير.
تعبق المجموعة بأنفاس أبزو* التاريخية والأسطورية وتشكلت من مواضيع متعددة تتضمن العديد من القضايا. ولعل ما يستفرد به هذا المنجز، ويجعل منه قيمة أدبية مضافة بامتياز للمشهد الشعري المغربي والعربي على السواء، هو توظيفه لنفس حكائي، تقاطع مع أجناس أدبية أخرى، و هو ما منح الأضمومة نكهة خاصة وسحرا عجيبا، كما هو الأمر في كل من نصي "حكاية الفارس الكاذب" ص78، وحكاية خرافة ص 25، بالإضافة إلى لوحة ساخرة ، متميزة تجلت في قصيدة "برج العرب" ص82، وسوف نحاول مقاربة هذه المواضيع، بالإضافة إلى أخرى ، تناولت بعض التيمات البارزة ، والتي يمكن تحديد بعضها في: صورة أبزو، الأنفاس الحكائية، سؤال الشعر، القضية الفلسطينة، مفهوم الوطن، والسخرية ...
1. صورة أبزو
في قصيدة "حكاية خرافة .. يا أهل أبزو" ص25، تتحدد معالم المنطقة المختلفة لحظة بعشق، وأخرى بحسرة في أسلوب شعري حكائي شيق، فمعشوقة الشاعر ، اتخذت ملامح الطفولة لحظة :" بزو وجنتا طفلة/تزهر في قامتها/ألوان العطور/ظفائر من زيتون/ تعالق صدر الجبال"، وهي صورة مستوحاة من الذاكرة، ومرحلة الطفولة، ومن متون شعراء آخرين كالمختار السوسي* الذي قال عنها :
أهذي جنان الخلد أو هذه بزو/منى كل نفس لو يدوم لها الفوز ص25، وكذلك : خمائل بزو لا خمائل جلق/وأجوادها لا آل كل محلق ص26.
وكذلك الشاعر الحسن البونعماني* الذي خاطب أهلها قائلا :
" يا آل ابزو أهل كل فضيلة/لازلتم في ظل عيش زاهر" ص30.
كما اتخذت صورة أميرة فاتنة :
أميرة كانت/تحيى أعراسها الربيعية/أنامل لليل بدوي/وحنجرة كروانة أمازيغية/تضمخ الجنان عطرا نورا/لما يميد بها السلسبيل/وتهرب في مسارب ليل طويل. ص26.
إن صورة ابزو، في ذلك الماضي الجميل سرعان ما شابها ضباب كثيف، واعتلى محياها مسحة حزن وكآبة، وكأنها وصلت فجأة إلى مرحلة حرجة، دبل الجمال، ولفها شحوب قاتل، فصارت "حسناء رسمت محياها/أظافر الذهول/وسفينة ملقاة بمرفأ مهجور. ص7.
هرمة وشاحبة ومتعبة وهو يستشرف غيبها، شاحبة/كشيخ يكح السعال/وكشيخ يطلع من آخر الليل/تشقق جلده من وهج الترحال/يستفحل الأمر كثيرا وهي على مشارف الموت تحتضر "دابل جيد" "بزو" ومستباح/ضاق في ثوبه الطيني/وسرى في عراه الردى. ص28.
إن الحالة المزرية التي أضحت عليها المنطقة التي كان لها ماض تليد، وعريق، كان بسبب الإهمال وبفعل قساوة الظروف الطبيعية والمناخية، حزت في نفس الشاعر وهو يرمم لها لوحة قاتمة في النهاية "تهجر الطيور أعشاشها/وعلى أكتافها تحمل الأشجار الجذور/والريح تعري في شهوتها البذور/ها أم الحسن تستف نشيدها/والحمام فارقه الهديل" ص29، فصارت منبوذة، منسية، مهيضة الجناح "تستحم في زرقة من مرارة" ص29، وتحولت إلى "كومة رماد/تدريها الرياح بعيدا .. بعيدا" ص30.
إن الحسرة التي كتب بها النص، تنم عن مدى الخوف الذي ينتاب المبدع حول مستقبل بلدته، وهي بمثابة نداء، وتحذير في نفس الوقت، وصرخة مدوية في كبد السماء، مطالبة بالالتفات إليها، والإسراع إلى إنقاذها. ولم يكن حال الحاضرة، أفضل بالمقارنة مع دوار "أيت مولي"*- الذي ينتمي إليه الشاعر- الذي يذكره بدفء، وحنين كبيرين، وبخوف وقلق "رمانة محروقة بعهد النسيان/طفلة صغيرة تيتمت/سلمت للإهمال وديعة/تلة مجروحة بشتى الجراح" كما جاء في قصيدة أغنية "لأيت مولي" ص7.
وهي مقارنة الماضي المشرق، بالحاضر الباهت، أما في قصيدة "أنامل أمي" ص17، يصف الشاعر نمط الحياة الجميل بالقرعة الحالمة، والهادئة، من خلال استرجاع لحظات الطفولة الجميلة من خلال الإشارة إلى أمه وأبيه وهما نموذجا مصغران من الدوار يمكن إسقاطه على بلدته "أبزو" ككل، العاشق أهلها للخصب، ورائحة التراب، ورقص السنابل، وأريج المروج ، في دورة حياة عادية ، بسيطة لكنها رائعة، "جنبا إلى جنب سارا/واحد يتصبب عرقا ورملا/وآخر يعشق كل الفصول" ص17.
إن الارتباط بالأرض، وإنتاجها هو من السمات الأساسية للحياة في البادية ، التي كلما منحتها كثيرا من الجهد، وبادلت قساوتها، الحب، أثمرت حقولها ، وأينعت ، وعوضت تعبك خيرات وفيرة. كما يقدم النص صورة عن طريقة العمل طوال فصول السنة، في إطار من التعاون اللا مشروط بين الرجل ،والمرأة "في الصيف/تجمع (الأم) سنابل الحقول/تقيم أعراسا/في الشتاء/تزرع البذور/وتعد بالنذور/في الربيع/تغني للزهور/وتعصر العطور ، في الخريف/(الأم) تغسل الصوف/وتنسج الثياب" ص17، 18.
ورغم كل هذه الانشغالات ، كانت الأم تخلق متنفسا لها ، فتصدح بالغناء، وكأنها كانت توشح صدر الطبيعة ،بمواويلها الشجية، "كان لأمي لحن البحر/حنين الصهيل/صلابة الفجر/نبض النخيل" ص18. بالمقابل يبرز نص "عودة في غروب الحصاد" ص43، قساوة الحياة البدوية في ظل أزمة خانقة، بسبب توالي سنوات الجفاف، بحيث كان المشهد مرعبا جدا، طفت صورة المقلقة ، ضواعة بروائح البؤس والجوع، والانكسار والقهر، "الوجوه كأنها في كفن/الأوراح حبلى بالخواء/يكبون ظهورا هزيلة/ينصتون لخشخشة السنابل العجفاء/يلبسون زمنا مرتقا/الحزن آيات ،تتدلى من كهف الفضاء/تلبس كل ألوان الدماء/سائرون إلى ديار/لاشيء فيها غير سغب/وسعير وغبار/مدخنة بلا دخان/كلب من الجوع سكران/صغار الأطفال يأكلون البكاء …
إن اللوحة التي رسمها الشاعر المصطفى فرحات عن منطقة ابزو، كانت قائمة جدا، جو جنائزي، يؤجل فيه الموت لحظاته ، ويتكاسل هو الآخر بالانتظار، والصبر، والتسويف، إنها لحظات الأمل الآفلة، وحصاد لهشيم الهشيم والخواء ، بحثا عن امتلاء خيالي.
"وخيط واهن (يشدهم) للبقاء" ص45، إنه حفر بالأظافر على صخرة المعاناة والمرارة.
إن هذا الوضع الكارثي ولد عنفا قاتلا، ونبذا لكل قيم التسامح ، والتعايش ، الذي أصبحا مستحيلين ...
وهي صور سوف تتكرر بمرارة في نص "حديث القرية والطائر" ص46.
