يحضُرني وأنا أقرأ عشيقات النّذل لكمال الرّياحي الشّاعر ابن الرُّومي في شعره وخاصّة هجائيّاته والفقيه جلال الدّين السّيوطي . وهو ما وسم النّص بحواريّة مُخصبة ذلك أنّ الحواريّة " .. مُصطلحٌ لهُ مع الحوار جذرٌ مُشترك . وهو ما لم يعزب عن ذهن مُبدعه " ميخائيل باختين " حين وضعه للدّلالة على العناصر المُتباينة داخل الأثر الرّوائي . فوجُود هذه العناصر المشتركُ وتفاعل بعضها مع بعض حسب نظام بعينه ، من شأنهما إنشاءُ كيان فنّي واحدٍ هو الرّواية . وقد انتبه باختين لمفهوم الحواريّة عندما درس الرّواية باعتبارها ملافيظ لغويّة وأركان قصصيّة في الآن نفسه " [1] ولسائل أن يسأل ما الذي يجمع بين كاتب رواية معاصر من جيل السّبعينات وشاعر من شعراء القرن الثّالث للهجرة وفقيه ونحوي ومؤلف كتب التفاسير والفقه من أعلام القرن الثامن للهجرة ؟ .
ألا يبدو في الأمر الكثير من التمحّل والاعتساف ؟
إلاّ أن المسألة لا ترتبط لا بالزّمن ولا بجنس الكتابة ولا باختلاف العصور والغايات . فالمُتأمل في سيرة ابن الرّومي يجدُها حافلة بالمواقف التي تكشف سلاطة اللّسان وقوّة الرّد أمّا أشعاره فإنّ الكثير منها لا يخلُو من " فحش" واعتماد صريح على الجانب الجنسي الإيروسي وخاصّة في هجائياته لذلك تراءى لي وأنا أتصفحُ عشيقات النذل صورة " النّذل " ابن الرُّومي وهو يفضحُ ويُعرّي منظُومة القيم الأخلاقيّة السّائدة ويُنكّل بسوط لسانه كُلَّ من لم يرُق له من أهل السّياسة والأدب .
ولعلّ حكاية موته مسمُوما تُوضّحُ هذه المسألة حيث " ذكر ابن خلّكان في ترجمة أبي الحسن علي بن الرّومي الشّاعر المشهور أنّ له في الهجاء كلّ معنى طريفٍ ، وكان الوزير أبو الحسن بن وهب يخافُ من هجوه وفلتات لسانه بالفُحش فدسّ عليه ابن فراس فأطعمه خُشكنانة ( خبز محلّى) مسمومة وهو في مجلسه فلمّا أكلها وأحسّ بالسّمّ قام فقال له الوزير: " إلى أين تذهبُ ؟ " فقال : " إلى الموضع الذي بعثتني إليه فقال له سلّم لي على والدي . فقال ما طريقي على النّار " [2] وبعيدا عن مسألة صحّة الخبر من اختلاقه فإنّه يُوضّحُ على الأقلّ مسألتين الأولى ترتبطُ بالخوف من نصوص ابن الرُّومي إلى درجة التفكير في قتله ، والثّاني قوة ردّ ابن الرُّومي حتّى وهو يحتضر وهو ردُّ لا يخلو من فُكاهة وسُرعة بديهة .
