إن الحديث عن إرهاصات الفن الغنائي المغربي في علاقته بالمراحل التي مر منها قد يطرح أكثر من سؤال؛ ذلك أن تجذر المجتمع المغربي من خلال المراحل التاريخية التي شكلته لم يجسد تعبيراته الغنائية بالطريقة التي يستحقها وذلك نظرا لعدة عوامل قد يطول الحديث عنها ؛ منها ما هو مرتبط :
- بظروف القهر وانحسار مساحات التعبير.
أو - بظروف التعبيرات الشفوية والفولكلورية التي تلاشت بفعل الإهمال.
أو - بقلة الإمكانيات التقنية المتاحة في مجتمع أمي، قبلي، بعيد عن المركز.
أو- بعوامل ثقافية واجتماعية كانت غير قادرة على مواجهة تحديات الانتقال من مرحلة إلى مرحلة.......إلخ.
إن التعامل الرسمي مع مختلف التعبيرات الفنية المتجسدة في الأهازيج والأغاني الشعبية المغربية منذ مطلع العصر الحديث قد ارتبط أساسا بنوع هذه التعبيرات وتوجهاتها؛ ذلك أن أنواعا منها حظيت بمساحة في التعبير والشيوع والتشجيع، على حساب أخرى كانت أيادي جلية وخفية تحجمها وتتحكم في مساحة تأثيراتها سمعيا وبصريا ينحصر تداولها - بشكل محتشم - في الأماكن النائية : (مرتفعات جبال الريف الوعرة، أو جبال الأطلس الشامخة، أو في بعض المناطق ذات الطبيعة الصحراوية).
غير أن الدارس للتعبيرات الفنية عموما في المغرب والغنائية منها على الخصوص، يلاحظ مدى القمع الذي حوصر به ساكنوه كي لا يتم إبلاغ أصواتهم؛ إذ لم يجدوا المنابر المؤهلة لتشجيعهم على ذلك. وهذا أمر لا يتعلق بالتعبيرات الفنية الجمالية، بقدر ما يتعلق بجميع أنواع التعبيرات السياسية والاجتماعية.
وفي مراحل تاريخية معينة وبحكم انحسار مجال المناورة من طرف السلطة الحاكمة، أتيح فسح مجالات معدودة من أجل إلقاء مشروعية موهومة لمن أراد التعبير عن المجموعة البشرية التي ينتمي إليها. وفي هذه المراحل على قلتها، كانت تظهر تعبيرات غنائية - على اختلافها - بسيطة وخجولة، إلا أن صداها كان يتردد على ألسنة المغاربة قاطبة.
وفي مطلع العصر الحديث ؛ وبحكم الظروف السياسية التي أدخلت المغرب ضمن البلدان التي استهدفها الاستعمار الأوربي، بدأت تتشكل ملامح أغنية مغربية بمواصفات عصرية لقيت استحسان آذان المغاربة الذين كانوا يتلهفون من أجل سماعها على أمواج الأثير، وخصوصا منها ما كان يعبر عن استنهاض الروح الوطنية من أجل مقاومة المستعمر الذي استبد بالبلاد والعباد، واستباح الزرع والضرع.
وبالعودة إلى الريبرتوار الغنائي المغربي، يتضح بجلاء مدى الدور الريادي الذي لعبه المطرب الموهوب، المبدع المحبوب : "الحسين السلاوي" والذي تظافرت عدة عوامل أهلته لاحتلال مكانة مرموقة جعلته يتربع على قلوب المغاربة، وينال قصب السبق من أجل تأسيس أغنية مغربية عصرية، ذات مواصفات فنية تتمثل في صياغة مواضيع نابعة من الواقع الاجتماعي لمغرب يعيش أغلب سكانه ضيقا ماديا، وفراغا عاطفيا بأسلوب قريب من عامة الناس لكنه يتميز بسليقة قادرة على التصوير البلاغي، واختيار ألحان مستقاة من الإيقاعات المغربية الأصيلة، وبراعة في أداء أغانيه بشكل فكاهي ساخر، نتيجة الدربة التي اكتسبها بفضل التحامه بالجماهير الشعبية من خلال ممارسته لفن الحلقة عبر رحلاته إلى مختلف المدن المغربية المحافظة على هذا التراث الشفهي ك : مراكش والدار البيضاء وسلا... وهذا ما أهله لاحتلال مرتبة الريادة في تدشين عهد جديد للأغنية المغربية الأصيلة ذات طابع متميز خاص انتشى بأنغامها ومواضيعها وطريقة أدائها كل المغاربة قاطبة أينما كانوا في السهول أو الجبال، في القرى النائية أو في الحواضر الدانية.
