يندرج تحليل الخطاب ضمن الإشكالية العامة للمعنى، ويمثل محاولة للإجابة عن سؤال المعنى الذي استبعده دو سوسير على أساس أنه لا يخضع للدراسة العلمية. لقد انطلق دو سوسير من مبدأ المحايثة الذي ينص على ضرورة دراسة اللغة دراسة بنيوية باستقلال عن المتكلم وعن الوضعية التواصلية. ومن ثمة قصر دراسة اللغة على مستوياتها القابلة للوصف (المستوى الصوتي، المستوى الصرفي، والمستوى التركيبي). ودرس وحدات كل مستوى دراسة شكلية على أساس ما يربط بينها من علاقات التعارض opposition أو علاقات التكافؤéquivalence . ( لنأخذ كلمة "مال" مثلا، حيث فونيم "الميم" يكتسب قيمته من تعارضه مع كل من "الألف" و"اللام" حيث لا يمكن أن ينوب عنهما داخل هذه العلامة اللسانية. لكن هذا الفونيم يدخل في علاقة استبدال مع فونيمات أخرى قد تنوب عنه هي "السين"، "القاف"، "الجيم"، فتخلق علامات لسانية أخرى هي "سال"، "قال"، "جال"...؛ وما ينطبق على التحليل الفونولوجي، ينطبق على تحليل الكلمة.
ففي جملة "قرأ الطالب الكتاب" ترتبط كلمة "قرأ" مع الكلمات الأخرى داخل هذه الجملة بعلاقات تعارض، ولكنها ترتبط مع كلمات أخرى بعلاقات استبدال، مثل "استعار"، "لخص"، "فهم"...الخ.). وكما طبق دو سوسير هذا التحليل البنيوي الشكلي على الدال بمستوياته الصوتية والصرفية والتركيبية، طبقه على المدلول أيضا. إن كلمة "أم" مثلا قابلة لأن تحلل تحليلا شكليا إلى وحدات دلالية صغرى (سيمات sèmes) هي "إنسان"، "أنثى"، "لها أولاد". ويكفي أن نحدث تغييرا في هذا النسق، ونعوض سيمة "أنثى" بسيمة أخرى هي "ذكر"، كي نحصل على مدلول جديد هو "أب".
هذا التحليل البنيوي قاد دو سوسير إلى الاقتناع بأن اللسانيات ليست في حاجة إلى نظرية حول المتكلم أو حول وضعية التواصل من أجل تحديد النسق الذي يجعل اللغة بنية دالة. لذلك ظلت لسانيات دو سوسير لسانيات للكلمة. وهي لسانيات ليس من شأنها أن تساعد على استكشاف حقل الدلالة الذي يقتضي بالضرورة ارتياد عالم الجملة.
هذا ما أدى إلى ظهور مدارس لسانية أخرى حاولت أن تتجاوز لسانيات الكلمة لتؤسس لسانيات للجملة، وقد تمثلت في النظرية التوزيعية على يد هاريس، والنظرية التوليدية على يد تشومسكي.