يحكي النص قصة طائر صغير "يطارده الصغار والكبار/ومتى غنى لهم/صرخوا في وجهه/لقموه الأحجار/ونزعوا آذانهم/حتى لا يزعجهم غناه" ص47. ولعل رمزية النص، كانت بليغة جدا، فهو يمثل وجها آخر من حياة القرية ، التي تحول العيش فيها إلى جحيم قاتل، وذكرى لأزمنة آفلة، وكأنهم يحاولون بفعل القسوة ، محو كل شيء جميل ،وهو ما ولد تطبعا على العنف، أضحى معه الطائر وشدوه من بقايا ماض جميل منقرض، وحالة شاذة في ظل الواقع المفروض ، تحت إكراهات قوى خفية وأكبر …
فالطائر "متى غنى/تفوح ريح الشيح والزعتر/ويزهر الزمن في جلباب أخضر/تندمل جراح الأرض/ويتكلم المنبع بالماء" ص48.
لقد تم تصوير الطائر في صورة نبي أو مرسل يحمل رسائل الحب، والخير، والسعادة، لمجتمع متأزم، لكنها قوبلت بجفاء، ورفض مطلقين، بل وصل الأمر إلى حد طرده من القرية بعد محاكمته كما جاء على لسان الراوي "وقدم الطير النشار للعدالة/تهمته الوحيدة/الغناء في الليالي الباردة/وإزعاج الناس/في نومتهم الطويلة" فأخرج من قريتنا غير مرجوم/ألفنا أنكر الأصوات" ص48.
إن درامية هذا النص في بنائه وحبكته التقنية تجعل منه نصا مسرحيا بامتياز، قدمت من خلاله مشاهد متعددة بنهاية مفجعة. جاء على لسان الراوي "أن البلدة يا سادة/لما سكت فيها الغناء/وشربت الأثداء حليبها/ارتكست الريح في الذبور/ونمت حول القرية/بدل الزهور/شواهد القبور/.." ص51.
ولعل قصيدة تهاليل لوادي العبيد ص51 هي بمثابة تتمة أو مشهد أخير يمكن إلحاقه بالنصوص السالفة الذكر، نظرا لبلاغة التصوير فيه، وبلغته التي طغى عليها طابع الابتهال والأمر "انهض أيها النهر الشهادة/وجلجل/لك النحن والبلد الطريح/لك الأفواه المفتوحة/جائعة هي كل العيون/وكل الأصابع/فدحرج ماءك/نهدا/ خبزا/ثمرا/كن لنا شفاعة وخمرا/وهبنا بعض الشبع" ص51.
إنها تهاليل حزينة، صادقة، ممزوجة برغبة، وتوق نحو الانعتاق، لاعتقاد أصحابها أن النهر - واد العبيد*- هو الوحيد القادر على تحويل قتامة الحياة. وقد اتخذ النهر كذلك صورة النبي محمد (ص) مجازا في شفاعته وهو ما يمكن استشفاؤه من خلال هذا البيت : كن لنا شفاعة وخمرا/وصلة بين الأرض والسماء/وفاصلة أنت بين الحياة والفناء. ص51.
فالتهاليل حملت في طياتها الندم، والحسرة، والرغبة في العودة إلى حياة سابقة، فكانت المناجاة للحق سبحانه لحظة أخرى :
دعوني والروح مشروخة الصبر/وإليك مشيت مخسوف البصر. ص53، لأنه القادر فوق عباده، والقاهر في نفس الوقت لكي "تعود الحياة حبلى/تكون نهري السعيد/ويعود البلد من بعيد. ص53.
2. الأنفاس الحكائية والتاريخية
إن الاهتمام بتاريخ " ابزو" وثقافتها الشعبية، مكن الأستاذ المصطفى فرحات ،من ضخ أنفاس حكائية داخل متونه الشعرية فجاءت عبقة بأنفاس التاريخ ، وموشحة بوشم من الماضي التليد ،الموغل في حضن الأدب والأسطورة، كما هو الأمر في قصيدة "مرجانة" *ص33، التي استوحى أحداثها من رواية "مرجانة أو حكاية أهل أنتيفا" للكاتب الفرنسي Réné Enloga*، وهو قائد عسكري، شارك في الحملة الفرنسية ضد قبائل أيت امحمد بأزيلال سنة 1911، ولعل الطابع المسيطر داخل النص الشعري ، هو النفس الروائي/دقة في التفاصيل/تناسل الأحداث/الحوار/ ، ومما أعطاه نكهة خاصة ، هو تقديمه لصورة العبدة بكل هواجسها النفسية، وتمزقاتها العاطفية، بتطلعاتها، وانكساراتها ، مبرزا صراعها الداخلي بقوة، فبالإضافة إلى المهام الموكولة إليها : رعي القطيع/حلب الضروع/حياكة البرنس لسيدها/تنظيف الملابس/ كانت في خلوتها تعيش حياتها الخاصة، تمني النفس وهي "تنتظر خيالا/أو طيفا يحملها/وتحمله إلى الفصول الآتية" ص33، تحاول تقليد سيدتها نظرا لتعلقها بسيدها ، وحبها الكبير له حتى الجنون "تلبس مرجانة قفطانا ووشاحا/تضع حرقوسا وسواكا/ترطب خصلات شعرها الناشفة/مترنمة أنغاما أمازيغية/وتبحث عن وجهها المكسر في المرآة" ص34.
إن رغبة مرجانة كانت جامحة، يدفعها الفضول ، والتلصص، إلى التجسس على سيدتها ، وهي في لحظات انتشائها ، داخل عرينها الخاص، لتفريغ مكبوتاتها، "من ثقب الباب/تراقب سيدتها وسيدها/يعبران نهر الشهوة" ص34، فتكتفي هي بالعبث "بحلمة ثديها/تمرر يدها الخشنة على صدرها/ويسيل الثغر بالرغوة" ص34.
لقد شكلت مرجانة برمزيتها ، نموذجا للإنسان المقهور، والمحروم، وذاكرة مجروحة، وتاريخ منسي، إنها "أقحوانة (ذلك) الوقت/وفاتحة النهايات … إنها حلم الحلم … الذي سرعان ما سوف يثور/يمزق/ويخرق" إنها التاريخ الذي فيه "تتوهج رقاب العبيد/وتنطفئ (فيه) أعناق الأسياد" ص36، فمرجانة هي ثورة البؤساء.
أما في نص حكاية الفارس الكاذب ص78، فالشاعر يسترجع طفولته من خلال حكايات الجدة التي كانت تنفحه بها، وتشنف أسماعه كل ليلة، ورغم تكرارها لم يكن يملها، وصار بدوره يرويها "كم من مرة علي أن أعيد نفس الحكاية" ص78، يقول "وأنا طفل أجلس لركبة جدتي/حيث تغزل الصوف أو تغني/أو حين تطعم حنجرة الرحى/بحبات سنابل حقول رملية"، فالجدة في حكيها المشوق ، كانت تسرد تفاصيل الفارس الكاذب الذي "كان يعشق أسرار العذارى/ويعشق التسلي برؤوس أحرار القبائل" ص79.
إن بطل القصة الجبار، كان يعث فسادا في الأرض، والحرث، والنسل، الزرع، حسب ما يستشف من حكاية الجدة الغير مكتملة دوما، ولعل سخرية القدر ، هي التي سوف تدفع الشاعر (الطفل) ، إلى البحث عن بطلها ، ليجده ماثلا أمامه في الواقع ، "وكبر الطفل الذي كنته/ومشيت الزمن الذي عشته/وأتممت ما حفظته عن جدتي/وعرفت الفارس الكاذب/من يزين صدره بالنياشين/ويزدهي بأوسمة القتل/لينترها في زمن حل فينا/كليل زنجي طويل" ص80،81
لقد لعب التشويق ، و شد الأنفاس ، دورا أساسيا، وشح صدر القصيدة، ومنحها صفة الحكاية المتميزة، والمفزعة في نفس الوقت، كما أبرز بلاغة الجدة، وحكمتها من عدم إتمامها لحكايتها، وكأنها آثرت على نفسها، وعن قصد إثارة شغف الحفيد ، ليتعرف عن كثب على فارس زمانه الكاذب.