وكان أول عمل غنائي شد إليه الأنظار في مغرب فقير فاقد لسلطة تقرير مصيره وهو يرزح تحت نير الاستعمار، هي أغنيته : "با سيدي با" التي تم تسجيلها سنة 1941 بفرنسا، لتنطلق بعد ذلك موجة أغانيه الأولى لفتت الأنظار والتي أطلقها هذا المبدع الموهوب من خلال تسجيلها بباريس باستوديو باركوني المعروفة الآن ب : "Vision" ومن بين أغاني هذه الموجة :
"الكاس حلو"، "أراسي وما داز عليك وباقي" ، "احض راسك لا يفوزو بك القومان يا فلان"، "يا موجة غني"، "الماركان".
وتعد سنة 1942 سنة فارقة في المسار الفني للحسين السلاوي، إذ سيرحل إلى عاصمة الفن والأدب، والفكر والطرب، مدينة الأنوار: "باريس" ليؤسس بها أول فرقة موسيقية عرفتها الأغنية المغربية بطريقة عصرية تضم عازفين مهرة على آلات ما اعتادت أذان المغاربة على سماعها، كآلة البيانو والقيثار والكلارينيت وغيرها.
وهنا ستبدأ مرحلة تأصيل الأغنية المغربية وفق أطر مرجعية حديثة، بالاعتماد على فرقة موسيقية قارة تضم تختا يردد لازمات أغانيه التي بدأ يصيغها بالاعتماد على أحداث انسجام ما بين الألوان الموسيقية ، فبدأت محاولاته الأولى للمزج بين فن الشكوري ومقامات الموسيقى الأندلسية، مع التنويع في الإيقاعات الفولكلورية المغربية المعروفة في الأهازيج الشعبية كفن الطقطوقة الجبلية وفن الملحون وفن العيطة ...إلخ.
وكانت هذه الفترة هي التي شهدت غزارة في إنتاج الفنان الحسين السلاوي، حيث أنتج أكثر من خمس وأربعين أغنية تم تسجيلها بمقر شركة "باركوني" الفرنسية المعروف حاليا ب "شركة فيزيون Vision.
وأغلب ما يميز أغنية الحسين السلاوي ؛ طريقة صياغتها الفنية، حيث يستهلها ب : الموال، لينتقل بعد ذلك إلى موضوع الأغنية مع ما يتخللها من رباعيات يرددها تخت الفرقة الموسيقية، مع الإشارة إلى طابع التنويع في مواضيع أغنيته التي طغى عليها معالجة الظواهر الاجتماعية التي أصبحت تطبع حياة المغاربة، والتغني بالهموم الوطنية وما ترسب في الوجدان الجمعي لمعاناة المغاربة من آفات الفقر والجهل والبداوة. وكانت آخر أغنية له توج بها مساره الفني وحياته القصيرة : "يا غريب ليك الله" ، التي طرح فيها آلام معاناته مع المرض الذي استبد بالذات وهو في أوج عطائه الفني مبعد غريب في بيئة غير رحيمة (فرنسا)، حيث أسلم وجهه إلى باريها بعد أن دارت عليه الدوائر واستبد به المرض اللعين.
وفي تواز مع هذا الدور الريادي للحسين السلاوي في تأسيس أغنية مغربية أصيلة، ظهرت التجربة الطربية لأحد رموز الأغنية العصرية، ولرائد من روادها الذين بوأوها مكانة مرموقة داخل المغرب وخارجه، إنها تجربة السي محمد فويتح والتي لم تنطلق من فراغ أو بمحض الصدفة، بل تفتقت موهبته التي صقلها بالبحث الموسيقي الأكاديمي حينما انتسب إلى المعهد الموسيقي الإيطالي الذي تأسس بمدينة العلم والعرفان، والسماحة وتاريخ الأديان : فاس العامرة.