و في الجهة المُقابلة تكشفُ عشيقات النّذل عن سمة متحرّرة من كلّ عقال حيث تظهرُ لنا اللُّغة متحلّلة من الإكراهات لا يكادُ يضبطها ضابط أخلاقي أو اجتماعي سوى إيقاعها السّرديّ ، مفتتنة بحُضورها الذّاتي وهو ما يفتحُ مساحات جديدة في النّص الرّوائي تغامرُ في غير الجاهز والمألوف وتعيش على تكسير ما استتب من أعراف الخطاب الرّوائيّ السّائد الذي ظلّ لبُرهة من الزمن يسيرُ على استحياء فتقف أمام النّص عوائقُ لا تصلُ به إلى المدى المنشُود وهي في الحقيقة عوائق معياريّة و أخلاقيّة لا شأن للأدب وللرّواية بهما. والطريف أنّ عشيقات النّذل رغم حداثتها تذكّرنا بنُصوصٍ تُراثيّة تحاورها وتتكئ عليها دون أن تستنسخها بل تستدعي روح " الأدب المرح فيها " على حدّ قول أستاذنا المُنصف الوهايبي في مقال له مشهُور عن هذا الصّنف من الأدب الذي لا يُعيرُ اهتمامًا إلى المعايير القيمية الأخلاقية وينهض على رؤية فنّية وجماليّة تفتتن باللُّغة وتُحيلُ على جانب خفيّ من أدبنا القديم الذي لم يكتُب فيه الأدباء والمفكّرون فحسبُ بل فقهاء وعلماء دين لهُم مكانتهم وكتبهم في مجالات شتّى في علم الحديث وتفاسير القرآن من ذلك العالم الجليل جلال الدّين السُّيوطي في كتابيه الوشاح في فوائد النّكاح وهو مُصنّفٌ طريف يجمع بين فوائد لغوية وطرف مُسْتخلصة من كُتب سابقة وكذلك رشف الزُّلال من السّحر الحلال وهو كتابٌ جامعٌ أقرب إلى نُصُوص مسجُوعة يحكي فيها كلّ عالم بلسانه وبمعجم صنعته ( الفقيه ، الطبيب ، والنحوي ...) ليلتهُ الجنسيّة الأولى في أسلوب لُغويّ شيّق وكتاب تحفة العروس ومُتعة النّفوس لأبي عبد الله التيجاني وهو من أشهر أئمّة المذهب المالكي ولا ننسى ما تتضمنهُ بعض الكتب الجامعة التي لا تختصُّ بالجانب الجنسيّ في كُليّتها . ولكن بها فصُول وأبواب تُعنى بهذا الجانبِ من قبيل الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني وزهر الآداب وغيرها. وهو أمرٌ لم يكن في زمان أسلافنا بالعمل المُشين ولا بالمُستنكر بل يدخلُ في باب المُلح والنّوادر على ورع أصحابه ومؤلّفيه . من هنا ينبعُ السّؤال الذي بدا لنا على قدرٍ كبيرٍ من الأهمّية ما الذي يجعلُ مثل هذه النّصوص اليوم توضع في خانة الأدب الجرئ أو الأدب الإباحي فيتوجّسُ منه البعض خيفة ويرُدوه بظاهر اليد . فيُمنعُ من التّوزيع في بعض الأقطار العربية ويُحرمُ من العرض في بعض المعارض الدُّولية الكبرى . ألا يكُون ذلك من باب التصنّع والمبالغة ؟
ويُذكِّرنا هذا الصّنف المتعامل بتوجّس وخيفة من هذه النّصوص بموقف الجاحظ في حيوانه فقد اعتبر مثل هذا التّعامُل مع النّصوص الجريئة ضربا من ضروب التُّقى الزّائف والورع الكاذب " بعضُ النّاس إذا انتهى إلى ذكر الحر والأير والنّيك ارتدع وأظهر التّقزز واستعمل باب التّورّع . وأكثر من تجدهُ كذلك فإنّما هو رجلٌ ليس معه من العفاف والكرم والنّبل والوقار إلاّ بقدر هذا الشّكل من التَّصنّع، ولم يُكشف قطّ صاحب رياءٍ ونفاق إلاّ عن لُؤم مُستعملٍ ونذالة مُتمكّنة " [3] هل يجرُأُ من يُحاصرُ هذه النّصوص ويُصادرُ حقّها أن يمنع مثلاً كتاب الأغاني أو الحيوان أو ديوان ابن الرُّومي الذي بدا لنا من أكثر الشُّعراء استعمالاً للمُعجم الجنسيِّ في هجائيّاته " وقد يكُون ابن الرّومي تعمّد توظيف المُعجم الجنسي في أهاجيه ليحرّر الجسد – فنّيا – من مُختلف ضُروب القمع المُسلّطة عليه حتّى يُحقّق اشتهاءهُ الجنسيّ بعفويّة عجيبة ينتهكُ بموجبها الخطاب المؤسّس لعُبوُديّة الجسد " [4] وهو في تقديرنا ما ينطبق على عشيقات النّذل بشيء من التحفّظ فالخطاب الجنسيُّ الواصف للأعضاء أو للخلوات الجنسيّة في تُراثنا إنّما يرتبطُ في الأغلب الأعمّ بجانب من الأدب الفكاهي المُضحك وهو بالمُلح والنّوادر أقرب وكذلك الهجاء الذي يرومُ صاحبه أن يجعل من المهجوّ أضحوكة زمانه فيسلُبُه ما يستُرُ العوْرة ويجعله مكشوفا إلاّ من عيُوبه من ذلك قوله في هجاء أحدهم :
