ما إن يخرج فيلم ما إلى الوجود، حتى يقيض له أن يحلق متنقلا مثل طائر جوال بين قارئ و ناقد و محلل.. لذلك نعتبر أن هذه المقاربة التي نقترح القيام بها لشريط "أندرومان.. من دم و فحم"، هي واحدة من بين مقاربات عديدة ممكنة، مفتوحة على اللانهاية، قصد مساءلة جوانب تستحث الوعي و تطرح عليه أسئلة ما، علما أن كل من يقرأ عملا إبداعيا يقوم بذلك من زاويته الخاصة، و انطلاقا من مرجعيات محددة...
نقترح مقاربة فيلم "أندرومان من دم و فحم" (2012) للمخرج المغربي عز العرب العلوي، ضمن أربعة مستويات للقراءة: مستوى التواصل المحجوز، مستوى المظهر المخادع للرجولة، مستوى المتعة المنفتحة للأنوثة، و أخيرا مستوى انسابية الصورة السينمائية. القراءة المقترحة نابعة من متعة شخصية خلال مشاهدة هذا الشريط الذي حقق فيه مخرجه بتألق فني كبير نوعا من التناغم الجمالي بين كافة أبعاد العملية الإبداعية. و قد سَعِدْتُ بمشاهدة هذا الشريط مرات عديدة، مما جعلني أدخل معه فيما يشبه التوله العاشق، الذي أعتبره شرطا ضروريا لتحقق فعل القراءة..
اللقطة الافتتاحية.. دال التواصل المحجوز:
نستهل مقاربتنا للشريط بالوقوف عند اللقطة الافتتاحية.. ننظر في منزلة هذه اللقطة و نحلل من خلالها بنية المحكي الفيلمي في "أندرومان"..
يبدأ الفيلم بلقطة نصطلح على اعتبارها لقطة مكبرة للفتى/الفتاة أندرومان (جليلة تلمسي) يبوح/تبوح خلالها بكلمة واحدة موجهة للمشاهد هي: " دْرِّي" (وَلَد).. تقدم اللقطة قبل انطلاق أحداث الحكاية الفيلمية، لتندرج بذلك ضمن مستوى التلفظ الفيلمي.. إنها بمثابة لقطة مُقحمة توضع كاستباق سردي لتهييء المتفرج لما يلي من أحداث.. و هي بذلك تحقق ثلاثة أشياء على الأقل.. تندرج ضمن التلفظ الفيلمي.. تحقق استباقا سرديا.. و تقترح تبئيرا محددا يتبلور عبره المحكي الفيلمي انطلاقا من وجهة نظر معينة هي وجهة نظر أندرومان. التبئير هنا يأخذ معنى "المكان المركزي لضبط المعرفة المتفرجية"(1).
إذا كانت سيرورة الأحداث لاحقا تتم خارج أية بؤرة حكائية ثابتة، فإن اللقطة الكبيرة الأولى – لقطة أندرومان – تقوم بحصر نظرة العين المتفرجية. إنها لقطة تفاجئنا كأول لقطة في الشريط لتضعنا أمام مفارقة، و لتثير التباسا و أسئلة في ذهن المتفرج.. أسئلة ستظل بمثابة بؤرة سردية ثاوية توجه كل المشاهد و الأحداث اللاحقة.
هذا في مستوى أول.. و في مستوى ثان يقدم أندرومان، من خلال لفظة " دري" (وَلَد)، يقدم للمتلقي ما يمكن اعتباره الدال الأساسي الذي يجعل المعنى مستحيلا داخل فضاء محدد. التواصل محجوز أو مستحيل ليس بسبب أشخاص ليسوا في الحقيقة سوى أدوات أو توابع.. و لكن بسبب نظام الدال نفسه.. بتلفظه "دري" يقدم/ تقدم أندرومان ما يعطي للسرد مشروعيته.. إذ لا سرد هناك، و لا محكي من دون رمز، أي من دون نزوة خاصة..
