حياة بلا شدو أو غناء حياة صامتة لا لون فيها، والغناء وسيلة تعبير في مونولوجاته، ووسيلة تواصل في حوارياته.
الغناء فيتامين ضروري للحياة، ينفس عن الكرب أو يشحذ الهمم، يلطف المجالس أو يعبؤها، يمنح السامع فرصة التأمل والإبحار الجميل، أو يدفعه إلى اتخاذ المواقف وتبني الفعل الإيجابي.
فقد يتجلى في شكل متعة: ياشادي الألـــحان أسمعنا نغمة العيدان
أو في شكل تحريض على فعل التغيير: إنهض للثورة والثأر إنهض كهبوب الإعصار
فالغناّء المحترم ينبغي أن يخرج إلى رحاب الفن بمنهجه وتصوره ورساليته،فيتناغم مع حاجات العصر، ويتفق مع الفطرة الإنسانية السليمة، ويملأ إحساس ووجدان المستمع بالغناء الهادف، والفن ماهو إلا محاولة من محاولات التعبير عن الجمال والحسن الذي يتراءى في أرجاء الكون بمحبة الله، والفنان القدير صاحب الهدف السديد، هو الوحيد الذي يستطيع إثبات عبقريته وقدرته على التميز والعطاء والإبداع... فالغناء هو أحد الإبداعات الفنية الأكثر التصاقا ومعايشة وملامسة للمشاعر والأحاسيس الإنسانية، وبالتالي تأثيرا بها وتحكما في مساراتها. ثم هو الأقدر على تلوينها بالفرح والطرب إلى حدود النشوة والتجلي، والحزن والكآبة حتى البكاء وذرف الدموع، واستنهاض الهمم والعزائم حد الثورة والتغيير، ثم هو واحد من المخرجات الثقافية لأية جماعة إنسانية، يعكس روحها وحسها ومزاجها ومدى شفافيتها، وتجاوبها مع البيئة التي تعيش في كنفها، وبالتالي درجة تأثيرها وتأثرها بها.
والأغنية أيا كان لونها، سواء طربية، شعبية، تراثية، وطنية، دينية، أو عاطفية.. هي وليدة خمسة عناصر رئيسة: تتمثل في كلماتها ولحنها وتوزيعها الموسيقي وأدائها وتلقيها. وهي عناصر تتداخل مع بعضها لتحدد في النهاية مدى صدقها وثباتها وإمكانية نجاحها وقدرتها على التواصل مع الأجيال، كما يعبر عنها الفنان التونسي لطفي بوشناق، حتى أنه أضاف عنصر سادس إلى العناصر التي سبق ذكرها، ألا وهي: روحها الوليدة من رحم ثقافة تنتمي إليها وتصبح جزءا لايتجزأ منها.
قديما عرف أجدادنا من العرب الغناء الذي كان عندهم قرين الشعر العربي الأصيل، الأمر الذي جعل منه فنا مقبولا ومرغوبا فيه. وقد ذكر لنا تاريخ الأدب العربي كثيرا من القصائد والأبيات الشعرية التي غنتها الجواري والقيان آنذاك. إلا أنه مع الأيام وجراء التقهقر الثقافي وبخاصة في مجال اللغة العربية، برزت عدة أغاني منها الأغنية الشعبية، والتي أصبح لها شعراء خاصون بها، وتتناول غالبا موضوعات شتى في الحب والغزل والتغني بالوطن وأمجاده وغير ذلك.. وأخيرا الأغنية المصورة (فيديو كليب) أو مايطلق عليها بالأغنية العصرية.. وأيا تكون هذه الأغنية فيجب أن تكون لها شخصيتها الفنية وهويتها الإنتمائية، وخصوصيتها ولونها ومذاقها.
وعلى اعتبار أن الأغنية أصبحت تحتل مساحة متنامية من أوقاتنا، وتذوقنا ورفاهيتنا، وترويحنا وحياتنا بشكل عام، فلا بد أن تبقى خاضعة لمواصفات ومقاييس تحت مظلة ثقافية ملتزمة وواعية، رغم ماجاءت به من مساوئ هاته الموجة من الغناء الحديث المتلفز، التي تفتقر في الغالب إلى أبسط عناصر الفن الغنائي الحقيقي..