إن المتتبع للمسار الفني الذي تدرجت فيه الأغنية المغربية بتعاقب الأحقاب والأزمنة، ليلاحظ أنه انبثق من الإيمان العميق للمغاربة قاطبة بضرورة تحرير أرضهم المسلوبة، ومن ثم يمكن القول : إن أهم اتجاه استهوى المبدعين الموسيقيين المغاربة قبل فجر الاستقلال بقليل، هو : الأغنية الوطنية :
لقد أصبحت الأغنية المغربية العصرية المنبثقة من هذا الاتجاه الوطني، متنفسا لإفراغ ما كانت تلهج به نفوس المغاربة من التحرر، وتحدي القهر والظلم والتهميش الذي تربع على أنفاسهم لعقود من الزمن الاستعماري البغيض. ومن ثم تأسست قناعة راسخة لدى مبدعي هذه الأغنية الوطنية، من أجل فتح آفاق رحبة راحوا من خلالها يسمعون أغانيهم الشعبية المعبرة عن مشاعر الانعتاق لأصحاب الضمائر الحية المؤازرة لحرية الانطلاق نحو استنشاق خالص الهواء، والتملي بسحر حرية الأجواء. فانطلقت حناجر أعذب الأصوات ومقامات أحلى الألحان لتترنم بأشعار الوطنيين الأحرار، وأزجال صانعي الكلام المرصع لتحفر مجاري فنية في وجدان المغاربة قاطبة.
ويعتبر محمد فويتح "من متزعمي هذا الاتجاه حين وظف حادث نفي "محمد الخامس" الملك الشرعي للبلاد من طرف المستعمر الغاشم وفرض إقامته الجبرية بجزيرة "مدغشقر" سنة 1953، ونسج من هذا الحدث أغنيته التي كانت تلهج بها ألسنة المغاربة كافة وهي : "أو مالولو".
ثم كان لعميد الموسيقيين المغاربة - بعد ذلك- الملحن والمطرب الموهوب الذي تربع على رئاسة الجوق الوطني : "أحمد البيضاوي" إسهاما واضحا في اختيار القصائد الوطنية لأشهر الشعراء المغاربة، وأكثرهم حضورا في المناسبات الوطنية، وترجمتها عبر ألحانه الرنانة إلى أغاني ردد صداها ألسنة المغاربة لعقود من الزمن ليست باليسيرة. ويكفي أن نذكر منها على سبيل المثال : "يا صاحب الصولة والصولجان" وهي أغنية يجسد فيها ما كان يتمتع به السلطان "محمد الخامس" من حظوة وقدر وجلال لدى المغاربة قاطبة، ومنها كذلك "عدت يا خير إمام"، وهذا ما سيفسح المجال لاحقا لرواد الأغنية المغربية بعد ذلك لزرع هذه الروح الوطنية في نفوس المغاربة الأحرار الذين شمروا على سواعدهم من أجل بناء صرح الوطن بجهودهم المضنية، وتعلقهم الفطري برموز السيادة الوطنية ، حيث كانت تخصص مناسبات أعياد "العرش" و "الاستقلال" لإشادة المطربين بما تحقق من مشاريع ومنجزات في العهد الحسني.
وبفعل التشجيع المتواصل من طرف وزارة الداخلية التي كانت مهيمنة على الحقل الإعلامي : السمعي -البصري، ستظهر على السطح توجهات رسمية لإغراء مجموعة من المطربين الذين احتلوا الساحة الغنائية بسهولة - وذلك بأعمال طربية خصصت لها أموال طائلة لتمجيد ما تم تحقيقه من أوهام في المرحلة الحسنية .
وما أغنية : "حبيب الجماهير" لعبد الوهاب الدكالي إلا وجه من الصورة كانت تبثها الإذاعة الوطنية على أمواج الأثير في كل آن وحين حتى أصابت آذان المغاربة بالوقر لكثرة ما كانوا يستمعون إليها مكرهين.
الأغنية الاجتماعية : وبعد هذا الاتجاه الوطني الذي عمق إحساس المغاربة بارتباطهم بوطنهم، وتعلقهم برموزه المشعة، سيتجه الريبرتوار الغنائي المغربي للتركيز على الجانب الاجتماعي الذي وجد تربة خصبة في مغرب ما بعد الاستقلال.
