كان الاستاذ الشاعر نمر سعدي الذي يطلق على نفسه اسم وضاح سعدي، قد اهداني باكورة اعماله الشعرية المتمثلة بمجموعتين شعريتين اطلق على الاولى عنوان "أوتوبيا انثى الملاك" وعلى الثانية اسم "عذابات وضّاح آخر"، وقد تمنى عليّ ان اكتب تعقيبا او تعليقا على انجازاته الشعرية هذه؛ ونزولا عند رغبته تلك، فقد ارتأيت ان اتناول هاتين المجموعتين بالنقد والتحليل لما في ذلك من خدمة ادبية نحو الشعراء الواعدين الذين يسيرون في درب الابداع الادبي علهم يصلون الى مبتغاهم الاسمى بخطى ثابتة وروح واثقة.
ان اول ما يسترعي الانتباه في مجموعة "اوتوبيا انثى الملاك" هو العنوان الفريد من نوعه الذي اعطاه شاعرنا لهذه المجموعة، فالاوتوبيا هي الطوباوية والتي تعرّف بانها اتجاه مثالي، بمعنى خيالي، حيث يشتق من utopia الاغريقية بمعنى المكان المتخيّل الذي لا وجود له على أي ارض، فاليوتوبيا بمعنى الافضل، من eutopia أي الارض الطيبة، او الاصل الطيب، وفي القاموس المحيط "الطوبى" شجرة في الجنة او الجنة نفسها، ومن ثم فطوبى لك بمعنى الخير والسعادة لك. والطوبى على ذلك بالمعنيين معا هي الخيالي والافضل. وكان اول من استعمل هذا التعبير توماس مور 1478 – 1533 في كتابه "اليوطوبيا"، أي المدينة الطوباوية. وكان فيلسوفا انجليزيا انساني النزعة وهو يصور مدينة خيالية ذات نظم مثالية تضمن لافرادها اسباب الخير والسعادة. واصبح هذا اللفظ بعد ذلك يطلق على كل كتاب يصور النظام المثالي للمجتمع الانساني. ومن هنا فان الاستاذ نمر سعدي يبحث عن مكان طوباوي يمتاز بالخير والسعادة يلتقي فيه مع محبوبة في نظام مثالي ملائكي ينشد فيه الافضل مع ان ذلك يتواجد فقط في دنيا الاحلام والخيال كما يوحي اللفظ.
ويدرك شاعرنا من خلال كلمات قصائده انه يحلم بعالم لا يمكن الوصول اليه في هذه الحياة وان كان ينسج في خياله التأملات المنعمة بالامل المشوب بحزن ظاهر يعبر عن خيبة امله في تحقيق احلامه مع امرأة يعشقها تتمثل فيها السعادة والخير والهناء كأنها انثى ملاك مع استحالة وجود مثل هذه المرأة، فالملائكة لا جنس لها، لكن شاعرنا يمني نفسه بايجاد الانثى المثالية ذات الطابع الملائكي الشفاف الجميل والبديع بجسدها ونفسها وروحها:
كان ينظر لي عبر بلور
دمع شفيف يحدّثني عن ضمير المدن
كان يحلم بامرأة لا تمشط احزانه في الصباحات
الا بما يترقرق في روحها
من حنين الى شفق
ازرق في فضاء الزمن
هي من صيرت قلبه سادنا
للجمال الذي ظلّ
يبكي بدمع سيوف العرب
هي من صيّرت روحه قبلة
لاهلة نيسان باحثة
عن رياح المصب
آه، انثى ملاك
تنام على نوم سجني هنا
في تراب السماء
يصلي لها الماء
يرفع من ساعدي
حفنة من شذى نبوي
غدي حفنة من
ضياء المقيمين في ليل
اعضائها
وغدي حفنة من عذاب
سيبذرها في دمي حبها
(ص5-6)
وهنا يمثّل "الحنين الى شفق ازرق في فضاء الزمن" توق الشاعر للوصول الى الضياء العاطفي والفوقية الفكرية حيث يرمز اللون الازرق الى الحقيقة بايجابيتها ونورانيتها في عالم الانسان.