غير أن ما تثيره هذه اللقطة الافتتاحية، في مستوى ثالث، هو ما نصطلح عليه بسؤال المعرفة. من يكون أندرومان بالضبط؟ هل هو ذكر أم أنثى؟ و ما معنى أن يكون المرء ذكرا أو أنثى؟ معناه أن ما تطرحه لفظة "دري" هو التالي: "هل أنا ذكر بالفعل؟"..إذا كان أندرومان لا يطرح هذا السؤال بشكل مباشر، فإن سؤال المعرفة هذا تطرحه شخصية أخرى بشكل واضح في الشريط هي شخصية بوغابة (حارس الغابة) (حسن باديدا). خلال لحظة بوح حميمي يتساءل بوغابة: "و لكن شكون حنا؟ ثلاثين عام هادي وحنا ما عارفينش شكون حنا!!" و سؤال المعرفة نجده أيضا لدى أوشن (محمد خيي)- أب أندرومان - الذي حين تتجاوزه الأمور أخيرا بعد موت ابنته "رقية" يشرع في البكاء.. لا يدري بالضبط ماذا عليه أن يفعل.. و هو سؤال يطرحه امحند اليتيم (أمين الناجي)، و يطرحه عيسى على المصور الفوتوغرافي "واش غادين تدخلونا للعسكر باش نضربو بالبارود فلاندوشين؟..." ثم يضيف: "و علاش كتصورونا؟" ... و يطرحه "لفقيه" على "سبيرا" : "واش نتوما ما كتعرفو عير تغصبوا الغابة؟" و هو سؤال يختتم به الشريط عندما يسأل أب أوشن ابنه قائلا: "آش ولدات؟" (ماذا أنجبت؟).. لا أحد يعرف بالضبط ماذا يقع.. الأمور تبدو مشوشة عند جل الشخصيات الحاضرة في الشريط، و هو تشوش يخلق لديها قلقا روحيا عميقا.. سنحلل هذا السؤال و أبعاده في فقرة لاحقة.
المظهر .. خدعة الرجولة:
عندما يتشبث "أوشن" برجولة "أندرومان" و برجولته هو أيضا بالطبع، فهو يختار الانخراط في صف المظهر المخادع.. "يبا راجل، و ولدو أوشن راجل، و وْلْدْ الراجل".. "أنا راجل و غادي نبقى ديما راجل.. غادي نْهْدّْ هاد الغابة كلها".. و هو لا يختار هذا الاتجاه بمحض إرادته، و لكنه يُفرَضُ عليه من قبل أبيه.. لكن ما هو أساسي، هو أن المظهر المخادع للرجولة أو للذكورة لا يفرض عليه من قبل أبيه الذي ليس هو نفسه سوى أداة بين يدي البعد الرمزي. أب أوشن و هو يحتضر يتكلم. و لأنه يتكلم فهو يلوذ رغما عنه بالمظهر المخادع كي يتصالح مع موته. كي يُشَرْعِنَ موته. و في كلامه الأخير يوصي بثلاثة أمور: يعطي اسما هو أندرومان (الشجرة).. يحدد لأندرومان مهنة (تحويل الخشب إلى فحم).. و يعطيه وجودا هو المظهر المخادع (الرجولة)..
ماذا يعني ذلك كله؟
لابد أن أوضح هنا شيئا أساسيا، هو أن الصراع الأساسي في الشريط ليس فحسب بين "أوشن" و "أندرومان" التي يفرض عليها أن تكون ذكرا.. الصراع الأساسي هو بين أوشن كمظهر مخادع، و أوشن ذاته كأنوثة.. قبل أن يقمع أوشن أنوثة "أندرومان"، فهو يقمع أنوثته الخاصة به. الرمز لا يقبل الأنوثة لأن الرمز بطبعه قاتل. الكلمة كدال تقوم بفصل الذات عن نفسها. أوشن مفصول عن ذاته تماما كما قام هو بفصل ابنته عن ذاتها. الصورة المٌجسِّدة و المعبرة بشكل مكثف عن هذا الفصل في الشريط هي صورة أب أوشن تحت جذع الشجرة.. الشجرة (أندرومان) هي الاسم الذي اختاره لحفيده كي يعطيه هوية، أي لكي يكرس فصله عن ذاته. الكلمة (الاسم) تقوم بفصل المظهر المخادع للرجولة عن العمق الأنثوي الذي يتم قمعه. ذلك ما يفسر العنف الرهيب الذي يقابل به "أوشن" ابنته "أندرومان".. ذلك العنف بكل تلك القسوة هو نتيجة الخوف من افتضاح الحقيقة الداخلية التي يتستر عليها، أي أنوثته الهاربة..