تأثر أعلام التوزيعية (بلومفيلد وهاريس) بالمدرسة السلوكية التي سادت بأمريكا خلال العشرينات من القرن الماضي. وهيمنت التوزيعية على حقل الدراسة اللسانية بالولايات المتحدة الأمريكية منذ العشرينات حتى سنوات 1950. وينطلق التوزيعيون من الاعتقاد بأن اللغة، كأي سلوك، تخضع لقاعدة المنبه والاستجابة. معنى ذلك أن كلمة ما تستدعي تلقائيا كلمات أخرى معينة، ولا تستدعي غيرها. وقد انطلق هاريس من متن محدد قام بدراسته، وبحث عن هذه المصاحبات التي ترافق كلمة معينة داخل هذا المتن، فتأتي قبلها أو بعدها. وسمى الكلمات التي تصاحب هذه الوحدة اللسانية محيطا لها environnement. ففي جملة مثل "تهور الرجل فارتكب جريمة قتل"، تشكل كلمات "تهور"، "الرجل"، "جريمة"، "قتل"، محيطا للوحدة اللسانية "ارتكب". ثم بعد ذلك تحدث عن الامتداد expansion، ويقصد به مجموع الكلمات التي يمكن أن تعوض كلمة ما ضمن هذا المحيط. فامتداد كلمة "تهور" يتكون من "غضب"، "انفعل"، "اندفع"...أو "عاد"، "وصل"، "استيقظ"، ولكن لا يمكن لهذا الامتداد أن يتضمن كلمات مثل "مات"، "نام" ...الخ. وامتداد كلمة "الرجل" يمكن أن يتشكل من "الشاب"، "قائد الغزاة"، "المجرم"... ولا يحتمل كلمات أخرى مثل "النبي"، "المصلح"، "الرضيع"... وكذلك امتداد كلمة "جريمة" يمكن أن يتشكل من "خطيئة"، "ذنب"، "مخالفة"...الخ، ولكن لا يمكن أن يحتوي على كلمات "خير"، "حسنة"، "عمل بطولي"... بعد ذلك تحدث هاريس عن التوزيع distribution. إن توزيع كلمة ما هو مجموع الكلمات التي يمكن أن تشكل محيطا لها داخل المتن. فمحيط كلمة "ارتكب" في مثالنا هو: تهور، غضب، انفعل، اندفع، عاد، وصل، استيقظ...؛ الشاب، قائد الغزاة، المجرم...؛ جريمة، خطيئة، ذنب، مخالفة... وهناك عدد هائل من الكلمات داخل المتن المدروس لا يمكن أن تدخل ضمن هذا التوزيع الخاص بكلمة "ارتكب".
ورغم إعجاب تشومسكي، وهو تلميذ هاريس، بدقة هذا التحليل، إلا أنه رفض اشتغاله على متن محدود. فاللغة في نظره عدد لانهائي من الجمل. لذلك وضع نصب عينيه البحث عن عدد محدود من القواعد التوليدية والتحويلية التي يمارس بفضلها المتكلم ملكته الإبداعية في ممارسة اللغة. لقد حاول تشومسكي صياغة قواعد توليدية تمكن المتلكم المثالي للغة ما من توليد عدد غير محدود من الجمل، بما في ذلك جمل لم يسبق له أن سمعها. فالقواعد التركيبية التالية يمكن أن تشكل إطارا شكليا لتوليد عدد لا نهائي من الجمل التي تخضع لهذا النموذج التركيبي: الجملة تتكون من مركب اسمي ومركب فعلي؛ والمركب الاسمي يتكون من أداة التعريف واسم؛ أما المركب الفعلي فيتكون من فعل ومن مركب اسمي...الخ. وكمثال على ذلك : "القراءة تفيد الإنسان". (القراءة : مركب اسمي يتكون من أداة تعريف واسم؛ تفيد الإنسان: مركب فعلي يتكون من فعل واسم...الخ). ويمكن للمتكلم أن ينتج عددا لانهائيا من الجمل وفق هذا النموذج . وكذلك بحث تشومسكي عن قواعد تحويلية تمكن هذا المتكلم من تحويل بنية عميقة ما (مسند ومسند إليه) إلى مجموعة من البنى السطحية المختلفة.
وقفت كل هذه المحاولات اللسانية عند حدود الجملة. وبقي الخطاب كملفوظ يعلو على الجملة الواحدة خارج دائرة الاهتمام. وكانت نظرية المنهج الشكلي (التي ظهرت بروسيا ما بين 1915 و 1930) محاولة أولى لدراسة الخطاب الأدبي كوحدة تتجاوز حدود الجملة. وحاولت بدلا من ذلك أن تؤسس دراسة علمية للأدب كنسق مستقل له نظامه الخاص، بهدف استخلاص خصائصه الجوهرية التي تحدد أدبيته.