إن المثير في نصوص الأضمومة ، هو ذلك التداخل الأجناسي ، الذي تم توظيفه بدقة عالية ، وحنكة تنم عن تمكن كبير، وقدرة فائقة على تنويع النصوص ، بمختلف الأنفاس ، والأجناس، (مسرح/رواية/شعر/حكاية/تاريخ …)
3. سؤال الشعر
من أكثر الأسئلة التي أرقت الشاعر المصطفى فرحات، هو سؤال الشعر، الذي أفرد له تصديرا خاصا في مقدمة ديوانه، معبرا عن موقفه ، و رأيه الخاص حول الموضوع، معتبرا أن الشعر "موجود في كل الأشياء المحسوسة، وغير المحسوسة" إنه حاضر في القلب، والعقل، والجمال، والقبح، في الحب، والكره، في النبي الدجال … داخل وخارج الطبيعة، الحية ، والجامدة، إنه موجود حيث نوجد ولا نوجد، فهو ما خلق، ويخلق الإنسان ص5/6، والديوان يزخر بالعديد من الإشارات الدالة على قناعة الشاعر، وتصوره الخاص اتجاه الموضوع. ففي قصيدة "جولة في منتصف الحزن" ص10، يقول "بلا نعال أمضي/أعدو بخطايا/ما تعلمته من السماء/أخط قاموسا جديدا/للأفعال والأسماء/أورثه لمن يتناسل مني/من الأجيال".
فالشعر يسكننا، ونسكنه، نتمثله في كل الأشياء حولنا، في الصور ، والأحاسيس التي تعبرنا، لحظة التأمل وفي لحظات الصدق. ففي قصيدة "البحر والشعر" ص12 يقول "صوت الشعر/صوت البحر إذ يتمدد/يعزف بصوت الماء/ترانيم أزلية/تشاغب صمت الوقت/وتعلن ميلاد القصيد/من رحم الأبد".
فالشعر ، تجسد في طائر الحديقة الأزرق كذلك ، كما جاء في نص "ما في حديقتي أسرار" ص20، يقول "يدعوني إلى محراب حلقة/لعلمني كف أرتل النشيج أغاريد/كيف أراقص القمر/وأشعل الخريف بأنوار الربيع/ومتى أنتشي طائري الأزرق يصمت الجميع" ص30، فالحديقة القابعة في حديقته بصيغة الجمع "حدائق الشعر" بأصواتها، وأوراقها، وبحبورها، وطباقها، وجناسها، واترياحاتها، وأوزانها، واستعاراتها، وصورها المتزاحمة على أمكنة، وأزمنة، حالمة، غائرة ، في أعمال الوجدان ، بحكاياتها العجائبية، وعشقها الوهاج ، وأنوارها البراقة، وأجنحتها الملائكية، بتصوفها الصادق والصافي، وغوايتها القاتلة، إنها المسالك الحقيقية ، والجواب البسيط ، لكل المقاربات التي تحاول وضع الحدود النهائية ، والقواعد المطلقة . لكن الحقيقة قابعة ، بين مرج البحر، بين الحق والباطل، العتمة والنور، إنها عوالم محفوفة بالمخاطر، توجد بدواخلنا، عندما تتوقف كل الحواس الزائفة، "وذلك مسلك اللاعقلانية حيث كل شيء يبدو في غير مكانه، وفي لا شكله ص 6.
وقد لامسنا وجهة النظر هذه في نص بهاء القصيدة ، بحيث تبين لنا بالملموس ، وجهة نظره ، حيث يقول عن الشعر: "فهو يأتي مرتعشا/كبسمة الفراشة/تحمل غصن الشارة/وهذا النهر من ذلال القصيد/يتلألأ بالخضرة المائية/يرتدي الحلم/ويشحدنا بالحلم. ص55.
لنستخلص أن الأضمومة ، حاولت الجمع بين التنظير، والممارسة ، بدءا من التصدير في ص5 ، مرورا عبر توظيفه لجماليات متعددة، وتمرد على القوالب، وتشكيله المغاير للفضاءات النصية، وإدماج لأكثر من جنس أدبي ، داخل قالب متنوع، عابق بأنفاس متعددة، ولكنها فريدة، منحت كتابته الشعرية ميزة خاصة.
4. صورة الوطن
لقد شكل الحديث عن الوطن ، قاسما مشتركا بين العديد من الشعراء، لكن زوايا النظر إليه ، كانت أحيانا مختلفة، وأخرى تتقاسمها سمات القتامة، والحزن، والسخط، والثغور، وهي من السمات الغالبة، وصلت إلى حد اعتباره أكثر من غريب، وغير مرغوب فيه، مادام لا يستجيب لكل التطلعات .. فبين الوطن الذي يحلم به المبدع، والآخر الذي يعيش بين أحضانه، بون شاسع، والشاعر المصطفى فرحات ، هو الآخر في قصيدة "وطن الوجع" ص67، لازال يبث عن صورة الوطن المثالية، وطن البدايات، يقول :
"من ذا الذي يعيد لي بلدي/من ذا الذي يهجرني إلى وطن البداية/فهذا الوطن الفاجعة/لا يحتمل جرحى/لا أحتمل جرحه" ص68.
إن الوطن المتخن بالجراح، هو وطن يفقد فيه المرء هويته، نفسه، كيانه، وطن منبوذ، يفتقد فيه أواصر الارتباط، إنه الوطن الفاجعة الجريح والممزق، والتائه، والسافر، والمرفوض.
وعندما نتساءل حول أسباب هذا النفور، نجد الجواب ضمن نص آخر "في انتظار الاعتراف" ص58، حيث يصفه بالمسروق، وأهله تائهون، أعماهم النصب، والمصالح الخاصة "وطن/سرق من جبين الأبرياء/لينقل في جيوب الأثرياء .. وطن/طيوره/ليست عيون الوطواط/علقت أجنحة الحمام/وهاجرت في جنح الظلام" ص29.
إنه وطن اللامساواة، والموت، والقتل، والانتحار الإرادي، الوطن البشع الذي يفرمنه أهله من الموت، نحو الموت كما جاء في نص "غواية العبور" الذي يتطرق للحظات الهجرة السرية، بكل قتامة، حيث (الريح قوية، والموج المرغي، الذي يبتلع في ضبابه وعنفه أحلام ورود الوطن لتتحول المسافة بين الواقع المرير والحلم الجميل إلى بحر جثت وقبور) ص 66 بتصرف.
لقد تحولت هالة الوطن، إلى زمن العذاب المطلق، ومكان لصناعة الموت وقواربه، أرض خراب/قاحلة/أرض المشانق/وحبال الموت، إنه وطن .. معلق في السماء. ص 60.
فبين الوطن الذي يعيش فيه الشاعر، والذي يرومه، تمتد مسافة بحجم الحلم، مستحيلة العبور، وقد تجسد ذلك في قصيدة "الانعتاق وفي الطائر الأزرق ، الذي يحلق دون توقف ، باحثا عن فنن في شجرة ظليلة، عميقة الجذور، لكنها غير موجودة، وبعيدة المنال، ما لم تتراص بحروف من المعاناة ، ضمن قصائد ..
5. السخرية
لعل القارئ لقصيدة "برج العرب" ص82، سيلاحظ لا محالة ، أنه اعتمد في تأسيسها على تقابلات ضدية، كان الهدف منها ، وضع المتلقي بين صورتين متنافرتين، الأولى للحاكم، ساخرة دالة، تعري زيف الواقع، وتكشف كل مستور. والثانية للمحكوم "الشعب" ، الذي يعيش فريسة لتصوراته الخاطئة ، في كابوس المزعج، الذي يؤوله إلى مجرد أضغاث أحلام، يفسر قبحها، جمالا، ونواياها المفرطة، مجرد هواجس كاذبة، وعنف ، وحمق حاكمه، إلى محبة فياضة ، ورضى مطلق، باعتباره الحامي للملة والدين، ومثالا لكل مقدس، ارتكازا على ثوابت الانتماء ، لآل البيت.