ويعود شاعرنا الى ذكر "الشفق الازرق" وكأن شوقه او تلهفه الى الاستنارة العاطفية والفكرية يؤرق كيانه ويستحوذ على مخيلته:
ربما ربما في اوتوبيا
بلا كلمات
التقيها اذا فرقتنا الحياة
فيغمرني ضوء نجمتها
ربما ربما التقيها انا
في اوتوبيا الممات
نرتدي شفقا ازرق
ونطير باجنحة من
دموع الحرير لانثى الملاك
(ص 9)
وربما يكون تركيز الشاعر على اللون الازرق نابعا من كون اللون الازرق هو رمز هدوء واطمئنان النفس على صعيد التفسير النفسي لا سيما وانه يقرن "اوتوبيا الممات" باعتبارها رمزا للجنة في العالم الآخر مع "الشفق الازرق" رمز الامل في الوصول الى مبتغاه في تحقيق السكينة والسعادة مع محبوبته في عالم طوباوي آخر يختلف تمام الاختلاف عن عالمنا هذا.
من اللافت في قصائد مجموعة "اوتوبيا انثى الملاك" ان شاعرنا يتطرق بشكل بالغ الى ذكر اسماء ادباء وشعراء وفلاسفة عالميين في الادب القديم والحديث امثال البير كامو وسفوكليس وبودلير وهومير وافلاطون ورمبو وكيتس وفيرجينيا وولف وناظم حكمت ومظفر النواب وغيرهم. علاوة على تسخيره للميثولوجيا العالمية والدينية لخدمة اغراضه الادبية والشعرية في طرح افكاره كذكره عشتار ويهوذا ونرسيس وايزيس وغيرهم. ومن المؤكد ان شاعرنا اراد من الاتيان باسماء هؤلاء الادباء والشعراء والفلاسفة وابطال الميثولوجيا، الايحاء بانهم جميعا كانوا من دعاة مجتمع طوباوي يتمتع بالسعادة والخير والفضيلة والحب.
الا ان الواقع المرير لم يتح لهم تحقيق احلامهم وخيالاتهم المثالية في الحب والطمأنينة وسلام النفس بنفس الكيفية التي يشعر بها شاعرنا من الاحباط والحزن والمعاناة وخيبة الامل. لكنه مع ذلك ما زال مستمرا في البحث عن مدينته الفاضلة السعيدة التي يتوق فيها الى امرأة معشوقة تشاركه السعادة، كما فعل غيره من المبدعين على مدار سنوات حياتهم:
وجه من الابنوس
ضوء نافذ في جلد هذا الليل
عطر موصل للحب والماضي
يوزع ما تناثر من شفاه الاقحوان
على شفير الارض...
نهر طافح بدموعنا الاولى
تعلقه الغيوم عليك...
يسبح في فضائك وجه افلاطون
تكتبني رؤاك قصيدة رعوية
مائية الالفاظ مرجانية
وجه من الابنوس في جلد الظلام
يشع عطرا موصلا للحب والماضي..
امتشقتك من بروقي
والبروق طفولة اخرى
كتاب الروح والابنوس
اوتوبيا السراب.
(ص 58)
وفي هذه القصيدة تتبدّى رمزية الاستحالة في تحقيق الاحلام والخيالات التي تعتمل في ذهن الشاعر. و "البروق" هنا هي اشارة الى قوى لا يمكن السيطرة عليها او التحكم فيها تؤثر في العواطف.
كما ان البرق يتضمن معنى التبصر في كيفية جعل الحياة تسير بانتظام
وهذا ايحاء طوباوي لما يدور في خلد الشاعر من تمحور حول الامل البعيد المستحيل الذي ينشده. ومن الملاحظ ان شاعرنا يقرن هنا الابنوس بالبرق، ولعل في هذا تلميحًا الى لون خشب الابنوس الاسود الذي يرمز الى المجهول والغموض والرهبة في مقابل البرق الوهاج الذي يشع نارا ونورا يستضاء به ويتم الاحتراق من خلاله. وقول الشاعر ان "البروق طفولة اخرى" هو اشارة الى الحب الذي يلمع ثم يخبو، وبالتالي فانه يرمز الى الافتراق والانفصال كما يفترق الحبيب عن محبوبته بعد عهد الطفولة بكل ما فيه من براءة ومحبة وفضيلة.