لقد رصد شكلوفسكي مثلا أثناء حديثه عن بناء القصة القصيرة والرواية مجموعة من الحوافز التي يعتمد عليها المتن الحكائي مثل الاختطاف، التعرف، الزواج... ولاحظ أن المبنى الحكائي يخضع أيضا لأنساق معينة من قبيل التوازي، التضمين، الخلط...الخ.
وشكلت الشعرية البنيوية امتدادا لهذا الاتجاه في دراسة الخطاب الأدبي. ومثلته بشكل واضح مجلة تواصلات Communications في عددها الثامن سنة 1966. وقد افتتح هذا العدد بمقال لرولان بارث تحت عنوان : مدخل للتحليل البنيوي للمحكيات. وفيه يعبر الكاتب عن الطموح لوضع لسانيات للخطاب الحكائي تتوسم خطى اللسانيات البنيوية ، وتتسم مثلها بدرجة من الصرامة المنهجية، فتحدث مثلا عن الوحدات التي يتكون منها المحكي، وعن القواعد المتحكمة في تركيب هذه الوحدات... الخ.
لكن النزعة البنيوية الشكلية الموروثة عن دو سوسير في هذه الدراسات قد جعلتها قاصرة عن وصل الخطاب بمحيطه الاجتماعي وسياقه التاريخي.
وقد حاولت نظرية التلفظ أن تتجاوز المقاربة البنيوية، وأن تنفتح على مقام التواصل وذاتية المتكلم. وذلك على اعتبار أن فهم الكيفية التي تشتغل بها اللغة يستلزم أن نأخذ بعين الاعتبار كل الظواهر المرتبطة بشروط إنتاج الخطاب. إن دلالة الملفوظ لا يمكن إدراكها إلا إذا ربطناه بعوامل خارج لسانية، أي بالمرجع الذي يحيل عليه، وبالمتلفظ الذي أنتجه.
شكلت نظرية التلفظ لدى Benveniste أصلا لهذه الطريقة في مقاربة النشاط اللغوي. لقد عرف التلفظ بأنه تشغيل للغة واستعمال فردي لها في مقام زمني ومكاني خاص، يحمل بالضرورة آثار المتكلم داخل ملفوظه. لذلك أرفق هذا التعريف بنظرية عامة تتعلق بالمشيرات اللسانية التي تعكس آثار المتكلم هاته داخل الملفوظ (ضمائر، صيغ الأفعال، ظروف زمنية ومكانية، أساليب إفـصــاحـيـة modalisateurs). وســمــاها "جــهــازا شــكــليا للتـلفظ". (l’appareil formel de l’énonciation).
يتشكل هذا الجهاز من عناصر لسانية سماها بنفنست ، على غرار Jakobson، بالواصلات embrayeurs، ( أنا، هنا، الآن...) لأنها تصل الملفوظ بمن يتلفظ به، وبزمن ومكان التلفظ، ولا معنى لها خارج المقام الذي استعملت فيه (لا يمكن أن نعرف مرجع الضمير "أنا" أو ظرف المكان "هنا" ما لم تعرف المقام الذي استعملا فيه). ويتضمن هذا الجهاز أيضا صيغا زمنية لا تنفصل عن مقام التلفظ، مثل: "حالا"، "في هذه اللحظة"، "غدا"، "بعد يومين"، "بعد قليل"...؛ وتختلف عن وحدات مثل: "في الليلة التي سبقت ذلك"، "بعد ذلك بأيام"، "قبل ذلك بشهر"...الخ، وهي صيغ تستعمل في الحكي، ولا صلة لها بوضعية التلفظ.
ما سبق يعني في نظر أعلام نظرية التلفظ أن كثيرا من الوحدات اللسانية والجمل لا يمكن فهمها ما لم يتم ربطها بالمقام أو بذاتية المتكلم.