زعم النّاسُ خالداً بغّاء *** كذبوا القول وافتروه افتراءَ
إنّما صادفوهُ يلمسُ غُرمو***لا فواراهُ في استه استحياء [5]
وهو خطابٌ لا يخلو من فُكاهة وتعريض ، ولكنّه لا يخلو كذلك من وصف مُقذع شديدٍ يتجاوزُ أعراف الكتابة المألوفة في النّص الشّعري الذي حوّل موضوعا قبيحا إلى نص فنّي لا يخلو من مظاهر الجمال والإبداع من ذلك الصّورة والتّخييل الذي يتجاوز التّصوير المُباشر ليصنع باللّغة وفي اللُّغة عوالمه التخييليّة الخاصّة حتّى في المشاهد التي لا تتطلّبُ أحيانا وصفا جنسيّا نجد المعجم الجنسيّ يحضر بقوّة حتّى في وصف الطبيعة . ويصف كمال الرياحي يوما ممطرا في نهج مرسيليا في عشيقات النّذل بقوله على لسان السّارد " كان يوما بشعا وذابلا مثل قضيب عجوز في الثمانين يُحاولُ الانتصاب في يأس أمام فاتنة تتعرى في الخلاء " [6] وهو تركيب لغوي لا يخلو من جرأة و" فُحش" نذالة بمفهومها المستحدث الذي حاول أن يبُثّه السّارد فيزحزحه عن معانيه المُتداولة وكأنّه يُعيدُ صياغته من جديد ويُطوّر بعض دلالاته ومعانيه . والطريف أنّ الصُّورة لا تنقلُ واقعًا بقدرما تنقلُ إحْساسا بالقرف والبشاعة والعجز انعكس على اللغة فحضر المعجم الجنسيُّ لا في عنفوانه وشبقه كما وصف لنا السّارد في الكثير من ردهات الرّواية - وهو ما يضيق به مثل هذا المقام- بل في أشدّ المشاهد المُعبِّرة عن معاني الهزيمة والعجز فتحضر الصُّورة الجنسيّة ولا يتّخذ فيها الموضُوع الجنسيُّ مكانة المُشبَّه بل يحتلّ مكانة المُشبّه به وهو ما يُحيلنا على بعض التراكيب الدّارجة في العامّية التونسية عندما يضيق بنا الحال فنقول " نْهَارْ كِــــــــــ...." ولعلّي أستعير في هذا المقام مقدّمة الأستاذ توفيق بكّار لموسم الهجرة إلى الشّمال للرّوائي الطّيب صالح الصّادرة عن سلسلة عُيون المعاصرة وهو يصف حال العرب وحالنا عندما قال " عريان كذا وفي صُبعو خاتم " ولولا بقية حياء من رجل شرقي لأوردت المثل على علّته لأنه أبلغُ في قباحته ولعلّ كمال الرّياحي كان أشدّ بلاغة وأكثر صراحة فلم يمنعه حياؤه من حيث منعنا فأين لنا من نذالة صاحب عشيقات النّذل .
قائمة المصادر والمراجع :
المصادر :
• الرياحي ( كمال ) عشيقات النذل ، بيروت ، لبنان ، دار السّاقي ، 2015..
المراجع :
• الحلواني (محمد) ، أساليب الهجاء في شعر ابن الرومي ، مقاربة أسلوبية في جمالية القبح ، صفاقس ،مطبعة التسّفير الفنّي ،2002.
• عمرو بن بحر الجاحظ (عثمان ) ، الحيوان، الجزء الثالث ، تحقيق عبد السّلام محمد هارون ، بيروت ، دار الجيل ،
1999 .
• القاضي ( محمد) ، معجم السرديات ، تونس ، دار محمد علي للنشر ، 2010.
• محمد بن علي بن طولون ( شمس الدين) إنباء الأمراء بأنباء الوزراء ،بيروت ، دار البشائر الإسلامية 1998 .
• يارد نازك ( سابا ) ، ابن الرّومي شاعر الحسّ والعاطفة والخيال ، بيروت ، بيت الحكمة ، 1969.
[1] محمد القاضي وآخرون ، معجم السّرديات ، تونس ، دار محمد علي للنشر ، 2010ص161
[2] إنباء الأمراء بأنباء الوزراء شمس الدين محمد بن علي بن طولون ،بيروت ن دار البشائر الإسلامية 1998 ص26 .
[3] كتاب الحيوان، الجزء الثالث ، تحقيق عبد السّلام محمد هارون ، بيروت ، دار الجيل ، 1996 ص 40.
[4] محمد الحلواني ، أساليب الهجاء في شعر ابن الرومي ، مقاربة أسلوبية في جمالية القبح ، صفاقس ،مطبعة التسّفير الفنّي ،2002ص 17
[5] يارد نازك سابا ، ابن الرّومي شاعر الحسّ والعاطفة والخيال ، بيروت ، بيت الحكمة ، 1969، ص 95.
[6] كمال الرّياحي عشيقات النّذل ، بيروت ، لبنان ، دار السّاقي ، 2015ص 16.