لقد سكت مارسيل خليفة وفيروز وأحمد فؤاد نجم وناس الغيوان وأصحاب الكلمة.. وعلت أصوات جديدة بين مزاودية وربوخ وجماعة ستار أكاديمي.. سكت أصحاب الهدف والقضية.. ورفع صوته من جعل من الأغنية أداة شهرة ومال. إن الجمهور لا يمكن أن ينسى تأثير أغاني مارسيل خليفة وجاذبيتها وهي تتحدث عن المناضلين، والإحتلال والقضية الفلسطينية بالأساس.
لقد كانت تلك الأغاني إلى منتصف الثمانينات تعد ثقافة متواصلة، وما شهدته تلك النوعية من الأغنية أي الملتزمة رغم تحفظ أغلب الفنانين في تلك الفترة على التسمية من انتعاشة كبرى، إلا أنها أصيبت بالركود فيما بعد، مما جعلها مرتبطة بظرفية معينة بالرغم من أنها تعدّ في جوهرها ثقافة دائمة بالنسبة لأصحابها كما سبق ذكره. فالأغنية الملتزمة هي من أرقى الفنون وهي الثقافة الوحيدة التي تعدّ سلسلة متواصلة، ولن تخمدها الظروف الخارجية لأنها راسخة في ذهن الفنان ووجدانه، كما يقول الفنان التونسي الهادي قلّة.
فالأغنية الملتزمة مختلفة وتؤكد على وجود ثورة فكرية كاملة إلا أن تراجعها في الفترة الأخيرة يعود إلى طغيان المادة الذي طمس هويتها ولأنها لا تساهم في الترفيه بقدر ما تخاطب المستمع وتطرح الأسئلة بعيدة عن كل ما هو فن استهلاكي. وإذا مااندثر هذا النوع الغنائي فإن القضايا أيضا تموت، وهذا من المستحيل لأن القضايا الإنسانية دائمة الوجود، كما يعبر عنها الفنان التونسي الزين الصافي. وحول هذا المعنى يقول الدكتور عماد الدين خليل: "والإلتزام في المفهوم الإسلامي: أن يمتلك الفنان أولا: تصورا شاملا متكاملا صحيحا للكون والحياة والإنسان، يوازيه انفتاح وجداني دائم وتوتر نفسي لا ينضب له معين إزاء الكون والحياة والإنسان، ومن بعد هذا يجيء الإلتزام عفويا متساوقا منسابا.. علاقته بالعطاء الفني لا تقوم مطلقا على القسر والتكلف والإكراه، ولا تعترف أبدا بالمدرسية أو الوعظية أو المباشرة..".
إن الغاية التي يهدف الفن الملتزم إلى تحقيقها هي إيصال الجمال إلى حس المشاهد أو المتلقي، وهي ارتقاء به نحو الأسمى والأعلى والأحسن، أي نحو الأجمل، فهي اتجاه نحو السمو في المشاعر والتطبيق والإنتاج ورفض للهبوط.
يقول الأستاذ محمد قطب: "والفنان شخص موهوب ذو حساسية خاصة تستطيع أن تلتقط الإيقاعات الخفية اللطيفة التي لا تدركها الأجهزة الأخرى في الناس العاديين، وذو قدرة تعبيرية خاصة تستطيع أن تحول هذه الإيقاعات التي يتلقاها حسه مكبرة مضخمة، إلى لون من الأداء الجميل يثير في النفس الإنفعال ويحرك فيها حاسة الجمال، إنه كجهاز الإستقبال اللاسلكي الدقيق، الذي تحس صماماته بالموجات الدقيقة الخفية فتلتقطها وتكبرها، ثم تحولها إلى صوت ونغم صاف وجميل يهزُّ الأسماع".
وإذا كانت هذه الموهبة هي السمة المميزة للفنان، فلا بد حتى تؤتي ثمارها أن تستند إلى أرض صالحة ثابتة، تأخذ طريقها سوية مستقيمة منتجة للظل الوارف والثمر الطيب، وهذه هي السمة الثانية.