وقد شكلت اللسانيات التداولية امتدادا لنظرية التلفظ وتطورت انطلاقا من أفكار الفلسفة التحليلية الأنجلوسكسونية وخاصة نظرية أفعال الكلام عند كل من جون أوستن John Austin و جون سورل John Searle.
ساهمت هذه النظرية في إبراز الدور الهام الذي يلعبه المقام في تأويل مضمون الملفوظ. تحقق ذلك من خلال التمييز بين الوظائف التي تؤديها اللغة أثناء استعمالها من طرف المتكلم. وهذه الوظائف هي:
- وصف العالم الخارجي بحياد ( مثل قولنا "مجموع زوايا المثلث هو °180 ")؛
- الأفعال الكلامية (أو الأفعال الإنجازية الحرفية) actes illocutoires: وهي الأفعال التي يحقق من خلالها المتكلم فعلا معينا بمجرد النطق بها من قبيل :"أعد"، "أؤكد"، "ألتزم"، "أعلن"... إن مجرد النطق بهذه الأفعال بضمير المتكلم من طرف الشخص الذي يعنيه الأمر في زمن ومكان معينين يدل على أن الفعل المعبر عنه قد تحقق بالفعل. يكفي أن يقول القاضي مثلا: "أعلن عن افتتاح الجلسة" لتكون الجلسة قد افتتحت بالفعل، ولا يمكن أن تفتتح الجلسة فعلا إذا نطق غيره بهذه الجملة. الأفعال الكلامية إذن أفعال لا معنى لها دون ربطها بالمتكلم الذي يلزمه مضمونها.
- الأفعال الإنجازية المستلزمة actes perlocutoires : وهي الجمل التي يعبر من خلالها المتكلم عن قصد يتجاوز دلالتها المباشرة. فجملة مثل "عاد أحمد من السفر" يمكن حسب السياق أن تقصد إلى الاستفزاز أو التهديد أو التبشير... ولا يمكن تحديد المقصود بها دون الرجوع إلى المقام وإلى قصد المتكلم.
لقد انفتحت هذه النظريات على ذاتية المتكلم وعلى الوضعية التواصلية، لكن هذا الانفتاح ظل عند المستوى الفردي، بينما تبين أن إشكالية تحليل الخطاب متصلة بالواقع الاجتماعي التاريخي المركب والبالغ التعقيد.
حل هذه الإشكالية يتجاوز إذن الإطار النظري والتطبيقي للسانيات. وهو ما اقتضى وضع لسانيات للخطاب تتصدى لما يقع خارج اللغة. ولبناء لسانيات الخطاب هاته، اقتضى الأمر الانفتاح على مجالات معرفية أخرى. ويمكن أن نعتبر أن نقطة الانطلاق كانت هي الانفتاح على فكر الفيلسوف الماركسي الفرنسي لوي ألتوسير، وخاصة دعوته إلى تأسيس علم للإيديولوجيا يشكل تحليل الخطاب أحد مكوناته الأساسية.