جاءت صورة الحاكم العربي، كاريكاتورية، أبرزت قبح منظره، وبشاعة صورته، مستخفا بإرادة محكوميه، مستبدا، مستهترا، فهو عن طواعية "يلقي بشعبه في القمامة/ننسى في لذة الكأس/وصدور/وخواصر/(صحبته) هموم (أمته)" ص82. دوما منغمسا في لذاته، ومجونه، فهو ساذن الكأس والطرب ص 83، (ينام) في الصباح في المساء/على نهد فاتنة شقراء/(يذكر إخوته)/ في السودان/ في الصومال… ص 84.
وهو حاكم مستبد، يتفرد بحكمه المطلق، استمد مشروعيته طوعا، أو كرها بانتسابه لآل البيت ، يقول "فيا شعبي الأبي/أنا أميركم، إن شئتم/أو إن أبيتم" ص83، كما أن استمراريته هي دوما مشروطة تاريخيا، من خلال الدعم الذي يتلقاه من جراء المواقف السلبية للمحكومين ، الذين يستلذون بالجوع، والقهر، والبؤس، والذل، فالشعوب هي التي تصنع دوما الحكام، وهي التي تتقنت عبر الأزمان في خلق الشروط الموضوعية، والحقيقية لتواجدهم، وذلك بصنع نموذجها الفريد، والمفضل، الذي لا يراعي ، ولا يحفل بوجودها، ولا يحترمها على الإطلاق ..
إن النص يضعنا وجها لوجه، إزاء "حيوانات" مريضة بطاعون القوة ، والتسلط، ومتفننة في أساليب الفتك والقتل، وكأننا داخل غابة تعج بالتناقض في باطنها، لكن ظاهرها يعرف تناسقا كبيرا. فالشعوب "جبلت على الضجيج/والاستجابة/والخنوع/إنها وطاويط عمياء/صمت آذانها/ودجنت عقولها، وبلدت أفكارها لا تنتظر إلى واقعها، بقدر ما هي منبهرة بجمالية الأبراج الصاخبة العالية .. إنه الطرح الساخر الممزوج بالحسرة الكبيرة، التي تخلص بنا إلى نهاية منطقية، تتجلى في كون طغيان الحكام، وقسوتهم، وجورهم ، نابع من سلبية المحكومين المطلقة ، والتي منها يستمدون شروط استمراريتهم ، وربما هذا يسير دوما عكس منطق التاريخ الذي أعطانا دروسا، وعبر كثيرة، الثورة الفرنسية/البلشفية وعيرهما …
6. القضية الفلسطينية
ولم يكن الاهتمام بموضوع القضية الفلسطينية، مجانيا ، لتوشيح صدر الديوان، لربطه بالقضايا العربية ، لإضفاء طابع القومية على نصوصه، لكن شاعر "ابزو" في اختياراته الصادقة ، وإيمانه الرافض لكل استبداد، وإقصاء، وعنف، ولدفاعه عن الإنسان وحقوقه، وكرامته، نحى في أضمومته منحى خاصافهو ، انطلق من القضايا المحلية "أغنية لأيت مولي" ص13، مرورا عبر الإقليمية "حكاية خرافة" "يا أهل بزو" ص25، ثم الوطنية فالعربية، ليحلق من خلال نصوصه التي اتخذت طابعا تأمليا عميقا ، إلى الكونية. وهو ما أفرز نظرة شمولية تصاعدية، واهتماما عاما، طرزه باهتمام خاص بقضية العرب، القضية الفلسطينية، من خلال رصده لثمانية منابع، مثل كل منها مدينة، يجمع بينها الانتماء لنفس الحيز الجغرافي، والهم المشترك ، المتمثل في الصراع اليومي من أجل الانعتاق، من براثين الاحتلال الصهيوني، وكماشته القاتلة، كما رسم وجه مقاومتها، واستماتتها في التصدي. فرام الله التي شبهها بالوردة النازفة و"غيمة تمطر أطفالا (صقورا)/لتدك رماد النجمة" ص87.
أما غزة المحاصرة والمسيجة، فلا زالت هي الأخرى صامدة، يقول "ولو خاطوا شفاهك بالساطور/وحجبوا بصرك عن النور/فلن يطفئوا نبض الأجنة في الصدور" ص88، أما حيفا ففي شرايين (الأطفال) نوافذ تسكنها أطياف الأشياء ص 90، وبإرادة قوية "لرجم الرجس" ص 89، ولأطفال يافا أظافر، اتخذت صورة المعاول، التي تهدم حائط الدموع ص 91، بينما أنامل أطفال أريحا "بنادق وزهور" ص 93، ونابلس العذراء، مستنبت آخر للمناضلين "من عصير ثديها حليب أحمر/أبيض/أسمر … تزرع الفوانيس للزمن المقبل" ص94. وجنين من رحمها خرج الكفل النبي/من سيقرأ علينا ما تيسر من لغة الحجارة" ص95، وفي النهاية تشكل القدس "جسد قدسي/يقاد للصليب/سرب حمام/ورجم هديل" ص 97.
لقد تم رسم ملامح الجسد الفلسطيني الجريح بصور متعددة، قاسمها المشترك هو النضال، والاستماتة، ضد غدو فتاك، لكن ما يحز في أغلب هذه الصور ، هو الطفولة البريئة المعذبة التي فطمت على الدماء ولغة العار والحرمان، فالطفل الفلسطيني، هو ضحية الصمت العربي ، من المحيط إلى الخليج ...
على سبيل الختم :
إن تقاسيم الصرير، هذا العنوان المقلق والملفت للانتباه بضجره، رافقنا منذ أول قصيدة متجسدا في حلل مختلفة، فالصرير، كتابة عسيرة/حزن/بؤس/تهميش/ذل/موت/كبت/انكسار/ضياع/جراح/هزيمة/دموع/فراغ/عفن / جفاء / جفاف/شواهد قبور منسية، وقد اتخذت لها مقامات نسجت عليها ألحان معزوفات بتقاسيم حزينة لحظة/ساخطة، وثائرة لحظة أخرى … لتبقى أضمومة الأستاذ المصطفى فرحات معزوفة متميزة عاشقة، تواقة للطهر، والخصب، والجمال، والصدق، والعدل منفتحة على أشكال تعبيرية أخرى، أعطتها سمة التحول والقدرة على تصور جديد لكتابة القصيدة الحديثة من خلال استلهام التراث وموروثه، وكأن الشاعر كان يبحث عن ولادة جديدة تمثلت في صراع الروح والجسد، بينما ينم عن وعي عميق في الكتابة الشعرية كشفت نسقها، باستخدامها لوحدات تركيبية حفرت عميقا وأبرزت مورفولوجية المعاناة (الذات/التاريخ/اللغة) وبالتالي الجسد الذي اتخذ أشكالا متعددة بدءا من فضاء النصوص، والصور الشعرية، والانزياحات التي كان تركيبها دقيقا جدا، كشفت عن حب المغامرة من خلال التكثيف أحيانا، والتجريد أحيانا أخرى مما منحنا إيهاما بصريا سحريا لذيذا وتداخلا إجناسيا متميزا تم توظيفه بشكل راق جدا.
ـــــــــــــــ
* الهوامش والإحالات:
جميع الاحالات المثبتة بأرقامها في ثنايا هذه الدراسة مأخوذة عن:
ديوان تقاسيم الصرير للشاعر المصطفى فرحات الطبعة الأولى2006 دار وليلي للطباعة والنشر مراكش
*المصطفى فرحات شاعر مغربي من مواليد ابزو بإقليم أزيلال المغرب
*بزو بلدة قديمة تقع في جبال الأطلس المتوسط بمحاداة سهل تادلة وتتكون من مجموعة من الدواوير وهي تابعة لإقليم بني ملال.