إن الفنان قبل أن يكون موهوبا ينبغي أن يكون إنسانا سويا يأخذ التوازن أبعادا في كيانه له تصور كامل عن الكون والإنسان والحياة، يدري غايته وهدفه في هذه الدنيا، ولا يمكن أن يتحقق هذا التوازن في شخصية الفنان إلا بشعوره بعظم المسؤولية التي تغمر كيانه، وتملأ أقطار نفسه، وتنقله من حيّز الإنتماء العقلي أو الشعور الوجداني إلى سلوك يتحرك. إن إيمان الفنان الصادق بجدية ما يقوم به من غناء واعي، نابع من مبادئ، ورغبة منه في التعبير عن حضوره الفاعل في واقعه والتأثير في مجرى أحداثه، يجعله أكثر من غيره إحساسا بمسؤوليته تجاه جمهوره وقضايا وطنه وأمته. وهذا الوعي وإن كان مكلفا على المدى القريب، فإنه سفينة نوح على المدى البعيد.
وانطلاقا من قاعدة كون الفن يرتبط أساسا بالوجدان نقول ماقاله مالك بن نبي رحمه الله: "إن المعيار الأساسي في اعتبار العمل الإبداعي فنّا هو في قدرته على استثارة وجدان الآخرين، ومن ثَم فالفن يستقل بذاته في كونه فنّا، سواء ارتبط بالأخلاق أم لم يرتبط بها. وغاية ما نستطيعه حيال علاقته بالأخلاق هو أن نقبله أو نرفضه، دون أن يحق لنا أن نجرد هذا العمل من صفته الفنية بحسب موقفنا الأخلاقي أو الأيدلوجي منه". وبهذا يجب على المستمع أو المشاهد القادر والمستقل بذاته، أن يقيّم أي عمل غنائي يقع بين يديه، يؤيد كل أغنية مرتبطة بالأخلاق وينقد من غير تحامل وغلوّ مادون ذلك، والرافض للتدرج لابد أن يؤسس لعقلية شيء خير من لاشيء، بدل عقلية كل شيء أو لاشيء، لأن الغناء ضروري للوجود الإنساني سواء في طلبه المتعة والإسترخاء أو في سعيه لحشد الهمم والتعبئة للتغيير. لكن الأغنية لا تكون أغنية ولن تكون إلا إذا طابق نص الأغنية نبض الشارع المولودة منه. وهذا هو الرهان الذي ينبغي على مبدعي الأغنية العربية الدفاع عليه.
تمثل الأغنية العربية اليوم ظاهرة جديدة من حيث طبيعتها المغتربة عن الواقع العربي وثقافته الفنية المتعارف عليها. فهى ظاهرة اغتراب بامتياز لا تمت بصلة للواقع العربي، كما لا تعبر عن جوهر ثقافته الحقيقية، وإن كانت تؤشر على مدى التفكك والسقوط المرتبط بالأمة العربية المعاصرة. ورغم مدى التدهور والسقوط الذي وصلت إليه هذه الموجة من الأغاني العصرية، فإن الأمر لا يعدم وجود بعض المطربين والمطربات الجادين، الذين تبقى أصواتهم عالية ورافضة لا تعبر عن السياق العام المتدهور والركيك، ناهيك عن الأوصاف الأخرى التي يعف القلم عن سردها.
من المعروف أن الغناء أو الطرب أيا كانت التسمية يعبّر عن حالة إبداعية وموهبة فريدة، فلا يمكن لأي مغني أو أية مغنية أن يعتلي خشبة المسرح ويقف أمام الجمهور وهو خالي من الموهبة. فالغناء لا تنفع فيه وساطة أو معرفة أو حتى تلك الشركات الإنتاجية الضخمة التي تتبنى هذا أو ذاك، لكن ما يحدث الآن هو تجاوز لكل الأعراف الفنية المتعارف عليها، فالكل يغني والكل يعتلي خشبة المسرح، والكل يقف أمام الجمهور، لايهم الصوت ولا تهم الإمكانيات الفنية والمهارية والإبداعية، فالشعار الحالي للأغنية العربية المعاصرة: دعه يقف، دعه يتمايل، دعه يغني، أو دعها تقف، دعها ترقص، دعها تغني.. فهو غناء بالقوة وليس بالفعل. وفرق كبير بين أن يكون هناك غناء بالفعل، أمثال أم كلثوم، ومارفقها من ذلك الجيل، تلك كانت ظواهر فنية طربية ممتعة حقا، وبين أن يكون هناك غناء بالقوة وبالوجود وبالقهر. ما يحدث الآن هو غناء بقوة العضلات وبإثارة الغرائز، وبضغط الشركات الإنتاجية على الجماهير المتلقية الخاضعة المغسولة عقولها والموؤودة مشاعرها وتوجهاتها.