تحدث ألتوسير، إلى جانب نظرية عامة للإيديولوجيا، عن نظرية للإيديولوجيات الخاصة (وهي الإيديولوجيات التي تتخذ شكلا دينيا، أخلاقيا، قانونيا، سياسيا)، وتعبر عن أوضاع طبقية . لكن ألتوسير لم يشاطر ماركس نظرته الحتمية الميكانيكية للإيديولوجيا كانعكاس مباشر لنمط الإنتاج. إن العلاقة بين الإنسان وشروطه المادية ليست مباشرة، وإنما تتم عبر وساطة الإيديولوجيا. والإيديولوجيا هنا ليست انعكاسا للشروط المادية، ولكنها علاقة زائفة ووهمية بين الناس وشروط وجودهم الحقيقية. وتتجسد هذه العلاقة في ما يسميه ألتوسير "الأجهزة الإيديولوجية للدولة" ( المدرسة ، الجامعة، الأسرة، المؤسسات الأكاديمية والدينية...). وظيفة هذه الأجهزة هي إيهام الفرد أنه ذات حقيقية، إنسان واع وحر في تفكيره وأفعاله، بينما هو في الواقع خاضع لسلطة عليا وحيدة (سياسية، دينية، إدارية). من هنا أصبحت وظيفة نظرية الإيديولوجيا عند ألتوسير هي دراسة التشوهات التي تلحق الواقع عن طريق التمثلات الإيديولوجية. ويرى أن هذه التشوهات خاضعة لبعض الأنساق الثابتة التي يمكن أن ندرك ميكانيزم اشتغالها من خلال تجلياتها الخطابية.
إلا أن لسانيات الخطاب آنذاك كانت عاجزة عن وصف الميكانيزم الذي تشتغل وفقه الإيديولوجيا داخل الخطاب، وهو المشكل الذي حاول كل من Pêcheux و Fuchs حله بالاستفادة من نظريات كل من ألتوسير، لاكان ومن اللسانيات، فحددا الإطار النظري الذي يمكن من معالجة الخطاب ليس كموضوع لساني فقط ، ولكن أيضا كموضوع سوسيو تاريخي. ويتشكل هذا الإطار من المجالات التالية:
- المادية التاريخية كنظرية للتشكلات الاجتماعية وتحولاتها، وكنظرية للإيديولوجيا ( الماركسية)؛
- اللسانيات كنظرية للأنساق التركيبية ولعمليات التلفظ؛
- نظرية الخطاب كنظرية لتحديد الأنساق الدلالية باعتبارها حصيلة للعوامل التاريخية.
إضافة إلى ذلك، أن هذه المجالات الثلاثة تكتمل بنظرية للذاتية ( وهي نظرية ذات طبيعة تحليل- نفسية).
ويرى كل من Pêcheux و Fuchs، على غرار ألتوسير، أن الإيديولوجيا غير واعية بنفسها، وأن الذات الإيديولوجية (المنتجة للخطاب وإديولوجيته) مثل الذات في التحليل النفسي، تعتقد أن خطابها تعبير عن الواقع، وأنها هي أصل المعنى. والحال أن الأمر ليس كذلك حسب Pêcheux، وأن المضمون المباشر للملفوظ ليس سوى مظهر خادع. ومن ثمة فإن مهمة تحليل الخطاب هي نوع من التحليل النفسي للنصوص بهدف الكشف عن الإيديولوجيا اللاواعية المستترة خلف ظواهرها اللسانية (كلمات، جمل، نصوص...). ورغم الطموح الكبير الذي حرك Pêcheux ، فإنه لم يستطع أن يبني منهجا كفيلا بتحقيق هذا الهدف الكبير.
كانت الإيديولوجيا مفهوما مركزيا في تحليل الخطاب خلال سنوات 1960 – 1970. لكن مقولة الإيديولوجيا تراجعت مع بداية الثمانينات، ولم يعد ينظر للخطاب في هذه المرحلة ككل متجانس يعبر عن إيديولوجيا واضحة ومتماسكة، وإنما أضحى ميدانا هجينا غير متجانس تتفاعل فيه أصوات متعددة. هذا التصور فتح المجال أمام مقاربات منفتحة على نظريات أخرى مثل النظرية الحوارية ونظرية تعدد الأصوات عند المنظر الروسي ميخائيل باختين.
استخدم ميخائيل باختين مفهومي الحوارية وتعدد الأصوات في التحليل اللغوي والأدبي. وهما مفهومان ساهما في تجاوز المقاربة الشكلانية التي وقفت عند حدود الملفوظ كوحدة مغلقة، ولعبا دورا هاما في تطوير تحليل الخطاب خلال سنوات 1980.