* المختار السوسي علا مة مغربي من مؤلفاته المعسول سوس العالمة وإليغ
* مرجانة هي احدى شخوص رواية – مرجانة أو أهل أنتيفا- rené euloge
* الحسن البونعماني شاعر مغربي
* أيت مو لي الدوار الذي ولد به الشاعر
René euloge * قائد الحملة العسكرية ضد قبائل أيت امحمد بأزيلال بتاريخ .../01/1911وهو صاحب ر واية – مرجانة أو حكاية أهل أنتيفا-
* واد العبيد : نهر ينبع من جبل معسكر الذي يبلغ ارتفاعه 3377م يتجه من الشرق إلى الغرب ويمر وسط – ابزو - ليصب في نهر أم الربيع-وهدا الأخير من أكبر الأنهار المغربية ذات المجاري الدائمة.- منبعه من عيون أم الربيع بإقليم خنيفرة المغربية
وكذلك الشاعر الحسن البونعماني* الذي خاطب أهلها قائلا :
" يا آل ابزو أهل كل فضيلة/لازلتم في ظل عيش زاهر" ص30.
كما اتخذت صورة أميرة فاتنة :
أميرة كانت/تحيى أعراسها الربيعية/أنامل لليل بدوي/وحنجرة كروانة أمازيغية/تضمخ الجنان عطرا نورا/لما يميد بها السلسبيل/وتهرب في مسارب ليل طويل. ص26.
إن صورة ابزو، في ذلك الماضي الجميل سرعان ما شابها ضباب كثيف، واعتلى محياها مسحة حزن وكآبة، وكأنها وصلت فجأة إلى مرحلة حرجة، دبل الجمال، ولفها شحوب قاتل، فصارت "حسناء رسمت محياها/أظافر الذهول/وسفينة ملقاة بمرفأ مهجور. ص7.
هرمة وشاحبة ومتعبة وهو يستشرف غيبها، شاحبة/كشيخ يكح السعال/وكشيخ يطلع من آخر الليل/تشقق جلده من وهج الترحال/يستفحل الأمر كثيرا وهي على مشارف الموت تحتضر "دابل جيد" "بزو" ومستباح/ضاق في ثوبه الطيني/وسرى في عراه الردى. ص28.
إن الحالة المزرية التي أضحت عليها المنطقة التي كان لها ماض تليد، وعريق، كان بسبب الإهمال وبفعل قساوة الظروف الطبيعية والمناخية، حزت في نفس الشاعر وهو يرمم لها لوحة قاتمة في النهاية "تهجر الطيور أعشاشها/وعلى أكتافها تحمل الأشجار الجذور/والريح تعري في شهوتها البذور/ها أم الحسن تستف نشيدها/والحمام فارقه الهديل" ص29، فصارت منبوذة، منسية، مهيضة الجناح "تستحم في زرقة من مرارة" ص29، وتحولت إلى "كومة رماد/تدريها الرياح بعيدا .. بعيدا" ص30.
إن الحسرة التي كتب بها النص، تنم عن مدى الخوف الذي ينتاب المبدع حول مستقبل بلدته، وهي بمثابة نداء، وتحذير في نفس الوقت، وصرخة مدوية في كبد السماء، مطالبة بالالتفات إليها، والإسراع إلى إنقاذها. ولم يكن حال الحاضرة، أفضل بالمقارنة مع دوار "أيت مولي"*- الذي ينتمي إليه الشاعر- الذي يذكره بدفء، وحنين كبيرين، وبخوف وقلق "رمانة محروقة بعهد النسيان/طفلة صغيرة تيتمت/سلمت للإهمال وديعة/تلة مجروحة بشتى الجراح" كما جاء في قصيدة أغنية "لأيت مولي" ص7.
وهي مقارنة الماضي المشرق، بالحاضر الباهت، أما في قصيدة "أنامل أمي" ص17، يصف الشاعر نمط الحياة الجميل بالقرعة الحالمة، والهادئة، من خلال استرجاع لحظات الطفولة الجميلة من خلال الإشارة إلى أمه وأبيه وهما نموذجا مصغران من الدوار يمكن إسقاطه على بلدته "أبزو" ككل، العاشق أهلها للخصب، ورائحة التراب، ورقص السنابل، وأريج المروج ، في دورة حياة عادية ، بسيطة لكنها رائعة، "جنبا إلى جنب سارا/واحد يتصبب عرقا ورملا/وآخر يعشق كل الفصول" ص17.
إن الارتباط بالأرض، وإنتاجها هو من السمات الأساسية للحياة في البادية ، التي كلما منحتها كثيرا من الجهد، وبادلت قساوتها، الحب، أثمرت حقولها ، وأينعت ، وعوضت تعبك خيرات وفيرة. كما يقدم النص صورة عن طريقة العمل طوال فصول السنة، في إطار من التعاون اللا مشروط بين الرجل ،والمرأة "في الصيف/تجمع (الأم) سنابل الحقول/تقيم أعراسا/في الشتاء/تزرع البذور/وتعد بالنذور/في الربيع/تغني للزهور/وتعصر العطور ، في الخريف/(الأم) تغسل الصوف/وتنسج الثياب" ص17، 18.
ورغم كل هذه الانشغالات ، كانت الأم تخلق متنفسا لها ، فتصدح بالغناء، وكأنها كانت توشح صدر الطبيعة ،بمواويلها الشجية، "كان لأمي لحن البحر/حنين الصهيل/صلابة الفجر/نبض النخيل" ص18. بالمقابل يبرز نص "عودة في غروب الحصاد" ص43، قساوة الحياة البدوية في ظل أزمة خانقة، بسبب توالي سنوات الجفاف، بحيث كان المشهد مرعبا جدا، طفت صورة المقلقة ، ضواعة بروائح البؤس والجوع، والانكسار والقهر، "الوجوه كأنها في كفن/الأوراح حبلى بالخواء/يكبون ظهورا هزيلة/ينصتون لخشخشة السنابل العجفاء/يلبسون زمنا مرتقا/الحزن آيات ،تتدلى من كهف الفضاء/تلبس كل ألوان الدماء/سائرون إلى ديار/لاشيء فيها غير سغب/وسعير وغبار/مدخنة بلا دخان/كلب من الجوع سكران/صغار الأطفال يأكلون البكاء …
إن اللوحة التي رسمها الشاعر المصطفى فرحات عن منطقة ابزو، كانت قائمة جدا، جو جنائزي، يؤجل فيه الموت لحظاته ، ويتكاسل هو الآخر بالانتظار، والصبر، والتسويف، إنها لحظات الأمل الآفلة، وحصاد لهشيم الهشيم والخواء ، بحثا عن امتلاء خيالي.
"وخيط واهن (يشدهم) للبقاء" ص45، إنه حفر بالأظافر على صخرة المعاناة والمرارة.
إن هذا الوضع الكارثي ولد عنفا قاتلا، ونبذا لكل قيم التسامح ، والتعايش ، الذي أصبحا مستحيلين ...
وهي صور سوف تتكرر بمرارة في نص "حديث القرية والطائر" ص46.
يحكي النص قصة طائر صغير "يطارده الصغار والكبار/ومتى غنى لهم/صرخوا في وجهه/لقموه الأحجار/ونزعوا آذانهم/حتى لا يزعجهم غناه" ص47. ولعل رمزية النص، كانت بليغة جدا، فهو يمثل وجها آخر من حياة القرية ، التي تحول العيش فيها إلى جحيم قاتل، وذكرى لأزمنة آفلة، وكأنهم يحاولون بفعل القسوة ، محو كل شيء جميل ،وهو ما ولد تطبعا على العنف، أضحى معه الطائر وشدوه من بقايا ماض جميل منقرض، وحالة شاذة في ظل الواقع المفروض ، تحت إكراهات قوى خفية وأكبر …
فالطائر "متى غنى/تفوح ريح الشيح والزعتر/ويزهر الزمن في جلباب أخضر/تندمل جراح الأرض/ويتكلم المنبع بالماء" ص48.