ما يحدث الآن هو تناول مادي بحت للأغنية العربية من حيث نجاح المغني الفلاني، أو المغنية الفلانية في تحقيق مكاسب كبيرة مقارنة بالغير، بغض النظر عما إذا كان المغني ينتمي حقيقة لعالم الفن أم لا، وبغض النظر عما إذا كان هذا المغني يفهم في الفن من عدمه.
يرسخ القائمون على إنتاج الأغنية العربية المتلفزة، على أن ما يرفضه الجمهور اليوم سوف يقبله صاغرا في الغد القريب. ومن المؤسف أن ذلك هو الذي يحدث فعلا، وثبت معه أن هؤولاء يفهمون الواقع العربي ومتطلبات السوق بدرجة كبيرة من الوعى.
ولأن الأغنية العربية المعاصرة ظاهرة اقتصادية بالأساس، تعبر عن هشاشة هذا الواقع، وفقر إبداعه، فإنه لا بد من تدعيمها على مستوى التحليل والتفسير. ففيروز وفنها الجيد المعبر لم يحتاج يوما ما لوسطاء أو برامج تلفزية خاصة لترويجه والحديث عنه، رغم أهمية ذلك. فهو يدخل القلوب ويمس المشاعر ويثير العواطف النبيلة. أم الفن الهابط الركيك الذي نراه ليلا نهارا، فإنه يحتاج للكثير والكثير من الحديث والترويج عن نفسه، رغم أن المستمع أو المشاهد لا يجد شيئا من كل التحليلات في الأغنية موضوع التحليل، الأمر الذي يجعله يعتقد خطأً بقصوره الفني وعدم فهمه للمنتج المعروض أمامه. وفي هذا المجال أبدع الفنان الكوميدي أحمد آدم في كلمة قالها في لقاء تليفزيوني أستدعي إليه عندما سأل عن بعض الفانانين الجدد: "إن العالم العربي بكل فخر يشهد ميلاد مغن ومغنية كل 6 ثوان، ولو كنا في مجال الإنتاج العام بهذا المستوى الرفيع الذي نحن عليه في مجال الغناء، والرقص، والتنطيط، لسبقنا اليابان، وتفوقنا عليها، ليتنا نحتفل في البرامج القادمة بمخترعين، ومبتكرين، وموهوبين، بنفس حجم احتفالنا بهؤلاء المغنين والمغنيات، حتى لايظن العالم أننا أصبحنا أمة غنائية، رقصية، تنطيطية، فنحن نفطر على أغنية راقصة، ونتغدى على أغنية راقصة، ونتعشى على أغنية راقصة، وبين الوجبات الثلاث تكون هناك في انتظارنا عشرات، بل مئات الأغاني الراقصة فيصبح لزاما على بيوتنا الدفع بأبنائها، وبناتها لساحات الرقص، والغناء.."
لو مكث أحدنا يوما أمام القنوات الفضائية المهتمة بهذا المجال وماأكثرها لأحصى مايقارب المائة وخمسون عنوانا لبرامج، وفقرات، ومنوعات لتقديم الأغاني. ولو أنه استعرض كل الأسماء التي تتحرك على الشاشات العربية، لانتابه الخوف من هذا الحرص الشديد على تقديم هذا الحشد الهائل من الأغاني على مدار الليل، والنهار، والظلام، والنور، والحرّ والقرور.. أما أنا المتضرر والمتذمر من هذا الضجيج والإزعاج والصراخ الذي يحيط بي من كل جانب، فمن حقي أن أعتبر هذه الولادات القياسية، إنما هي انتكاسة للوطن العربي الذي تزداد حالات الضياع فيه يوما عن يوم، بازدياد عدد المغنيين فيه والمغنيات، مع الإعتراف سلفا أن الغناء والرقص والتنطيط ليس هو السبب الوحيد لهذا الضياع..! ومراجعة نفسي مرات في اليوم الواحد، وأسأل: لماذا هؤولاء يفتحون آذانهم لسماع الأغاني، وكم عدد الأغاني التي يسمعونها، ومن هذا المتسبب في انتشار هذا الوباء الغنائي، الذي ينحدر بالذوق، ولا يسمو به، والذي يهبط بسلوك أفراد المجتمع، ولا يرفع من قيمته، والذي يقود الشباب إلى التصرفات الخاطئة، ولايصحح وجدانهم، ومشاعرهم وأحاسيسهم فيسلم المجتمع من هذه الأخطاء، وهذه الأخطار..؟ ومن حق المتحمس في العالم العربي أن يعتبر ميلاد مغنية، ومغن كل ست ثوان، بمثابة انجاز..