الحوارية، في نظر باختين، مبدأ متحكم في كل ممارسة لغوية. فبمجرد إنتاج المتكلم لملفوظه، يدخل على الفور في شبكة من علاقات التفاعل التي تسير في اتجاهين:
- اتجاه التفاعل مع ملفوظات أخرى سبق إنتاجها حول نفس الموضوع الذي يتحدث عنه المتكلم. فالكلمات التي يستخدمها سبق استخدامها وشحنها بمدلولات ما من طرف متكلمين سابقين، وهو ما يعني أن المتكلم يستعمل بالضرورة كلمات استعملها غيره وترك فيها أثره.
- اتجاه التفاعل مع مخاطب مفترض. إن كل خطاب يتم إنتاجه يدخل بالضرورة في حوار فعلي أو افتراضي مع مخاطب حاضر أو غائب، وتتم صياغته على ضوء رد فعل لم يتحقق بعد، لكنه متوقع ومرغوب فيه بشكل ما.
لقد لعبت النظرية الحوارية دورا هاما في إزاحة البنيوية الفرنسية المتمركزة حول تحليل الملفوظ، مع إهمال عملية التلفظ والذوات المتلفظة، وفتحت النص على خارجه بأن جعلته يتفاعل مع مخاطب مفترض، وعلى ماضيه بأن جعلته يتفاعل مع الخطابات السابقة.
أما تعدد الأصوات فمبدأ يتحكم في بناء الرواية. وقد استخدمه باختين في دراسته حول شعرية دوستويفسكي، ولم يعد إليه بعد ذلك. لقد رأى باختين أن دوستويفسكي قد ابتكر شكلا روائيا أصيلا هو الرواية المتعددة الأصوات، وهي رواية تحتضن صراعا مستمرا بين أصوات ومواقف شخصيات متناقضة فيما بينها.
وقد استعار أوزفالد دوكرو Oswald Ducrot هذا المفهوم من حقل استعماله في الرواية، وطبقه على الملفوظ. وميز بموجبه بين الفاعل المتكلم sujet parlant ، وهو من يتلفظ فعلا بالكلام، والفاعل المسؤول locuteur، وهو الطرف الذي يتحمل مسؤولية مضمون الملفوظ. إذا قال قائل: "لن يأتي أحمد. قال إنه مريض" فإن هذا المتكلم هو الفاعل المتكلم الذي نطق فعلا بالكلام، ولكنه ليس الفاعل المسؤول، لأنه لا يتحمل مسؤولية المعلومة حول مرض أحمد حيث نسب مسؤولية هذا الكلام لأحمد، فهو من علل غيابه بالمرض. وهكذا يصبح هذا الملفوظ مسكونا بصوتين مختلفين، صوت المتكلم، وصوت أحمد. ولو أن هذا المتكلم قال مثلا: "لن يأتي أحمد. إنه مريض" فإنه سيصبح في هذه الحالة فاعلا متكلما وفاعلا مسؤولا عن مضمون الكلام في نفس الوقت.
نظرية كل من باختين ودوكرو تعنيان أن كل خطاب مركب هجين بالضرورة، لأن الغير يسكنه بشكل أو آخر، وهو ما يشكك ليس فقط في وحدة الملفوظ ككل منسجم، ولكن أيضا في وحدة المتكلم كهوية مستقلة.
تبين من هذا الحديث أن رحلة تحليل الخطاب هي رحلة في سبيل تجاوز حدود الجملة الضيقة، من أجل إدماج الخطاب ضمن سياقه الاجتماعي التاريخي الرحب. وهو مشروع طموح يضع نظريات تحليل الخطاب المتعددة أمام تحد معرفي يفرض على المختصين مزيدا من البحث من أجل بلورة المنهج المناسب القادر على استيعاب العوامل المتشابكة التي تتدخل في تشكيل الخطاب ودلالاته.