ففي ظل مغرب ناهض جديد العهد بامتلاك سلطة تقرير مصيره لبناء مجتمع يحلم بتحقيق شروط العيش الكريم ، وطي صفحاته السوداء التي دونها الاستعمار الغاشم الذي أناخ بكلكله على قلوب المغاربة لعقود من الزمن، بدأت تباشير فن غنائي سعى أصحابه إلى التنفيس عن الآلام وصور المعاناة ، والاستمتاع بتزجية وقت الفراغ عبر الانتشاء بطرب خفيف على الأسماع، بسيط في طرحه للقضايا الاجتماعية التي أصبحت تشغل بال الشبان والشابات من الرعيل الذي فتقت أكمامه في بداية الاستقلال.
والظاهرة اللافتة للانتباه هنا أن الأغنية المغربية بدأت تقوم بوظيفة اجتماعية عن طريق إثارة مجموعة من المواضيع ذات الحمولة الاجتماعية الهادفة إلى نشدان نسيج اجتماعي خال من السلبيات التي تعوق نموه وتطوره، وتساعده على الالتحام والتآزر والتآخي، فانبرى جيل من المطربين المجبولين على الصدح بحناجرهم التي حباها الله بطاقات تعبيرية هائلة لإدانة مشاعر البغضاء والكراهية، والحث على القيم النبيلة كالصفاء في المعاملات ، والطهارة في المشاعر ونبذ الأنانية والمصالح الضيقة، والحض على استنبات تيمة الحب بمعناه الواسع النبيل والإخلاص له والوفاء به وصون وشائجه لدرجة التفاني فيه.
وقد اضطلع بأداء هذه الوظائف مجموعة كبيرة من رواد الأغنية المغربية بدءا بالمطرب والعازف والملحن الذي تربع على عرش قلوب المغاربة الأحرار لزمن طويل ؛ الفنان الموهوب محمد فويتح، الذي شنف الآذان بروائع من باقات أغانيه التي ظلت راسخة في الوجدان الجمعي للشعب المغربي الأصيل، مثل : "الحبيب الحبيب" "آيلي حياني" "علاش يا عيوني" "ما بيني وبينو والو" "لشقر" "نحبو بلا خبارو" "توبة يا قلبي" وغيرها كثير يشهد عليها ريبرتواره الغنائي الذي يربو على ثلاثمائة أغنية.
مرورا بالرعيل الأول من المطربين المؤسسين لملامح الأغنية المغربية العصرية، والذين بصموا إبداعاتهم بطاقات تعبيرية غنية بألحان شجية استمرت لعقود طويلة في وشم ذاكرة المغاربة التي لا تزال تحن إلى ترديد كلماتها وأنغامها؛ كالمعطي بلقاسم : المطرب الموهوب، والشاب اليافع الوسيم، ذو الحنجرة الجهورية، والأنامل الذهبية الرشيقة التي كانت تستل أنغاما ومقامات على أوتار آلة العود الأصيلة، يتغنى بما توحي إليه الأيائل والغزلان من حسناوات بنات شعبه اللواتي كن يتطلعن إلى الارتقاء الاجتماعي بفعل التربية والتكوين والإقبال على التعلم والمشاركة في صنع الغد الأفضل في المدن المغربية العتيقة، كفاس ومراكش والرباط وسلا وطنجة وتطوان... وما أغانيه : "يا بنت المدينة" "وعلاش يا غزالي" "يا المسرارة" "أيام الربيع" "الحبيب اللي ما نويتو يغدر" "كان قلبي خالي" "كان يحن علي" "يا الكاويني" ... وغيرها سوى وجه من الصورة على هذا النموذج الغنائي الذي استهوى المغاربة قاطبة حينما كانوا يستصيخون السمح إليها عبر الأثير كلما بثتها الإذاعة الوطنية من حين لآخر.
ثم اسماعيل أحمد، أحد أمهر العازفين على آلة الكمان بالجوق الوطني ، والذي مزج بين الزجل والشعر الفصيح لأبرز الكتاب والشعراء، وتفنن في أداء أغانيه بما حباه الله من حنجرة قل نظيرها مستعينا بمقامات وألحان مجموعة كبيرة من الموهوبين الذين أثروا خزانة الأغنية المغربية بروائعهم الخالدة ك : "حبيبي لما عاد" و "بين الضلوع" و "لو قلت" " و"اذكري" و "محمد صاحب الشفاعة" و "والله ما نخون العهد" و "عاوني نساك" و "يا الناسيني" و "آش داني" و "أنا وحبيبي" و "قولولو"...إلى غيرها من أغانيه التي فاقت أربعمئة أغنية محفوظة في سجله الغنائي .