ويأتي شاعرنا على ذكر الشاعر الفرنسي الكبير شارل بودلير في مقطع من قصيدة "تقاسيم على ماء جريح" (ص 61)؛ ومن حيث ان بودلير هو شاعر اللذة والالم وقصائده غنية بالصور، والخيال البكر، والعاطفة المتأججة الجامحة، فان الاستاذ نمر سعدي يستخدم في هذا المقطع من القصيدة المذكورة عبارة "زهور الضباب" كاشارة الى مجموعة بودلير الشهيرة "ازهار الشر" حيث يريد شاعرنا هنا ان يلمح الى انه لا يرفض الحب العاطفي الجسدي المتأجج، بل انه ينشد في محبوبته المرأة تلك الشعلة البدنية التي يعشقها الحبيب كما يعشق الانسان نفسه بنرجسيته (نارسيسيته) الكامنة:
أحتويك انا من زهور الضباب
وبودلير ينظر من فرجة
القمر المعدني
شع ملحك في كل جسمي
وغاب
في بحيرة نرسيس وجهك
مليون عام وعام
يقبل نرسيس في نحرك القمر البابلي
(ص 63-64)
وحينما يقول الشاعر "شع ملحك في كل جسمي"، فان الملح هنا يشير ويرمز الى ان الشاعر عليه ان يلوم نفسه على شيء في الحياة الواقعية لم يقم بارتكاب خطأ فيه. وهذا يؤكد ان الشاعر العاشق لا يستطيع مقاومة حبه الجسدي تجاه المرأة التي يعشقها لان هذه هي طبيعة الانسان الذي يعشق نفسه من خلال عشقه للمرأة كنرسيس الذي اعجب بذاته وعشق نفسه وهو ينظر في البحيرة التي ترمز هنا الى المرأة التي يرى فيها الشاعر نفسه متيما بهواها وذائبا في عشقها. اما "القمر المعدني" او "القمر البابلي"، فانه يمثل الانثوية البدائية واللاوعي، وبالتالي يرمز الى تجدّد الطاقة التي تغمر نفس الانسان في كل زمان ومكان وفي العالم الطوباوي الذي يرجوه الشاعر له ولمحبوبته المثالية ايضا.
ويستمر الاستاذ نمر سعدي بنغمة الحزن والابتئاس والمعاناة والاحباط في مجموعته الشعرية الثانية "عذابات وضّاح آخر"، ويبلغ الذروة بنغمته هذه في المقطوعة التالية:
وانت يا وضاح
قطرة ماء انت في البحر
وفي الفضاء
ذرة رمل لم تزل تبعث في
السديم عن اضواء
عن جرعة من عطش الامطار
تهطل من اهداب
شمس عمرك الصفراء
لتزرع العالم – هذا العالم
المدفون تحت الزمن المنسي
في رماده الحارق
بالاشجار
( ص19)
ويكثر شاعرنا في هذه المجموعة من استخدام الالوان كالاصفر والاحمر والاسود بكل ما في هذه الالوان من رمزية نفسية تعكس ما في داخل الشاعر من اختلاجات واحاسيس ومشاعر كامنة. فهو ينعت شمس العمر بالصفراء، واللعنة بالحمراء، والثلوج بالسوداء:
خمرية شواطئ الاحلام
والقصور
يا ضارب في لعنته الحمراء
كالاعصار
يا الطالع من شفاه جرح
امرأة النوار
من برقها المبتل بالاشجار...