تعتمد الأغنية العربية المعاصرة على جيل هش ورخو من الشباب غير الواعي بما يراد لهم وبما يحاك ضدهم. وتكشف تلك الأعداد الضخمة من المراهقين والشباب الذين يرتادون تلك الحفلات، ويشاهدون تلك الأغنيات عن رغبات مكبوتة لا تعي معنى الفن الحقيقي ودوره الخلاق، بقدر ما تريد أن تطلق رغبات مكبوتة سواء من خلال الرقص، أو التمايل أو ترديد كلمات تلك الأغنيات الجوفاء الخالية من أى معنى أو مضمون، إذ الأغنية العربية الحالية تتكامل بتجلياتها الركيكة المتدهورة في سياقها العام مع غيرها من الظواهر الإستهلاكية الأخرى..
من المؤسف جدا أن الأغنية العربية المعاصرة خلقت واقعا منشطرا بين ظواهر نطالعها عبر شاشات الإعلام المختلفة، وبين واقع قيمي محافظ. ومابين انفلات الأول وتحفظ الثاني، يستمر الواقع العربي في إنتاج ودعم المزيد من تلك الأغاني الهابطة، وفرض المزيد من الضوابط القيمية الجامدة.
فتحي العابد
وعلى اعتبار أن الأغنية أصبحت تحتل مساحة متنامية من أوقاتنا، وتذوقنا ورفاهيتنا، وترويحنا وحياتنا بشكل عام، فلا بد أن تبقى خاضعة لمواصفات ومقاييس تحت مظلة ثقافية ملتزمة وواعية، رغم ماجاءت به من مساوئ هاته الموجة من الغناء الحديث المتلفز، التي تفتقر في الغالب إلى أبسط عناصر الفن الغنائي الحقيقي..
لقد سكت مارسيل خليفة وفيروز وأحمد فؤاد نجم وناس الغيوان وأصحاب الكلمة.. وعلت أصوات جديدة بين مزاودية وربوخ وجماعة ستار أكاديمي.. سكت أصحاب الهدف والقضية.. ورفع صوته من جعل من الأغنية أداة شهرة ومال. إن الجمهور لا يمكن أن ينسى تأثير أغاني مارسيل خليفة وجاذبيتها وهي تتحدث عن المناضلين، والإحتلال والقضية الفلسطينية بالأساس.
لقد كانت تلك الأغاني إلى منتصف الثمانينات تعد ثقافة متواصلة، وما شهدته تلك النوعية من الأغنية أي الملتزمة رغم تحفظ أغلب الفنانين في تلك الفترة على التسمية من انتعاشة كبرى، إلا أنها أصيبت بالركود فيما بعد، مما جعلها مرتبطة بظرفية معينة بالرغم من أنها تعدّ في جوهرها ثقافة دائمة بالنسبة لأصحابها كما سبق ذكره. فالأغنية الملتزمة هي من أرقى الفنون وهي الثقافة الوحيدة التي تعدّ سلسلة متواصلة، ولن تخمدها الظروف الخارجية لأنها راسخة في ذهن الفنان ووجدانه، كما يقول الفنان التونسي الهادي قلّة.