المكان الوحيد الذي يحس فيه أوشن بالانتشاء، و يدخل فيه في حالة جوانية خاصة هو المخزن. المخزن يحمل ثلاث دلالات في الشريط. مكان للتخزين. فضاء للسلطة التي يعتبر بوغابة عنصرا منها. لكن الدلالة اللاواعية و هي الأساسية، هي أنه يوحي برحم الأنوثة. أو لنقل تحديدا برحم الأم الغائبة. ينتشي أوشن داخل الرحم مثل طفل قبل أن يتلقفه عالم الرموز ليعود إلى عنفه من جدبد.
و المظهر المخادع للرجولة هو الذي يتحكم ظاهريا في نسج كافة العلاقات داخل الفضاء الفيلمي. (فوق/تحت – داخل/خارج - منغلق/منفتح – رجولة/أنوثة - قوة/ضعف – أرض/لا-أرض – موت/حياة)، و هو الذي يبدو أنه يوجه و يحكم حركة الكاميرا كما سنبين ذلك.
لكن المظهر المخادع – الرجولة – هو لإخفاء شيء آخر أساسي، هو غياب تواصل حقيقي على المستوى الجنسي. أوشن يضحي بمتعته الجنسية من أجل متعته الرمزية. يندمج في متعة أخرى هي المتعة الرمزية. و من خلال اختياره متعة الرمز، يختار أوشن دون وعي منه طريق القتل..أن يكون قاتلا. قتل الطبيعة ممثلة في الغابة.. التسبب في قتل ابنته رقية.. قتل امحند اليتيم.. محاولة قتل أندرومان.. المظهر المخادع للرجولة إذن هو مظهر القتل.. قتل الإنسان و قتل الطبيعة..
نحو متعة حقيقية للأنوثة:
إذا كان المظهرالمخادع للرجولة يتجسد من خلال القتل و التدمير، فإن للأنوثة أساليبها الخاصة لتحقيق متعتها في تحد مكابر لقسوة المظهر.. ذلك ما يعنيه صمت أندرومان.. حتى خلال جلستها الحميمية مع امحند اليتيم لا تتكلم.. ترفع أندرومان درجة المتعة نحو مقام آخر لا يستطيع الرمز اللغوي أن يضبطه. عندما يحجز أوشن ابنته لا يفهم أنه يقدم لها خدمة، لأن عالم الأنوثة هو عالم السر و الاختفاء.. أو لنقل هو انفتاح كون شاسع من داخل انغلاق المكان الضيق للحجز.. يقول المفكر الإنجليزي وينيكوت في هذا الصدد: "إن الاشتغال التناسلي الأنثوي الحقيقي هو اشتغال خفي، عندما لا يكون سريا... و عادة ما يتحقق الفانطازم من خلال الخلوة مع الذات، من خلال الخفي و السري...تجد التمثلات التناسلية تعبيرها الأكثر اكتمالا في التماهي مع الأم.."(2)
تلك دلالة لقطة تدفق الحليب، الذي تم تصويره بكيفية بطيئة. و تلك دلالة الرعب الذي استشعرته أندرومان مباشرة بعد التدفق. هذا البياض المتدفق للأنوثة الذي يقابله على مستوى آخر سواد الفحم الذي ما فتئت أندرومان تصارعه بقدميها النحيلتين، كان من الطبيعي ان يقابل بعنف من أوشن. تدفق الحليب هو استعارة لسيلان الدم عند المرأة. في مجموعة من النصوص القديمة يتحول الدم عند النساء إلى حليب (3). للأنوثة علاقة حميمية بالدم، بالتدفق و السيلان، لذلك تكون الصورة الأولى لأندرومان كأنوثة هي صورتها في الماء. و الماء هو الذي يفشي أنوثة أندرومان لمحند اليتيم، عند سقوطها المباغث في النهر.. في فيلم "عازفة البيانو" (2000) لـ "مايكل هانيك" تقوم فتاة بشرط عضوها الجنسي. يتعلق الأمر بمحاكاة دم الحيض لتتمكن أمها من مشاهدة دمها يسيل عبر قدميها. كل الرعب المستشعر إزاء الأنوثة، إزاء الحياة، يختصره الدم الذي هو تعبير عن صلة سرية خفية بين أندرومان و أمها المفقودة.