خمرية شواطئ القلب
التي تبحث في ثلوجها السوداء
عن منار
(ص25)
كما انه يقرن وجه المرأة بالقمر الاسود:
وجهها والقمر الاسود عن
بعد يضيئان الطريق
بفتات الصدف الازرق
في جسمي العميق
بنبات غجري لامع تحت ندى
الصبح كتموز الغريق
طالعا كنت من الفكرة من
جوف المساء الحجري
عاريا الا من الشوق الى
كواكب الماء على شواطئ الغرب
ومن عينيّ نبيّ
(ص 42)
ومن هذه المقتطفات الشعرية، يتضح ان شاعرنا تغلب على عباراته اجواء واوصاف الحزن والغموض. فاللون الاسود هو رمز الاسى والحزن وفيه ايماءات الى ضرورة تغيير اسلوب الحياة لا سيما وان القمر يمتاز بتقلب الاحوال فلكيا. كما ان الثلج الذي يعطيه شاعرنا لونا اسود هنا، يتضمن رمزية للبرود العاطفي والخوف من الوحدة بغياب المحبين؛ وفي هذه الحالة غياب المحبوبة عن الحبيب الذي يرتجيها لتؤنس سواد وحدته، ولكن الثلج يوحي بأن الحبيب قد ادرك ان حبه لتلك المرأة التي اعتقد انه احبها، قد خفت واعتراه البرود. فالسواد جاء هنا لتأكيد الوحدة والعزلة والانفراد، وبالتالي مواجهة تغييرات وصعوبات في حياة الشخص.
ومع كل هذا، فان الشاعر يخاطب المرأة التي يهفو اليها قائلا:
روحك في جسمي..
تضيء النفق الاسود..
بالنوارس البيضاء..
(ص 55)
وهنا يكمن مبعث الامل الذي ينشده الشاعر في محبوبته، تلك المرأة التي ستخرجه من عالم الوحدة والخيبة بروحها البيضاء النقية الصافية التي ترمز اليه النوارس البيضاء التي ترمز ايضا الى الحظ الجيد والى آفاق الروح الحرة ذات المعنى العاطفي التحريري للنفس المثقلة بالاحمال، والتي تصبو الى الانطلاق والتحرر من قيودها واغلالها.
وكلمة اخيرة حول المجموعة الشعرية الثانية للاستاذ نمر سعدي، واطلاقه عليها عنوان "عذابات وضّاح آخر" حيث ربما يكون شاعرنا قد قصد ايراد اسم "وضاح" تيمنا بالشاعر "وضاح اليمن" (708 ميلادية) والذي عرف بجماله الآسر، وكان يتقنع لشدة جماله. ومن الجائز ان سبب اكثار شاعرنا من ذكر اللون الاسود في اوصافه يعود الى هدف تلميحي ارادة شاعرنا عمدا وهو استرجاع صورة وضاح اليمن كعاشق شديد الوسامة يخفي جماله بقناع اسود، وهو الذي يرجح انه كان محظوظا في الحب بعكس وضاح الآخر الذي يصوره شاعرنا والذي يعاني الحزن والكآبة ويأمل ان يجد ضالته المنشودة في حبيبة تبادله الاحاسيس والعواطف الجياشة وتعيد له نشوة الروح ولذة الحب. ولنا في حب وضاح اليمن لأثيلة، قرينة نستخلصها من الابيات التالية التي قالها وضاح اليمن في حبيبته أُثيلة:
صبا قلبي ومال إليك ميلا
وأرقني خيالك يا أُثيلا
يمانية تلم بنا فتبدي
دقيق محاسن وتكنّ غيلا
ذريني ما أممت بنات نعش
من الطيف الذي ينتاب ليلا
ولكن ان اردت فهيّجينا
اذا رمقت باعينها سهيلا
وختاما، يتضح لنا، ان الاستاذ نمر سعدي يتمتع بشاعرية واعدة، ويستحق كل ثناء واطراء وتشجيع على هاتين المجموعتين، راجين له مزيدا من الابداع والتقدم في عالم الشعر، مع اصدق التحيات واطيب التمنيات له بالتوفيق والصحة والازدهار.
(كفر ياسيف) الداخل الفلسطيني
كان يحلم بامرأة لا تمشط احزانه في الصباحات
الا بما يترقرق في روحها
من حنين الى شفق
ازرق في فضاء الزمن
هي من صيرت قلبه سادنا
للجمال الذي ظلّ
يبكي بدمع سيوف العرب
هي من صيّرت روحه قبلة
لاهلة نيسان باحثة
عن رياح المصب
آه، انثى ملاك
تنام على نوم سجني هنا
في تراب السماء
يصلي لها الماء
يرفع من ساعدي
حفنة من شذى نبوي
غدي حفنة من
ضياء المقيمين في ليل
اعضائها
وغدي حفنة من عذاب
سيبذرها في دمي حبها
(ص5-6)
وهنا يمثّل "الحنين الى شفق ازرق في فضاء الزمن" توق الشاعر للوصول الى الضياء العاطفي والفوقية الفكرية حيث يرمز اللون الازرق الى الحقيقة بايجابيتها ونورانيتها في عالم الانسان.