فالأغنية الملتزمة مختلفة وتؤكد على وجود ثورة فكرية كاملة إلا أن تراجعها في الفترة الأخيرة يعود إلى طغيان المادة الذي طمس هويتها ولأنها لا تساهم في الترفيه بقدر ما تخاطب المستمع وتطرح الأسئلة بعيدة عن كل ما هو فن استهلاكي. وإذا مااندثر هذا النوع الغنائي فإن القضايا أيضا تموت، وهذا من المستحيل لأن القضايا الإنسانية دائمة الوجود، كما يعبر عنها الفنان التونسي الزين الصافي. وحول هذا المعنى يقول الدكتور عماد الدين خليل: "والإلتزام في المفهوم الإسلامي: أن يمتلك الفنان أولا: تصورا شاملا متكاملا صحيحا للكون والحياة والإنسان، يوازيه انفتاح وجداني دائم وتوتر نفسي لا ينضب له معين إزاء الكون والحياة والإنسان، ومن بعد هذا يجيء الإلتزام عفويا متساوقا منسابا.. علاقته بالعطاء الفني لا تقوم مطلقا على القسر والتكلف والإكراه، ولا تعترف أبدا بالمدرسية أو الوعظية أو المباشرة..".
إن الغاية التي يهدف الفن الملتزم إلى تحقيقها هي إيصال الجمال إلى حس المشاهد أو المتلقي، وهي ارتقاء به نحو الأسمى والأعلى والأحسن، أي نحو الأجمل، فهي اتجاه نحو السمو في المشاعر والتطبيق والإنتاج ورفض للهبوط.
يقول الأستاذ محمد قطب: "والفنان شخص موهوب ذو حساسية خاصة تستطيع أن تلتقط الإيقاعات الخفية اللطيفة التي لا تدركها الأجهزة الأخرى في الناس العاديين، وذو قدرة تعبيرية خاصة تستطيع أن تحول هذه الإيقاعات التي يتلقاها حسه مكبرة مضخمة، إلى لون من الأداء الجميل يثير في النفس الإنفعال ويحرك فيها حاسة الجمال، إنه كجهاز الإستقبال اللاسلكي الدقيق، الذي تحس صماماته بالموجات الدقيقة الخفية فتلتقطها وتكبرها، ثم تحولها إلى صوت ونغم صاف وجميل يهزُّ الأسماع".
وإذا كانت هذه الموهبة هي السمة المميزة للفنان، فلا بد حتى تؤتي ثمارها أن تستند إلى أرض صالحة ثابتة، تأخذ طريقها سوية مستقيمة منتجة للظل الوارف والثمر الطيب، وهذه هي السمة الثانية.
إن الفنان قبل أن يكون موهوبا ينبغي أن يكون إنسانا سويا يأخذ التوازن أبعادا في كيانه له تصور كامل عن الكون والإنسان والحياة، يدري غايته وهدفه في هذه الدنيا، ولا يمكن أن يتحقق هذا التوازن في شخصية الفنان إلا بشعوره بعظم المسؤولية التي تغمر كيانه، وتملأ أقطار نفسه، وتنقله من حيّز الإنتماء العقلي أو الشعور الوجداني إلى سلوك يتحرك. إن إيمان الفنان الصادق بجدية ما يقوم به من غناء واعي، نابع من مبادئ، ورغبة منه في التعبير عن حضوره الفاعل في واقعه والتأثير في مجرى أحداثه، يجعله أكثر من غيره إحساسا بمسؤوليته تجاه جمهوره وقضايا وطنه وأمته. وهذا الوعي وإن كان مكلفا على المدى القريب، فإنه سفينة نوح على المدى البعيد.
وانطلاقا من قاعدة كون الفن يرتبط أساسا بالوجدان نقول ماقاله مالك بن نبي رحمه الله: "إن المعيار الأساسي في اعتبار العمل الإبداعي فنّا هو في قدرته على استثارة وجدان الآخرين، ومن ثَم فالفن يستقل بذاته في كونه فنّا، سواء ارتبط بالأخلاق أم لم يرتبط بها. وغاية ما نستطيعه حيال علاقته بالأخلاق هو أن نقبله أو نرفضه، دون أن يحق لنا أن نجرد هذا العمل من صفته الفنية بحسب موقفنا الأخلاقي أو الأيدلوجي منه". وبهذا يجب على المستمع أو المشاهد القادر والمستقل بذاته، أن يقيّم أي عمل غنائي يقع بين يديه، يؤيد كل أغنية مرتبطة بالأخلاق وينقد من غير تحامل وغلوّ مادون ذلك، والرافض للتدرج لابد أن يؤسس لعقلية شيء خير من لاشيء، بدل عقلية كل شيء أو لاشيء، لأن الغناء ضروري للوجود الإنساني سواء في طلبه المتعة والإسترخاء أو في سعيه لحشد الهمم والتعبئة للتغيير. لكن الأغنية لا تكون أغنية ولن تكون إلا إذا طابق نص الأغنية نبض الشارع المولودة منه. وهذا هو الرهان الذي ينبغي على مبدعي الأغنية العربية الدفاع عليه.