لا يحضر دال الدم في شريط "أندرومان.." من خلال لقطة تدفق الحليب فحسب.. يحضر في ثلاثة مشاهد أخرى متفرقة، لكنها تتآزر فيما بينها لتنسج حميمية الأنوثة. بينما أندرومان تخيط ثوبا تخز أصبعها فجأة بالإبرة. عندمها تضع أصبعها في فمها كي تمص دمها ينفتح صندوق الأم كاشفا عن ثوب الأنوثة. في مشهد آخر يتخلص أوشن من دمه الخبيث من خلال طقس الحجامة، و أخيرا يبصم امحند اليتيم دماءه و هو يحتضر على الفرس الأبيض الذي تمتطيه أندرومان ليحقق بذلك تحولا حاسما في حياة الفتاة نحو إعلان أنوثتها.. خلف الصراعات التي تبدو ظاهريا، هناك خيط خفي يصل بين الجميع ضمن ثنائية الحياة و الموت.. ذلك هو خيط الدم بوصفه العلامة الأساسية للأنوثة...
هذه المتعة المتدفقة للأنوثة برزت في متوالية أخرى هي متوالية انجذاب أندرومان نحو صوت "العطار".. العطار مرآة أخرى لاكتشاف أنوثة أندرومان. و لأنه لم تكن لديها إمكانية للخروج، فقد اتجهت نحوه من خلال ثقب النظرة. عبر صوت خارجي مضت الكاميرا تلتقط، من خارج الحقل الضيق المسيج لأندرومان، العطارَ الذي كان على الفتاة أن تطير نحوه عبر خصاص الباب. النظرة هي الخيط الواصل بين انغلاق المكان الضيق لأندرومان (البيت)، و انفتاح العالم الخارجي الذي يوحي به العطار. مباشرة بعد مشاهدة العطار، تنفتح أندرومان للمرة الأولى في الشريط على مستوى آخر لتدفق الأنوثة هو مستوى اللعب. و لاحقا من خلال أحمر الشفاه، قبل أن تجابه مرة أخرى بعنف أوشن.
كل شيء عند اندرومان في علاقتها بالأنوثة يمر عبر النظرة و عبر المرئي. النظرة هي التي تسقطها في النهر.. إفشاء الأنوثة يتحقق من خلال النظرة.. و النظرة هي التي تصلها بجسدها من خلال لوازم التقنع الضرورية للجسد (العطار). و نظرتها للحليب المتدفق هي نظرة صادمة، على غرار النظرة الأولى للدم المتسايل من المهبل.. لكنها تمنح نفسها للنظرة من خلال القناع و من خلال التقنع..
النظرة بهذه القوة، بهذا العنف، تحل محل الشَّعْرِ الذي افتقدته. تمر علاقة أندرومان بِشَعرها في الشريط بمراحل: في مرحلة أولى تخفي شعرها عن الجميع.. و في مرحلة ثانية يجز أوشن شعر ابنته بقسوة..لتحل المرحلة الثالثة التي هي مرحلة أندرومان بلا شَعْر، قبل أن تكشف عن أنوثتها لتتدثر بحجاب على الرأس داخل الزاوية. لماذا كل هذا الاهتمام بالشعر؟ تماما مثل الدم، و في ارتباط به أو كتعويض عن اختفاء المهبل، اختفاء العضو الجنسي عند الأنثى، يكون الشعر هو التعبير عن الأنوثة في بعدها الإيروتيكي الحميمي العنيف. و لهذا يُحَاصَرُ شعر المرأة في العديد من الثقافات و الأساطير.. عندما كان باحثوا محاكم التفتيش خلال العصور الوسطى يقصون شعر النساء الهستيريات، فذلك خوفا من إخفاء الشيطان داخل شعر عاناتهن. و في الديانة اليهودية، تظهر النساء المتزوجات حليقات الرأس أو بشعر مستعار. في فيلم "مالينا" (2000) لغيسيبي طورناطوري تقوم نساء البلدة بقص شعر مالينا (مونيكا بلوتشي) بوحشية قصد الانتقام من اندفاعتها الجنسية القوية التي أثارت فتنة بين كل الرجال. شَعْرُ المرأة مخيف لأنه يرمز للاندفاعة الجنسية القوية. و هو يثير قلقا لدى الرجل، لأنه يتحدى سلطته، التي هي في العمق سلطة مضادة للنزوة الأنثوية المتدفقة.
عندما كانت أندرومان مع أختها رقية داخل المقبرة، إذا بهما يسمعان معا أصوات فتيات يرددن: "عيشوري عيشوري.. دليت عليك شعوري".. في عاشوراء هناك توحد بين الحياة و الموت.. من داخل هذه الثنائية يتسلل شَعر المرأة معبرا عن وجود آخر، في معنى الالتحام بالأرض من خلال الدفن..