ويعود شاعرنا الى ذكر "الشفق الازرق" وكأن شوقه او تلهفه الى الاستنارة العاطفية والفكرية يؤرق كيانه ويستحوذ على مخيلته:
ربما ربما في اوتوبيا
بلا كلمات
التقيها اذا فرقتنا الحياة
فيغمرني ضوء نجمتها
ربما ربما التقيها انا
في اوتوبيا الممات
نرتدي شفقا ازرق
ونطير باجنحة من
دموع الحرير لانثى الملاك
(ص 9)
وربما يكون تركيز الشاعر على اللون الازرق نابعا من كون اللون الازرق هو رمز هدوء واطمئنان النفس على صعيد التفسير النفسي لا سيما وانه يقرن "اوتوبيا الممات" باعتبارها رمزا للجنة في العالم الآخر مع "الشفق الازرق" رمز الامل في الوصول الى مبتغاه في تحقيق السكينة والسعادة مع محبوبته في عالم طوباوي آخر يختلف تمام الاختلاف عن عالمنا هذا.
من اللافت في قصائد مجموعة "اوتوبيا انثى الملاك" ان شاعرنا يتطرق بشكل بالغ الى ذكر اسماء ادباء وشعراء وفلاسفة عالميين في الادب القديم والحديث امثال البير كامو وسفوكليس وبودلير وهومير وافلاطون ورمبو وكيتس وفيرجينيا وولف وناظم حكمت ومظفر النواب وغيرهم. علاوة على تسخيره للميثولوجيا العالمية والدينية لخدمة اغراضه الادبية والشعرية في طرح افكاره كذكره عشتار ويهوذا ونرسيس وايزيس وغيرهم. ومن المؤكد ان شاعرنا اراد من الاتيان باسماء هؤلاء الادباء والشعراء والفلاسفة وابطال الميثولوجيا، الايحاء بانهم جميعا كانوا من دعاة مجتمع طوباوي يتمتع بالسعادة والخير والفضيلة والحب.
الا ان الواقع المرير لم يتح لهم تحقيق احلامهم وخيالاتهم المثالية في الحب والطمأنينة وسلام النفس بنفس الكيفية التي يشعر بها شاعرنا من الاحباط والحزن والمعاناة وخيبة الامل. لكنه مع ذلك ما زال مستمرا في البحث عن مدينته الفاضلة السعيدة التي يتوق فيها الى امرأة معشوقة تشاركه السعادة، كما فعل غيره من المبدعين على مدار سنوات حياتهم:
وجه من الابنوس
ضوء نافذ في جلد هذا الليل
عطر موصل للحب والماضي
يوزع ما تناثر من شفاه الاقحوان
على شفير الارض...
نهر طافح بدموعنا الاولى
تعلقه الغيوم عليك...
يسبح في فضائك وجه افلاطون
تكتبني رؤاك قصيدة رعوية
مائية الالفاظ مرجانية
وجه من الابنوس في جلد الظلام
يشع عطرا موصلا للحب والماضي..
امتشقتك من بروقي
والبروق طفولة اخرى
كتاب الروح والابنوس
اوتوبيا السراب.
(ص 58)
وفي هذه القصيدة تتبدّى رمزية الاستحالة في تحقيق الاحلام والخيالات التي تعتمل في ذهن الشاعر. و "البروق" هنا هي اشارة الى قوى لا يمكن السيطرة عليها او التحكم فيها تؤثر في العواطف.