تمثل الأغنية العربية اليوم ظاهرة جديدة من حيث طبيعتها المغتربة عن الواقع العربي وثقافته الفنية المتعارف عليها. فهى ظاهرة اغتراب بامتياز لا تمت بصلة للواقع العربي، كما لا تعبر عن جوهر ثقافته الحقيقية، وإن كانت تؤشر على مدى التفكك والسقوط المرتبط بالأمة العربية المعاصرة. ورغم مدى التدهور والسقوط الذي وصلت إليه هذه الموجة من الأغاني العصرية، فإن الأمر لا يعدم وجود بعض المطربين والمطربات الجادين، الذين تبقى أصواتهم عالية ورافضة لا تعبر عن السياق العام المتدهور والركيك، ناهيك عن الأوصاف الأخرى التي يعف القلم عن سردها.
من المعروف أن الغناء أو الطرب أيا كانت التسمية يعبّر عن حالة إبداعية وموهبة فريدة، فلا يمكن لأي مغني أو أية مغنية أن يعتلي خشبة المسرح ويقف أمام الجمهور وهو خالي من الموهبة. فالغناء لا تنفع فيه وساطة أو معرفة أو حتى تلك الشركات الإنتاجية الضخمة التي تتبنى هذا أو ذاك، لكن ما يحدث الآن هو تجاوز لكل الأعراف الفنية المتعارف عليها، فالكل يغني والكل يعتلي خشبة المسرح، والكل يقف أمام الجمهور، لايهم الصوت ولا تهم الإمكانيات الفنية والمهارية والإبداعية، فالشعار الحالي للأغنية العربية المعاصرة: دعه يقف، دعه يتمايل، دعه يغني، أو دعها تقف، دعها ترقص، دعها تغني.. فهو غناء بالقوة وليس بالفعل. وفرق كبير بين أن يكون هناك غناء بالفعل، أمثال أم كلثوم، ومارفقها من ذلك الجيل، تلك كانت ظواهر فنية طربية ممتعة حقا، وبين أن يكون هناك غناء بالقوة وبالوجود وبالقهر. ما يحدث الآن هو غناء بقوة العضلات وبإثارة الغرائز، وبضغط الشركات الإنتاجية على الجماهير المتلقية الخاضعة المغسولة عقولها والموؤودة مشاعرها وتوجهاتها.
ما يحدث الآن هو تناول مادي بحت للأغنية العربية من حيث نجاح المغني الفلاني، أو المغنية الفلانية في تحقيق مكاسب كبيرة مقارنة بالغير، بغض النظر عما إذا كان المغني ينتمي حقيقة لعالم الفن أم لا، وبغض النظر عما إذا كان هذا المغني يفهم في الفن من عدمه.
يرسخ القائمون على إنتاج الأغنية العربية المتلفزة، على أن ما يرفضه الجمهور اليوم سوف يقبله صاغرا في الغد القريب. ومن المؤسف أن ذلك هو الذي يحدث فعلا، وثبت معه أن هؤولاء يفهمون الواقع العربي ومتطلبات السوق بدرجة كبيرة من الوعى.