و تَوَحُّد أندرومان مع دمها هو ما يفسر هذا الحضور القوي للطبيعة، و للاتحاد مع عناصر الطبيعة في الفيلم. جريان السحب.. صورة القمر.. المطر المتساقط على الغابة.. الفرس الذي تمتطيه أندرومان.. أشعة الشمس.. الشجر.. النار.. النهر..و لكن أساسا من خلال الحضور الخاص لموسيقى تتلون من خلال تموجات الطبيعة، لتساهم في النفاذ إلى أعماقها مما وشح الفيلم بهالة روحية ترفعه إلى مصاف الحلول و الاتحاد بين الإنسان و الطبيعة. لذلك قلت في البداية إن البؤرة السردية التي توجه المحكي في الشريط هي بؤرة أندرومان، بؤرة الأنوثة. بنية الحلول و الصمت و الانفتاح...(4)
الصورة الأخرى.. من الرمز إلى الدازدينغ (الاستحالة):
نقف الآن عند الصورة الفوتوغرافية كما تحضر في الشريط، لنحلل انطلاقا منها وضع و تبلور الصورة السينمائية في "أندرومان".. الصورة الفوتوغرافية مثلما تجسدت في حدث التصوير الفوتوغرافي في الفيلم، (تصوير السلطة للسكان)، هي صورة محجوزة بالسلطة.. صورة متصنعة.. صورة مبتذلة.. صورة "ذكورية" بمعنى ما.. لا تتغيى هذه الصورة التي ينجزها المخزن الاحتفاء بالجسد، و إنما بتره لإدماجه ضمن فضاء خاص هو فضاء السلطة (الصورة قصد بناء هوية، قصد التجنيد...).. الصورة هنا مُوَجَّهة و موجِّهة للعنف..
لكن امحند اليتيم سيتمكن - بسبب يتمه بالذات - من الإفلات من سلطة الصورة الفوتوغرافية، و النجاة بنفسه من براثنها، ليعطي من خلال هروبه للصورة السينمائية وضعا آخر مغايرا.. تحررنا الصورة السينمائية من ابتذال الصورة الفوتوغرافية حينما تستعمل لأغراض نفعية، أو من سلطة الواقع، لتجعلنا نطل على إمكان آخر صادم و فسيح في نفس الوقت، هو الواقعي.. تحررنا السينما من الواقع، لكنها تجعلنا في مواجهة مع الواقعي.. كيف ذلك؟
لحظة المواجهة مع الواقعي في الفيلم تجسدت في المشهد الذي تقوم خلاله أندرومان بالكشف عن أنوثتها أمام الملأ.. الكشف عن الأنوثة يتم عبر انقلاب على الرمزي عبر الخيالي متمثلا في صورة الجسد.. هكذا يتم فتح ثقب يزج بأندرومان في اتجاه آخر... هذا الانكشاف يكتسي كامل حدته خاصة بتموقعه داخل فضاء خاص هو فضاء المقبرة، و لحظة خاصة هي لحظة الدفن بما هي لحظة رمزية بامتياز.. مشهد الاستعراء يجعل من كل الرجال بالمقبرة أشخاصا متلصصين، و هو ما يحقق لديهم نكوصا نحو مشهد بدائي يجعلهم جميعا يتوارون إلى الخلف، أو يتلاشون أمام الحضور القوي لأب أوشن.
أوضح أن المقصود بالواقعي هنا هو ما يفلت من الرمزي و الخيالي. الدازدينغ هي لحظة انشقاق الرمز أمام صدمة الجسد.. و أندرومان إذ تختار الصمت، فإنما تفرض على نفسها دون إرادتها مسعى آخر لا يستوعبه أوشن، مسعى الاستحالة، و تجعل من الحصان عٌدة أنثوية في سبيل نصرة الواقعي، بما هو واقعي الأنوثة المتدفقة.
عودة إلى سؤال المعرفة.. الخطاب المنبث بين كل تمفصلات المحكي الفيلمي هو خطاب ينطلق من هاجس محدد، هو هاجس إجلاء الغموض بشأن الكينونة الإنسانية، فيما بين قطبي الذكورة و الأنوثة. سؤال الذكورة و الأنوثة كسؤال معرفي هو محدد الأسئلة الأخرى التي طرحنا نماذج منها أعلاه. "ثلاثين عام هادي وحنا ما عارفينش شكون حنا".. و لذلك يضيف "بوغابة" مباشرة بعد ذلك: "أنا عييت..عييت ببنادم ديال الفاخر !"