لقد تم تصوير الطائر في صورة نبي أو مرسل يحمل رسائل الحب، والخير، والسعادة، لمجتمع متأزم، لكنها قوبلت بجفاء، ورفض مطلقين، بل وصل الأمر إلى حد طرده من القرية بعد محاكمته كما جاء على لسان الراوي "وقدم الطير النشار للعدالة/تهمته الوحيدة/الغناء في الليالي الباردة/وإزعاج الناس/في نومتهم الطويلة" فأخرج من قريتنا غير مرجوم/ألفنا أنكر الأصوات" ص48.
إن درامية هذا النص في بنائه وحبكته التقنية تجعل منه نصا مسرحيا بامتياز، قدمت من خلاله مشاهد متعددة بنهاية مفجعة. جاء على لسان الراوي "أن البلدة يا سادة/لما سكت فيها الغناء/وشربت الأثداء حليبها/ارتكست الريح في الذبور/ونمت حول القرية/بدل الزهور/شواهد القبور/.." ص51.
ولعل قصيدة تهاليل لوادي العبيد ص51 هي بمثابة تتمة أو مشهد أخير يمكن إلحاقه بالنصوص السالفة الذكر، نظرا لبلاغة التصوير فيه، وبلغته التي طغى عليها طابع الابتهال والأمر "انهض أيها النهر الشهادة/وجلجل/لك النحن والبلد الطريح/لك الأفواه المفتوحة/جائعة هي كل العيون/وكل الأصابع/فدحرج ماءك/نهدا/ خبزا/ثمرا/كن لنا شفاعة وخمرا/وهبنا بعض الشبع" ص51.
إنها تهاليل حزينة، صادقة، ممزوجة برغبة، وتوق نحو الانعتاق، لاعتقاد أصحابها أن النهر - واد العبيد*- هو الوحيد القادر على تحويل قتامة الحياة. وقد اتخذ النهر كذلك صورة النبي محمد (ص) مجازا في شفاعته وهو ما يمكن استشفاؤه من خلال هذا البيت : كن لنا شفاعة وخمرا/وصلة بين الأرض والسماء/وفاصلة أنت بين الحياة والفناء. ص51.
فالتهاليل حملت في طياتها الندم، والحسرة، والرغبة في العودة إلى حياة سابقة، فكانت المناجاة للحق سبحانه لحظة أخرى :
دعوني والروح مشروخة الصبر/وإليك مشيت مخسوف البصر. ص53، لأنه القادر فوق عباده، والقاهر في نفس الوقت لكي "تعود الحياة حبلى/تكون نهري السعيد/ويعود البلد من بعيد. ص53.
2. الأنفاس الحكائية والتاريخية
إن الاهتمام بتاريخ " ابزو" وثقافتها الشعبية، مكن الأستاذ المصطفى فرحات ،من ضخ أنفاس حكائية داخل متونه الشعرية فجاءت عبقة بأنفاس التاريخ ، وموشحة بوشم من الماضي التليد ،الموغل في حضن الأدب والأسطورة، كما هو الأمر في قصيدة "مرجانة" *ص33، التي استوحى أحداثها من رواية "مرجانة أو حكاية أهل أنتيفا" للكاتب الفرنسي Réné Enloga*، وهو قائد عسكري، شارك في الحملة الفرنسية ضد قبائل أيت امحمد بأزيلال سنة 1911، ولعل الطابع المسيطر داخل النص الشعري ، هو النفس الروائي/دقة في التفاصيل/تناسل الأحداث/الحوار/ ، ومما أعطاه نكهة خاصة ، هو تقديمه لصورة العبدة بكل هواجسها النفسية، وتمزقاتها العاطفية، بتطلعاتها، وانكساراتها ، مبرزا صراعها الداخلي بقوة، فبالإضافة إلى المهام الموكولة إليها : رعي القطيع/حلب الضروع/حياكة البرنس لسيدها/تنظيف الملابس/ كانت في خلوتها تعيش حياتها الخاصة، تمني النفس وهي "تنتظر خيالا/أو طيفا يحملها/وتحمله إلى الفصول الآتية" ص33، تحاول تقليد سيدتها نظرا لتعلقها بسيدها ، وحبها الكبير له حتى الجنون "تلبس مرجانة قفطانا ووشاحا/تضع حرقوسا وسواكا/ترطب خصلات شعرها الناشفة/مترنمة أنغاما أمازيغية/وتبحث عن وجهها المكسر في المرآة" ص34.
إن رغبة مرجانة كانت جامحة، يدفعها الفضول ، والتلصص، إلى التجسس على سيدتها ، وهي في لحظات انتشائها ، داخل عرينها الخاص، لتفريغ مكبوتاتها، "من ثقب الباب/تراقب سيدتها وسيدها/يعبران نهر الشهوة" ص34، فتكتفي هي بالعبث "بحلمة ثديها/تمرر يدها الخشنة على صدرها/ويسيل الثغر بالرغوة" ص34.
لقد شكلت مرجانة برمزيتها ، نموذجا للإنسان المقهور، والمحروم، وذاكرة مجروحة، وتاريخ منسي، إنها "أقحوانة (ذلك) الوقت/وفاتحة النهايات … إنها حلم الحلم … الذي سرعان ما سوف يثور/يمزق/ويخرق" إنها التاريخ الذي فيه "تتوهج رقاب العبيد/وتنطفئ (فيه) أعناق الأسياد" ص36، فمرجانة هي ثورة البؤساء.
أما في نص حكاية الفارس الكاذب ص78، فالشاعر يسترجع طفولته من خلال حكايات الجدة التي كانت تنفحه بها، وتشنف أسماعه كل ليلة، ورغم تكرارها لم يكن يملها، وصار بدوره يرويها "كم من مرة علي أن أعيد نفس الحكاية" ص78، يقول "وأنا طفل أجلس لركبة جدتي/حيث تغزل الصوف أو تغني/أو حين تطعم حنجرة الرحى/بحبات سنابل حقول رملية"، فالجدة في حكيها المشوق ، كانت تسرد تفاصيل الفارس الكاذب الذي "كان يعشق أسرار العذارى/ويعشق التسلي برؤوس أحرار القبائل" ص79.
إن بطل القصة الجبار، كان يعث فسادا في الأرض، والحرث، والنسل، الزرع، حسب ما يستشف من حكاية الجدة الغير مكتملة دوما، ولعل سخرية القدر ، هي التي سوف تدفع الشاعر (الطفل) ، إلى البحث عن بطلها ، ليجده ماثلا أمامه في الواقع ، "وكبر الطفل الذي كنته/ومشيت الزمن الذي عشته/وأتممت ما حفظته عن جدتي/وعرفت الفارس الكاذب/من يزين صدره بالنياشين/ويزدهي بأوسمة القتل/لينترها في زمن حل فينا/كليل زنجي طويل" ص80،81
لقد لعب التشويق ، و شد الأنفاس ، دورا أساسيا، وشح صدر القصيدة، ومنحها صفة الحكاية المتميزة، والمفزعة في نفس الوقت، كما أبرز بلاغة الجدة، وحكمتها من عدم إتمامها لحكايتها، وكأنها آثرت على نفسها، وعن قصد إثارة شغف الحفيد ، ليتعرف عن كثب على فارس زمانه الكاذب.