ولأن الأغنية العربية المعاصرة ظاهرة اقتصادية بالأساس، تعبر عن هشاشة هذا الواقع، وفقر إبداعه، فإنه لا بد من تدعيمها على مستوى التحليل والتفسير. ففيروز وفنها الجيد المعبر لم يحتاج يوما ما لوسطاء أو برامج تلفزية خاصة لترويجه والحديث عنه، رغم أهمية ذلك. فهو يدخل القلوب ويمس المشاعر ويثير العواطف النبيلة. أم الفن الهابط الركيك الذي نراه ليلا نهارا، فإنه يحتاج للكثير والكثير من الحديث والترويج عن نفسه، رغم أن المستمع أو المشاهد لا يجد شيئا من كل التحليلات في الأغنية موضوع التحليل، الأمر الذي يجعله يعتقد خطأً بقصوره الفني وعدم فهمه للمنتج المعروض أمامه. وفي هذا المجال أبدع الفنان الكوميدي أحمد آدم في كلمة قالها في لقاء تليفزيوني أستدعي إليه عندما سأل عن بعض الفانانين الجدد: "إن العالم العربي بكل فخر يشهد ميلاد مغن ومغنية كل 6 ثوان، ولو كنا في مجال الإنتاج العام بهذا المستوى الرفيع الذي نحن عليه في مجال الغناء، والرقص، والتنطيط، لسبقنا اليابان، وتفوقنا عليها، ليتنا نحتفل في البرامج القادمة بمخترعين، ومبتكرين، وموهوبين، بنفس حجم احتفالنا بهؤلاء المغنين والمغنيات، حتى لايظن العالم أننا أصبحنا أمة غنائية، رقصية، تنطيطية، فنحن نفطر على أغنية راقصة، ونتغدى على أغنية راقصة، ونتعشى على أغنية راقصة، وبين الوجبات الثلاث تكون هناك في انتظارنا عشرات، بل مئات الأغاني الراقصة فيصبح لزاما على بيوتنا الدفع بأبنائها، وبناتها لساحات الرقص، والغناء.."
لو مكث أحدنا يوما أمام القنوات الفضائية المهتمة بهذا المجال وماأكثرها لأحصى مايقارب المائة وخمسون عنوانا لبرامج، وفقرات، ومنوعات لتقديم الأغاني. ولو أنه استعرض كل الأسماء التي تتحرك على الشاشات العربية، لانتابه الخوف من هذا الحرص الشديد على تقديم هذا الحشد الهائل من الأغاني على مدار الليل، والنهار، والظلام، والنور، والحرّ والقرور.. أما أنا المتضرر والمتذمر من هذا الضجيج والإزعاج والصراخ الذي يحيط بي من كل جانب، فمن حقي أن أعتبر هذه الولادات القياسية، إنما هي انتكاسة للوطن العربي الذي تزداد حالات الضياع فيه يوما عن يوم، بازدياد عدد المغنيين فيه والمغنيات، مع الإعتراف سلفا أن الغناء والرقص والتنطيط ليس هو السبب الوحيد لهذا الضياع..! ومراجعة نفسي مرات في اليوم الواحد، وأسأل: لماذا هؤولاء يفتحون آذانهم لسماع الأغاني، وكم عدد الأغاني التي يسمعونها، ومن هذا المتسبب في انتشار هذا الوباء الغنائي، الذي ينحدر بالذوق، ولا يسمو به، والذي يهبط بسلوك أفراد المجتمع، ولا يرفع من قيمته، والذي يقود الشباب إلى التصرفات الخاطئة، ولايصحح وجدانهم، ومشاعرهم وأحاسيسهم فيسلم المجتمع من هذه الأخطاء، وهذه الأخطار..؟ ومن حق المتحمس في العالم العربي أن يعتبر ميلاد مغنية، ومغن كل ست ثوان، بمثابة انجاز..
تعتمد الأغنية العربية المعاصرة على جيل هش ورخو من الشباب غير الواعي بما يراد لهم وبما يحاك ضدهم. وتكشف تلك الأعداد الضخمة من المراهقين والشباب الذين يرتادون تلك الحفلات، ويشاهدون تلك الأغنيات عن رغبات مكبوتة لا تعي معنى الفن الحقيقي ودوره الخلاق، بقدر ما تريد أن تطلق رغبات مكبوتة سواء من خلال الرقص، أو التمايل أو ترديد كلمات تلك الأغنيات الجوفاء الخالية من أى معنى أو مضمون، إذ الأغنية العربية الحالية تتكامل بتجلياتها الركيكة المتدهورة في سياقها العام مع غيرها من الظواهر الإستهلاكية الأخرى..
من المؤسف جدا أن الأغنية العربية المعاصرة خلقت واقعا منشطرا بين ظواهر نطالعها عبر شاشات الإعلام المختلفة، وبين واقع قيمي محافظ. ومابين انفلات الأول وتحفظ الثاني، يستمر الواقع العربي في إنتاج ودعم المزيد من تلك الأغاني الهابطة، وفرض المزيد من الضوابط القيمية الجامدة.
فتحي العابد