كما ان البرق يتضمن معنى التبصر في كيفية جعل الحياة تسير بانتظام
وهذا ايحاء طوباوي لما يدور في خلد الشاعر من تمحور حول الامل البعيد المستحيل الذي ينشده. ومن الملاحظ ان شاعرنا يقرن هنا الابنوس بالبرق، ولعل في هذا تلميحًا الى لون خشب الابنوس الاسود الذي يرمز الى المجهول والغموض والرهبة في مقابل البرق الوهاج الذي يشع نارا ونورا يستضاء به ويتم الاحتراق من خلاله. وقول الشاعر ان "البروق طفولة اخرى" هو اشارة الى الحب الذي يلمع ثم يخبو، وبالتالي فانه يرمز الى الافتراق والانفصال كما يفترق الحبيب عن محبوبته بعد عهد الطفولة بكل ما فيه من براءة ومحبة وفضيلة.
ويأتي شاعرنا على ذكر الشاعر الفرنسي الكبير شارل بودلير في مقطع من قصيدة "تقاسيم على ماء جريح" (ص 61)؛ ومن حيث ان بودلير هو شاعر اللذة والالم وقصائده غنية بالصور، والخيال البكر، والعاطفة المتأججة الجامحة، فان الاستاذ نمر سعدي يستخدم في هذا المقطع من القصيدة المذكورة عبارة "زهور الضباب" كاشارة الى مجموعة بودلير الشهيرة "ازهار الشر" حيث يريد شاعرنا هنا ان يلمح الى انه لا يرفض الحب العاطفي الجسدي المتأجج، بل انه ينشد في محبوبته المرأة تلك الشعلة البدنية التي يعشقها الحبيب كما يعشق الانسان نفسه بنرجسيته (نارسيسيته) الكامنة:
أحتويك انا من زهور الضباب
وبودلير ينظر من فرجة
القمر المعدني
شع ملحك في كل جسمي
وغاب
في بحيرة نرسيس وجهك
مليون عام وعام
يقبل نرسيس في نحرك القمر البابلي
(ص 63-64)
وحينما يقول الشاعر "شع ملحك في كل جسمي"، فان الملح هنا يشير ويرمز الى ان الشاعر عليه ان يلوم نفسه على شيء في الحياة الواقعية لم يقم بارتكاب خطأ فيه. وهذا يؤكد ان الشاعر العاشق لا يستطيع مقاومة حبه الجسدي تجاه المرأة التي يعشقها لان هذه هي طبيعة الانسان الذي يعشق نفسه من خلال عشقه للمرأة كنرسيس الذي اعجب بذاته وعشق نفسه وهو ينظر في البحيرة التي ترمز هنا الى المرأة التي يرى فيها الشاعر نفسه متيما بهواها وذائبا في عشقها. اما "القمر المعدني" او "القمر البابلي"، فانه يمثل الانثوية البدائية واللاوعي، وبالتالي يرمز الى تجدّد الطاقة التي تغمر نفس الانسان في كل زمان ومكان وفي العالم الطوباوي الذي يرجوه الشاعر له ولمحبوبته المثالية ايضا.
ويستمر الاستاذ نمر سعدي بنغمة الحزن والابتئاس والمعاناة والاحباط في مجموعته الشعرية الثانية "عذابات وضّاح آخر"، ويبلغ الذروة بنغمته هذه في المقطوعة التالية:
وانت يا وضاح
قطرة ماء انت في البحر
وفي الفضاء
ذرة رمل لم تزل تبعث في
السديم عن اضواء
عن جرعة من عطش الامطار
تهطل من اهداب
شمس عمرك الصفراء
لتزرع العالم – هذا العالم
المدفون تحت الزمن المنسي
في رماده الحارق
بالاشجار
( ص19)
ويكثر شاعرنا في هذه المجموعة من استخدام الالوان كالاصفر والاحمر والاسود بكل ما في هذه الالوان من رمزية نفسية تعكس ما في داخل الشاعر من اختلاجات واحاسيس ومشاعر كامنة. فهو ينعت شمس العمر بالصفراء، واللعنة بالحمراء، والثلوج بالسوداء:
خمرية شواطئ الاحلام
والقصور
يا ضارب في لعنته الحمراء
كالاعصار
يا الطالع من شفاه جرح
امرأة النوار
من برقها المبتل بالاشجار...
