التواصل مفهوم شاسع وفضفاض، إنه على درجة من الميوعة والرحابة بحيث يعسُر انضباطه ولا يكاد يتأتى الإمساك به إذ تُساءل تخومه، فهو متعدد المظاهر والتجليات، ومتعدد الأبعاد، ومتعدد الأنسقة. وهو فوق كل ذلك مبثوث في كل مناحي الحياة، وبين كائنات تختلف؛ من الحيواني إلى الآلي إلى الإنساني. لذا فإنه إذ يُطلق تعدد دلالاته ولا تكاد تنحصر.
إلا أنه على ذلك، ورغم أنه يمكن الحديث عن تواصل حيواني كما يمكن أيضا الحديث عن تواصل آلي، فإن الذي عليه الإجماع هو ألا تواصلَ على نفس القدر من الكفاءة والكثافة والغنى الذي للتواصل الإنساني، إنه أسمى الأنواع؛ فبالقدرة الفائقة على التواصل استوى الإنسان كائنا متميزا فاوَتَ الكائنات الأخرى فكان الأرقى. ومن أجل أهميته فإن سؤاله ظل دوما يحظى براهنية متميزة لأن إشكالاته لاتني تَنَـزَّل في كل آن.
وأفراد الناس إذ يكون التواصل أحد خصائصهم فإن بداهة الظاهرة غالبا ما تجعلهم يغفلون عن الالتفات إليها والتساؤل بشأنها، إن الُملاحَظ أن جلهم يأتون الأنشطة التواصلية دونما وعي بما يقومون به حالَتَهَا، خاصة إذ تتكلل محاولتهم بالنجاح. إن التساؤل حول الفعل التواصلي والإشكالات التي يطرحها لا يجد مبرره والباعث عليه إلا حين تُفضي المحاولة إلى الفشل، وبوجه خاص إذ يكون الفشل ذريعا، حالتئذ ينبثق السؤال عن أسباب قيام التواصل ونجاحه، والعوائق التي يمكن أن تحول دون ذلك 1. وربما كان القصد إلى تجاوز هذه العوائق لغاية تحقيق فعالية تواصلية ناجعة أقوى مُسوِّغات الاهتمام بالظاهرة والبحث فيها في مستواها التفاعلي، حيث التواصل يمكن اعتباره من أهم محركات الفعل الإنساني بشكل عام.
1- التواصل تفاعل
إن الحديث عن التواصل كما يظهر من خلال الصيغة يؤول إلى حديث عن التفاعل الذي يفترض المشاركة في إتيان الفعل من جانبين اثنين على الأقل، إنه لا يمكن، بناء عليه، الحديث عن نشاط تواصلي إلا بين متواصِل ومُتواصَل معه يتبادلان دَوري الفاعل والمنفعل من خلال تداول فِعلَي البث والتلقي. لأجله فلا إمكانية للحديث عن تواصل أحادي ولو في الذات الواحدة ما دام المفهوم يقوم على التَّعالُق الذي بنيته تستدعي الأطراف كعناصر تشارك في صنع لعبة التبادلات بصفة عامة، والتبادلات الكلامية على نحو خاص.
إن تفاعلية التواصل، إذ يتقرر ذلك، ستفضي إلى النظر إليه باعتباره سيرورة دائرية تَتَكَوثَر بفعل الانتقال من دور إلى آخر، ومن وضعية الفعل إلى وضعية رد الفعل؛ ذلك أن كل سلوك تواصلي للمرسِل الباث )المتكلم( سيعمل باعتباره مثيرا للمرسَل إليه المتلقي )المستمع( الذي يتقلد بدوره دور المخاطَب.