إن المثير في نصوص الأضمومة ، هو ذلك التداخل الأجناسي ، الذي تم توظيفه بدقة عالية ، وحنكة تنم عن تمكن كبير، وقدرة فائقة على تنويع النصوص ، بمختلف الأنفاس ، والأجناس، (مسرح/رواية/شعر/حكاية/تاريخ …)
3. سؤال الشعر
من أكثر الأسئلة التي أرقت الشاعر المصطفى فرحات، هو سؤال الشعر، الذي أفرد له تصديرا خاصا في مقدمة ديوانه، معبرا عن موقفه ، و رأيه الخاص حول الموضوع، معتبرا أن الشعر "موجود في كل الأشياء المحسوسة، وغير المحسوسة" إنه حاضر في القلب، والعقل، والجمال، والقبح، في الحب، والكره، في النبي الدجال … داخل وخارج الطبيعة، الحية ، والجامدة، إنه موجود حيث نوجد ولا نوجد، فهو ما خلق، ويخلق الإنسان ص5/6، والديوان يزخر بالعديد من الإشارات الدالة على قناعة الشاعر، وتصوره الخاص اتجاه الموضوع. ففي قصيدة "جولة في منتصف الحزن" ص10، يقول "بلا نعال أمضي/أعدو بخطايا/ما تعلمته من السماء/أخط قاموسا جديدا/للأفعال والأسماء/أورثه لمن يتناسل مني/من الأجيال".
فالشعر يسكننا، ونسكنه، نتمثله في كل الأشياء حولنا، في الصور ، والأحاسيس التي تعبرنا، لحظة التأمل وفي لحظات الصدق. ففي قصيدة "البحر والشعر" ص12 يقول "صوت الشعر/صوت البحر إذ يتمدد/يعزف بصوت الماء/ترانيم أزلية/تشاغب صمت الوقت/وتعلن ميلاد القصيد/من رحم الأبد".
فالشعر ، تجسد في طائر الحديقة الأزرق كذلك ، كما جاء في نص "ما في حديقتي أسرار" ص20، يقول "يدعوني إلى محراب حلقة/لعلمني كف أرتل النشيج أغاريد/كيف أراقص القمر/وأشعل الخريف بأنوار الربيع/ومتى أنتشي طائري الأزرق يصمت الجميع" ص30، فالحديقة القابعة في حديقته بصيغة الجمع "حدائق الشعر" بأصواتها، وأوراقها، وبحبورها، وطباقها، وجناسها، واترياحاتها، وأوزانها، واستعاراتها، وصورها المتزاحمة على أمكنة، وأزمنة، حالمة، غائرة ، في أعمال الوجدان ، بحكاياتها العجائبية، وعشقها الوهاج ، وأنوارها البراقة، وأجنحتها الملائكية، بتصوفها الصادق والصافي، وغوايتها القاتلة، إنها المسالك الحقيقية ، والجواب البسيط ، لكل المقاربات التي تحاول وضع الحدود النهائية ، والقواعد المطلقة . لكن الحقيقة قابعة ، بين مرج البحر، بين الحق والباطل، العتمة والنور، إنها عوالم محفوفة بالمخاطر، توجد بدواخلنا، عندما تتوقف كل الحواس الزائفة، "وذلك مسلك اللاعقلانية حيث كل شيء يبدو في غير مكانه، وفي لا شكله ص 6.
وقد لامسنا وجهة النظر هذه في نص بهاء القصيدة ، بحيث تبين لنا بالملموس ، وجهة نظره ، حيث يقول عن الشعر: "فهو يأتي مرتعشا/كبسمة الفراشة/تحمل غصن الشارة/وهذا النهر من ذلال القصيد/يتلألأ بالخضرة المائية/يرتدي الحلم/ويشحدنا بالحلم. ص55.
لنستخلص أن الأضمومة ، حاولت الجمع بين التنظير، والممارسة ، بدءا من التصدير في ص5 ، مرورا عبر توظيفه لجماليات متعددة، وتمرد على القوالب، وتشكيله المغاير للفضاءات النصية، وإدماج لأكثر من جنس أدبي ، داخل قالب متنوع، عابق بأنفاس متعددة، ولكنها فريدة، منحت كتابته الشعرية ميزة خاصة.
4. صورة الوطن
لقد شكل الحديث عن الوطن ، قاسما مشتركا بين العديد من الشعراء، لكن زوايا النظر إليه ، كانت أحيانا مختلفة، وأخرى تتقاسمها سمات القتامة، والحزن، والسخط، والثغور، وهي من السمات الغالبة، وصلت إلى حد اعتباره أكثر من غريب، وغير مرغوب فيه، مادام لا يستجيب لكل التطلعات .. فبين الوطن الذي يحلم به المبدع، والآخر الذي يعيش بين أحضانه، بون شاسع، والشاعر المصطفى فرحات ، هو الآخر في قصيدة "وطن الوجع" ص67، لازال يبث عن صورة الوطن المثالية، وطن البدايات، يقول :
"من ذا الذي يعيد لي بلدي/من ذا الذي يهجرني إلى وطن البداية/فهذا الوطن الفاجعة/لا يحتمل جرحى/لا أحتمل جرحه" ص68.
إن الوطن المتخن بالجراح، هو وطن يفقد فيه المرء هويته، نفسه، كيانه، وطن منبوذ، يفتقد فيه أواصر الارتباط، إنه الوطن الفاجعة الجريح والممزق، والتائه، والسافر، والمرفوض.
وعندما نتساءل حول أسباب هذا النفور، نجد الجواب ضمن نص آخر "في انتظار الاعتراف" ص58، حيث يصفه بالمسروق، وأهله تائهون، أعماهم النصب، والمصالح الخاصة "وطن/سرق من جبين الأبرياء/لينقل في جيوب الأثرياء .. وطن/طيوره/ليست عيون الوطواط/علقت أجنحة الحمام/وهاجرت في جنح الظلام" ص29.
إنه وطن اللامساواة، والموت، والقتل، والانتحار الإرادي، الوطن البشع الذي يفرمنه أهله من الموت، نحو الموت كما جاء في نص "غواية العبور" الذي يتطرق للحظات الهجرة السرية، بكل قتامة، حيث (الريح قوية، والموج المرغي، الذي يبتلع في ضبابه وعنفه أحلام ورود الوطن لتتحول المسافة بين الواقع المرير والحلم الجميل إلى بحر جثت وقبور) ص 66 بتصرف.
لقد تحولت هالة الوطن، إلى زمن العذاب المطلق، ومكان لصناعة الموت وقواربه، أرض خراب/قاحلة/أرض المشانق/وحبال الموت، إنه وطن .. معلق في السماء. ص 60.
فبين الوطن الذي يعيش فيه الشاعر، والذي يرومه، تمتد مسافة بحجم الحلم، مستحيلة العبور، وقد تجسد ذلك في قصيدة "الانعتاق وفي الطائر الأزرق ، الذي يحلق دون توقف ، باحثا عن فنن في شجرة ظليلة، عميقة الجذور، لكنها غير موجودة، وبعيدة المنال، ما لم تتراص بحروف من المعاناة ، ضمن قصائد ..
5. السخرية
لعل القارئ لقصيدة "برج العرب" ص82، سيلاحظ لا محالة ، أنه اعتمد في تأسيسها على تقابلات ضدية، كان الهدف منها ، وضع المتلقي بين صورتين متنافرتين، الأولى للحاكم، ساخرة دالة، تعري زيف الواقع، وتكشف كل مستور. والثانية للمحكوم "الشعب" ، الذي يعيش فريسة لتصوراته الخاطئة ، في كابوس المزعج، الذي يؤوله إلى مجرد أضغاث أحلام، يفسر قبحها، جمالا، ونواياها المفرطة، مجرد هواجس كاذبة، وعنف ، وحمق حاكمه، إلى محبة فياضة ، ورضى مطلق، باعتباره الحامي للملة والدين، ومثالا لكل مقدس، ارتكازا على ثوابت الانتماء ، لآل البيت.
جاءت صورة الحاكم العربي، كاريكاتورية، أبرزت قبح منظره، وبشاعة صورته، مستخفا بإرادة محكوميه، مستبدا، مستهترا، فهو عن طواعية "يلقي بشعبه في القمامة/ننسى في لذة الكأس/وصدور/وخواصر/(صحبته) هموم (أمته)" ص82. دوما منغمسا في لذاته، ومجونه، فهو ساذن الكأس والطرب ص 83، (ينام) في الصباح في المساء/على نهد فاتنة شقراء/(يذكر إخوته)/ في السودان/ في الصومال… ص 84.