وحدها رابحة (راوية) المنزوية داخل الزاوية تستطيع تقديم جواب عن السؤال. تهيء رابحة أندرومان للسباق، توصيها قائلة: "كوني مرا.. كوني مرا".. "راوية" هي الشخصية الوحيدة التي تستطيع أن توصي بذلك في مقابل وصية أب أوشن لابنه. فهي من جهة مرابطة داخل الزاوية، و هي من جهة ثانية ذات خبرة في عالم الأنوثة، و لكنها بالأساس هي القادرة على تسليم مشعل الأنوثة لأندرومان لأنها وحدها القادرة على التعويض عن الأم الضائعة، ضمن تلك الحميمية السرية التي قلنا إنها حميمية الدم و الأنوثة...
في خضم ذلك كله، تبدو حركة الكاميرا عموما حركة بطيئة، تتجسد من خلال لقطات بانورامية تلامس الكائنات و الأشياء كأنما لتجعل المشاهد يداعب الجسد الغائب/الحاضر. جسد الأم، جسد أندرومان، جسد الطبيعة. المتعة ليست في الاقتحام والانتهاك، و إنما هي في اللمس و المداعبة، اي في خلق أفق للانتظار. الرغبة في ارتباط مع سؤال المعرفة هي رغبة لا تعرف الإشباع. لذلك يهرب امحند اليتيم من فضاء الصورة الفوتوغرافية – الجندية – نحو فضاء فسيح هو فضاء الصورة السينمائية. في بداية الشريط عندما يظهر امحند لأول مرة يبدو منهمكا في صنع لعبة. إن ما يقوم به لا يندرج ضمن مستوى المنفعة، بقدر ما يندرج ضمن اللعب كسجل للظهور و الاختفاء. يسلم امحند لاحقا اللعبة للطفلة رقية. هي لعبة بوجهين بها تستطيع الطفلة أن تضبط غياب الأم و تتحكم فيه. اللعبة يدوس عليها أوشن لاحقا، فيما تمضي الكاميرا لتَعَقٌّبِ الأفق الذي تدشنه أندرومان لتأكيد أنوثتتها بنفسها من خلال السباق.
ختاما يمكن القول إن ما أعطى للشريط غنى كبيرا هو أولا طاقته الإيحائية الشديدة، مما جعله مليئا بالاستعارات المكثفة التي تظل مفتوحة على قراءات متعددة. غير أن ثمة مكونات أخرى لا تقل أهمية، ساهمت في إعطاء الفيلم تألقا خاصا نذكر من بينها مكون الأداء. و لعل الممثل محمد خيي يكون قد قدم في هذا العمل دورا هو من بين أكثر الأدوار قوة و تميزا في السينما المغربية. أضف إلى ذلك الأدوار المتميزة لكل من جليلة التلمسي (أندرومان)، و حسن باديدا (بوغابة)، و بنعيسى الجيراري (رفيق بوغابة)، و غيرهم...كما أن الموسيقى التي أشرف عليها محمد أسامة منحت الشريط أبعادا روحية انصهرت ضمن تناغم متفرد مع تلك الصور الجميلة الملتقطة للطبيعة في حالاتها المختلفة، و في فترات متنوعة، و هو ما نتج عنه فيلم أفلح مخرجه عز العرب العلوي في أن يجعله يرقى إلى مصاف الأفلام الخالدة في الفيلموغرافيا المغربية.
-----------------------------
هوامش:
1- أندري غاردي و جون بيساليل " مفتاح نظرية السينما" ترجمة حسان محمد عبد الفتاح و نورالدين بوخصيبي و بوبكر الحيحي – منشورات الجامعة الوطنية للأندية السينمائية – 2014 – ص:83
2- Winnicot, La Nature humaine, Gallimard, 1990, orig. 1988, pp. 56 cité par Jacqueline Schaeffer « le fil rouge du sang de la femme »
3- Parat H. 1999), L’érotique maternelle, Psychanalyse de l’allaitement , Paris, Dunod.
4- أنظر التحليل الجميل و الممتع للأنوثة في علاقتها بالدم ضمن مقالة جاكلين شيفر " الخيط الأحمر لدم المرأة" (وثيقة على الإنترنيت بالفرنسية).