ولما كان الإنسان يفعل وينفعل داخل المجتمع كان كائنا اجتماعيا، وكانت اجتماعيةُ الكائن البشري مشروطةً بالقدرة على التواصل مع الآخر والتفاعل معه. وإنه لعلى قدر التواصل تتحقق الاجتماعية، وعلى قدر الاجتماعية يتحقق التواصل المفضي إلى التفاهم 2 . لأجله فإنه لا يسَع الكائن البشري إن أراد الحفاظ على نوعيته إلا أن يَبَرح مَلَكوته الخاص ويندفع إلى الانخراط في ملكوت من يُواجده كرها لا طوعا. إن عدم وجودنا لوحدنا على هذا الكوكب كاف وحده لجعلنا ننخرط في الأنشطة التواصلية وعينا ذلك أم لم نعيه، اخترنا ذلك بمحض إرادتنا أو اندفعنا إليه اضطرارا 3 . إنه لا بد
من أن نتواصل ما دام وجودنا إناثا وذكورا، أفرادا وجماعات، شعوبا وقبائل، مجتمعات وحضارات، كان من أجل التعارف والتفاعل.
وإذ يتبين أن التواصل نشاط تشكل التفاعلية الحافز إليه والمقتضي لقيامه لزم عنه حتما الإقرار بأنه لا يمكن الحديث عن نشاط تواصلي إلا في أفق اجتماعي يتجاوز الفردي الساكن إلى الاجتماعي المتحرك، حيث التواصل يحدث في سياق يُحدِّد عناصره ويعين شروط نجاحه. لأجله فلا شيء في اللعبة التواصلية يمكن النظر إليه باعتبار انعزاليته عن المحيط العام المؤطر له؛ لأن سلوكات التواصل ترتبط إلى حد كبير بالمعنى الذي تأخذه لدى الفاعلين في سياق أقل ما يمكن أن نقول عنه أنه سياق للتفاعلات الحية، حيث العالم المَعيش يشكل خلفية للنشاط التواصلي4؛ سواء اعتمدت هذه التفاعلات في تسنينها على اللغة أو سَنَّنَت بغيرها.
2- التواصل اللغوي أثرى أنواع التواصل
إن الإنسان إذ يرغب في التواصل فإنه يتوسل إلى ذلك باعتماد أداة يتم عبرها نقل الأفكار والتصورات التي تروج في عقله أو العواطف والأحاسيس التي تعتمل داخله إلى الآخر لِغاية جعلها مشتركة بينه وبينه5 ، وإنها أداة وإن كانت واحدة جوهرا ووظيفة فهي مختلفة شكلا وصورة. وليس هذا المختلِف إلا الأنساق السيميائية؛ فمن اللغة إلى الكتابة، إلى أبجدية الصُّم البكم، إلى الشعائر والطقوس الجماعية، إلى سنن الآداب والألعاب، إلى الأثاث والمعمار، إلى أنساق الموضة العالمية6. ومن هذه إلى اللباس والمأكل والمشرب، إلى طرق الاحتفال؛ لذا فإن الظواهر الثقافية على اختلافها يمكن اعتبارها ظواهر تواصلية7، وكل سلوك بحضور الآخر يمكن اعتباره سلوكا تواصليا كما عند مدرسة ) بالوآلتو ( 8. وإن لكل نسق عناصر تؤلفه، وقواعد تُنظِّم انْبِناءَه، ومبادئ تَضبط استعماله. وإنها مهمة السِّيميولوجيا 9.