وهو حاكم مستبد، يتفرد بحكمه المطلق، استمد مشروعيته طوعا، أو كرها بانتسابه لآل البيت ، يقول "فيا شعبي الأبي/أنا أميركم، إن شئتم/أو إن أبيتم" ص83، كما أن استمراريته هي دوما مشروطة تاريخيا، من خلال الدعم الذي يتلقاه من جراء المواقف السلبية للمحكومين ، الذين يستلذون بالجوع، والقهر، والبؤس، والذل، فالشعوب هي التي تصنع دوما الحكام، وهي التي تتقنت عبر الأزمان في خلق الشروط الموضوعية، والحقيقية لتواجدهم، وذلك بصنع نموذجها الفريد، والمفضل، الذي لا يراعي ، ولا يحفل بوجودها، ولا يحترمها على الإطلاق ..
إن النص يضعنا وجها لوجه، إزاء "حيوانات" مريضة بطاعون القوة ، والتسلط، ومتفننة في أساليب الفتك والقتل، وكأننا داخل غابة تعج بالتناقض في باطنها، لكن ظاهرها يعرف تناسقا كبيرا. فالشعوب "جبلت على الضجيج/والاستجابة/والخنوع/إنها وطاويط عمياء/صمت آذانها/ودجنت عقولها، وبلدت أفكارها لا تنتظر إلى واقعها، بقدر ما هي منبهرة بجمالية الأبراج الصاخبة العالية .. إنه الطرح الساخر الممزوج بالحسرة الكبيرة، التي تخلص بنا إلى نهاية منطقية، تتجلى في كون طغيان الحكام، وقسوتهم، وجورهم ، نابع من سلبية المحكومين المطلقة ، والتي منها يستمدون شروط استمراريتهم ، وربما هذا يسير دوما عكس منطق التاريخ الذي أعطانا دروسا، وعبر كثيرة، الثورة الفرنسية/البلشفية وعيرهما …
6. القضية الفلسطينية
ولم يكن الاهتمام بموضوع القضية الفلسطينية، مجانيا ، لتوشيح صدر الديوان، لربطه بالقضايا العربية ، لإضفاء طابع القومية على نصوصه، لكن شاعر "ابزو" في اختياراته الصادقة ، وإيمانه الرافض لكل استبداد، وإقصاء، وعنف، ولدفاعه عن الإنسان وحقوقه، وكرامته، نحى في أضمومته منحى خاصافهو ، انطلق من القضايا المحلية "أغنية لأيت مولي" ص13، مرورا عبر الإقليمية "حكاية خرافة" "يا أهل بزو" ص25، ثم الوطنية فالعربية، ليحلق من خلال نصوصه التي اتخذت طابعا تأمليا عميقا ، إلى الكونية. وهو ما أفرز نظرة شمولية تصاعدية، واهتماما عاما، طرزه باهتمام خاص بقضية العرب، القضية الفلسطينية، من خلال رصده لثمانية منابع، مثل كل منها مدينة، يجمع بينها الانتماء لنفس الحيز الجغرافي، والهم المشترك ، المتمثل في الصراع اليومي من أجل الانعتاق، من براثين الاحتلال الصهيوني، وكماشته القاتلة، كما رسم وجه مقاومتها، واستماتتها في التصدي. فرام الله التي شبهها بالوردة النازفة و"غيمة تمطر أطفالا (صقورا)/لتدك رماد النجمة" ص87.
أما غزة المحاصرة والمسيجة، فلا زالت هي الأخرى صامدة، يقول "ولو خاطوا شفاهك بالساطور/وحجبوا بصرك عن النور/فلن يطفئوا نبض الأجنة في الصدور" ص88، أما حيفا ففي شرايين (الأطفال) نوافذ تسكنها أطياف الأشياء ص 90، وبإرادة قوية "لرجم الرجس" ص 89، ولأطفال يافا أظافر، اتخذت صورة المعاول، التي تهدم حائط الدموع ص 91، بينما أنامل أطفال أريحا "بنادق وزهور" ص 93، ونابلس العذراء، مستنبت آخر للمناضلين "من عصير ثديها حليب أحمر/أبيض/أسمر … تزرع الفوانيس للزمن المقبل" ص94. وجنين من رحمها خرج الكفل النبي/من سيقرأ علينا ما تيسر من لغة الحجارة" ص95، وفي النهاية تشكل القدس "جسد قدسي/يقاد للصليب/سرب حمام/ورجم هديل" ص 97.
لقد تم رسم ملامح الجسد الفلسطيني الجريح بصور متعددة، قاسمها المشترك هو النضال، والاستماتة، ضد غدو فتاك، لكن ما يحز في أغلب هذه الصور ، هو الطفولة البريئة المعذبة التي فطمت على الدماء ولغة العار والحرمان، فالطفل الفلسطيني، هو ضحية الصمت العربي ، من المحيط إلى الخليج ...
على سبيل الختم :
إن تقاسيم الصرير، هذا العنوان المقلق والملفت للانتباه بضجره، رافقنا منذ أول قصيدة متجسدا في حلل مختلفة، فالصرير، كتابة عسيرة/حزن/بؤس/تهميش/ذل/موت/كبت/انكسار/ضياع/جراح/هزيمة/دموع/فراغ/عفن / جفاء / جفاف/شواهد قبور منسية، وقد اتخذت لها مقامات نسجت عليها ألحان معزوفات بتقاسيم حزينة لحظة/ساخطة، وثائرة لحظة أخرى … لتبقى أضمومة الأستاذ المصطفى فرحات معزوفة متميزة عاشقة، تواقة للطهر، والخصب، والجمال، والصدق، والعدل منفتحة على أشكال تعبيرية أخرى، أعطتها سمة التحول والقدرة على تصور جديد لكتابة القصيدة الحديثة من خلال استلهام التراث وموروثه، وكأن الشاعر كان يبحث عن ولادة جديدة تمثلت في صراع الروح والجسد، بينما ينم عن وعي عميق في الكتابة الشعرية كشفت نسقها، باستخدامها لوحدات تركيبية حفرت عميقا وأبرزت مورفولوجية المعاناة (الذات/التاريخ/اللغة) وبالتالي الجسد الذي اتخذ أشكالا متعددة بدءا من فضاء النصوص، والصور الشعرية، والانزياحات التي كان تركيبها دقيقا جدا، كشفت عن حب المغامرة من خلال التكثيف أحيانا، والتجريد أحيانا أخرى مما منحنا إيهاما بصريا سحريا لذيذا وتداخلا إجناسيا متميزا تم توظيفه بشكل راق جدا.
ـــــــــــــــ
* الهوامش والإحالات:
جميع الاحالات المثبتة بأرقامها في ثنايا هذه الدراسة مأخوذة عن:
ديوان تقاسيم الصرير للشاعر المصطفى فرحات الطبعة الأولى2006 دار وليلي للطباعة والنشر مراكش
*المصطفى فرحات شاعر مغربي من مواليد ابزو بإقليم أزيلال المغرب
*بزو بلدة قديمة تقع في جبال الأطلس المتوسط بمحاداة سهل تادلة وتتكون من مجموعة من الدواوير وهي تابعة لإقليم بني ملال.
* المختار السوسي علا مة مغربي من مؤلفاته المعسول سوس العالمة وإليغ
* مرجانة هي احدى شخوص رواية – مرجانة أو أهل أنتيفا- rené euloge
* الحسن البونعماني شاعر مغربي
* أيت مو لي الدوار الذي ولد به الشاعر
René euloge * قائد الحملة العسكرية ضد قبائل أيت امحمد بأزيلال بتاريخ .../01/1911وهو صاحب ر واية – مرجانة أو حكاية أهل أنتيفا-
* واد العبيد : نهر ينبع من جبل معسكر الذي يبلغ ارتفاعه 3377م يتجه من الشرق إلى الغرب ويمر وسط – ابزو - ليصب في نهر أم الربيع-وهدا الأخير من أكبر الأنهار المغربية ذات المجاري الدائمة.- منبعه من عيون أم الربيع بإقليم خنيفرة المغربية