خمرية شواطئ القلب
التي تبحث في ثلوجها السوداء
عن منار
(ص25)
كما انه يقرن وجه المرأة بالقمر الاسود:
وجهها والقمر الاسود عن
بعد يضيئان الطريق
بفتات الصدف الازرق
في جسمي العميق
بنبات غجري لامع تحت ندى
الصبح كتموز الغريق
طالعا كنت من الفكرة من
جوف المساء الحجري
عاريا الا من الشوق الى
كواكب الماء على شواطئ الغرب
ومن عينيّ نبيّ
(ص 42)
ومن هذه المقتطفات الشعرية، يتضح ان شاعرنا تغلب على عباراته اجواء واوصاف الحزن والغموض. فاللون الاسود هو رمز الاسى والحزن وفيه ايماءات الى ضرورة تغيير اسلوب الحياة لا سيما وان القمر يمتاز بتقلب الاحوال فلكيا. كما ان الثلج الذي يعطيه شاعرنا لونا اسود هنا، يتضمن رمزية للبرود العاطفي والخوف من الوحدة بغياب المحبين؛ وفي هذه الحالة غياب المحبوبة عن الحبيب الذي يرتجيها لتؤنس سواد وحدته، ولكن الثلج يوحي بأن الحبيب قد ادرك ان حبه لتلك المرأة التي اعتقد انه احبها، قد خفت واعتراه البرود. فالسواد جاء هنا لتأكيد الوحدة والعزلة والانفراد، وبالتالي مواجهة تغييرات وصعوبات في حياة الشخص.
ومع كل هذا، فان الشاعر يخاطب المرأة التي يهفو اليها قائلا:
روحك في جسمي..
تضيء النفق الاسود..
بالنوارس البيضاء..
(ص 55)
وهنا يكمن مبعث الامل الذي ينشده الشاعر في محبوبته، تلك المرأة التي ستخرجه من عالم الوحدة والخيبة بروحها البيضاء النقية الصافية التي ترمز اليه النوارس البيضاء التي ترمز ايضا الى الحظ الجيد والى آفاق الروح الحرة ذات المعنى العاطفي التحريري للنفس المثقلة بالاحمال، والتي تصبو الى الانطلاق والتحرر من قيودها واغلالها.
وكلمة اخيرة حول المجموعة الشعرية الثانية للاستاذ نمر سعدي، واطلاقه عليها عنوان "عذابات وضّاح آخر" حيث ربما يكون شاعرنا قد قصد ايراد اسم "وضاح" تيمنا بالشاعر "وضاح اليمن" (708 ميلادية) والذي عرف بجماله الآسر، وكان يتقنع لشدة جماله. ومن الجائز ان سبب اكثار شاعرنا من ذكر اللون الاسود في اوصافه يعود الى هدف تلميحي ارادة شاعرنا عمدا وهو استرجاع صورة وضاح اليمن كعاشق شديد الوسامة يخفي جماله بقناع اسود، وهو الذي يرجح انه كان محظوظا في الحب بعكس وضاح الآخر الذي يصوره شاعرنا والذي يعاني الحزن والكآبة ويأمل ان يجد ضالته المنشودة في حبيبة تبادله الاحاسيس والعواطف الجياشة وتعيد له نشوة الروح ولذة الحب. ولنا في حب وضاح اليمن لأثيلة، قرينة نستخلصها من الابيات التالية التي قالها وضاح اليمن في حبيبته أُثيلة:
صبا قلبي ومال إليك ميلا
وأرقني خيالك يا أُثيلا
يمانية تلم بنا فتبدي
دقيق محاسن وتكنّ غيلا
ذريني ما أممت بنات نعش
من الطيف الذي ينتاب ليلا
ولكن ان اردت فهيّجينا
اذا رمقت باعينها سهيلا
وختاما، يتضح لنا، ان الاستاذ نمر سعدي يتمتع بشاعرية واعدة، ويستحق كل ثناء واطراء وتشجيع على هاتين المجموعتين، راجين له مزيدا من الابداع والتقدم في عالم الشعر، مع اصدق التحيات واطيب التمنيات له بالتوفيق والصحة والازدهار.
(كفر ياسيف) الداخل الفلسطيني
شاعر وناقد فلسطيني حائز على عدة جوائز عالمية في الشعر