إلا أنه مع الإقرار بدور مُختلِف هذه الأنسقة وأهميتها، فإن الذي يتعين التنصيص عليه هو أن النسق اللساني يستأثِر بخصائص تجعل منه سيد الأنساق جميعا إذ يتعلق الأمر بكم الكفاءة التواصلية وكيفها؛ إن الناظر إلى دلالات الأنسقة غير اللسانية التي تُوظَّف في التواصل الإنساني الطبيعي لَيَقِف لِتَوّ النظر على حقيقة أن هذه الدلالات تبقى إلى حد كبير مرتبطة بتلك التي يُقدمها النسق اللغوي الذي يُسهم إلى حد كبير في قراءتها وتفسيرها وإذا اقتضى الأمر تأويلها؛ لذا فإنها لا تكون أبدا خالصة، وما ينبغي لها أن تكون إذ تُواجِد الدلالات اللغوية؛ إنها لا توجد إلا ممتزجة متداخلة متفاعلة مع دلالات اللغة10. ذلك أنه لَمَّا يتأطر العالم المعرفي للكائن البشري ويتقولب وفق أشكال وقواعد ومبادئ هذا النسق الأقوى فإنه يصير نسقا مهيمنا بالكاد تتوفر له سمة الاحتواء، إننا إذ نتعلم لغة فإننا نصبح أسرى لها لا فاعلين مستقلين كما قد يُتوهم11. لأجله كان تدليلنا بأنسقة أخرى ليس في وسعه أن يتخلص من هذا الأسر مَهما حاول أن ينفرد ليتحرر، خاصة وأن التواصل الإنساني نادرا ما يكون لا مصحوبا بكلمات. إننا لا نعرف عن الانتفاع بالأسماء التي تعلمناها إلا في المقامات التي تمارَس علينا سلطة الإكراه فنشعر لتو العزوف عنها بضيق الأفق وعوز الإبلاغ. إن التواصل الإنساني، في كلمات، لا تتوفر له سمتي الأصالة والنجاعة إلا إذ تتم ممارسته بشكل طبيعي حيث تُستخدم اللغة العادية.
3- من التحليل الآلي إلى التحليل التخاطبي
3-1- بداية تبلور مبحث التواصل والتفسير الآلي:
إن التواصل الإنساني باعتباره مبحثا مَناطُه النظر في طرائق وكيفيات تفاعل الكائنات البشرية بتوسيل الخيرات الرمزية اللغوية ربما تشكلت إرهاصاته الأولى مع البحث في أشكال وتقنيات التواصل الحيوانية والآلية. لذا فإن مراحله الجنينية الأولى وجدت رحِما لها مجالات معرفية بعيدة نسبيا عن ميدانه الخاص، حيث تم اقتراح خطاطات تختصر عملية التواصل وتحدد عناصرها وطبيعة سيرورتها والتأثيرات التي تعوق تحقق ونجاح الإرساليات، خطاطات ستشكل مصدر إلهام للباحثِين في محتدى التواصل البشري الطبيعي .12
بهذا الصدد يمكن الحديث عن السبرنتيكا " Cybernetique" كمبحث يهتم بآليات التواصل كما تتحقق عند الآلة والحيوان، والميكانيزمات التي تقف وراءها. ففي كَنَف هذا العلم ستتبلور فكرة تتعلق بإمكانيات التحكم في السلوك البشري عن طريق برمجته وتوجيهه؛ الفكرة المستوحاة من خلال مفهوم الإرجاع " Feedback" الذي يتمحور حول قدرة الفعل المنجَز آنيا على التأثير في سبب وجوده من خلال ارتباطه بنسق يجعله كذلك؛ حيث كل نتيجة تؤثر بشكل إرجاعي على سببها، وكل سلوك ينبغي أن يُنظر إليه باعتبار بعده الدائري حيث الانعكاس التأثيري كما يتجلى ذلك في الخطاب الإشهاري بشكل بالغ الوضوح إذ يُتأمّل. 13
وفضلا عما قدمه مبحث السبرنتيكا من فِكَر مهمة فإنه لا يَسَع الباحث إلا الاعتراف بالإسهام الكبير الذي تقدمت به البحوث في ميدان الاتصالات "Télécommunication"؛ ففي هذا الميدان قُدِّمت خطاطات تختصر العملية التواصلية، ولعل أشهرها خطاطة شانون – ويفر Shannon- Weaver التي شكلت مَنهلا للكثير من الباحثين المهتمين بالشأن التواصلي، فنادر جدا ما لا يقف الباحث في المجال على الإشارة إليها أو إعادة ترسيمها للانطلاق منها إما بغرض العرض والتفسير، أو الانتقاد والتعديل، أو هما معا.