ثم انبرى هرم شامخ ذو طابع خاص، وحضور متواتر غطى إبداعيا كل المراحل التي اندرجت فيها الأغنية العصرية المغربية، إنه الموسيقي الأنيق ورئيس جوق الدار البيضاء؛ الفنان إبراهيم العلمي الذي يرجع إليه الفضل في تبسيط الجمل الموسيقية وتقريبها إلى الجمهور العادي الذي أصبح قادرا على التآلف بين الانتقال السريع بين المقامات الموسيقية ، وما توحي إليه مضامينها من قدرة على استقراء ملامح الجمال الحسي، سواء في البيئة الطبيعية أو الإنسانية . لقد متح هذا الفنان المقتدر أغانيه، واستل ألحانه من منبع الجوهر الإنساني، وأثرى الريبرتوار الغنائي المغربي بروائع مثل : "هادا شحال" و"يالي صورتك بين عينيا" و "خليني بعيد خليني" و "يا الناسي" و"مساك مساك" و "دوب يا قلبي دوب" و "شحال ما سولتي فيا" و " والله يسامحك " وغيرها كثير مما لا يزال يترنم به المغاربة إلى يومنا هذا،. ويكفي أن نذكر أغنيته التي جسدت ملامح الجمال الطبيعي لمدينة إفران والتي لا تزال تلهج بها الألسن بعد مضي عقود طويلة من الزمن ، ألا وهي أغنية : "محلا يفران و محلا جمالو" .
ويمكن أن نكتفي في هذا الإطار بذكر مجموعة من المطربين الذين ينتمون إلى هذا الرعيل المؤسس للأغنية المغربية ذات الإيقاعات الأصيلة والأنغام المعبرة والكلمات الموحية أمثال : أحمد الغرباوي الذي اشتهر بمواويله ، وفتح الله المغاري المعروف بإيقاعاته الصوفية ، ومحمد المزكلدي والطاهر جيمي ومحمد علي وسعاد محمد وبهيجة ادريس واللائحة طويلة .
لقد أصبح تراث هذا الرعيل من المطربين والمطربات المغاربة موشوما في الوجدان الجمعي للمغاربة قاطبة لما يتميز به من شذى الألحان وسحر وبيان العامية والفصحى معا، وهو تراث زاخر بالأنغام المنسابة والألحان المنساقة لامثال : عبد الرحيم السقاط وعبد النبي الجراري ومحمد بن عبد السلام وعبد القادر الراشدي واحمد البيضاوي وعبد الله عصامي والعربي الكواكبي وحسن القدميري ...وغيرهم كثير. وغني بما كانت توحي إليه أزجال وأشعار أمثال : أحمد الطيب العلج وحسن المفتي وعلي الحداني والمهدي زريوح وفتح الله المغاري ، وادريس الجاي ومحمد الطنجاوي وحسن المفتي وعبد الرفيع الجواهري ووجيه فهمي صلاح... وغيرهم ممن أغنوا الريبرتوار الغنائي المغربي طيلة عقود من الزمن الجميل الواعد.
وبعد هذه المرحلة، شاءت الظروف الرحيمة أن تتهيأ لنخبة من المبدعين المغاربة المفطورين على تعميق الإحساس النبيل، والغوص في استلهام ما يغذي وجدان المغاربة المجبولين على الإنصات لسحر الأغاني الأصيلة، كلمة ولحنا وأصواتا، فبرز جيل الفنان المقتدر : "عبد السلام عامر" الذي استطاع بوعيه الفني الرفيع أن يحفر مجاري الإبداع اللحني المفصل على نمادج من القول الشعري الرصين للشاعر المبدع "عبد الرفيع الجواهري" ، فتم نحت الروائع المغربية التي انتشرت في ربوع المملكة وخارجها، ولهجت بها ألسنة عموم المغاربة فتيانا وكهولا ، شبانا وشيوخا، وما رائعته "القمر الأحمر" سوى البداية الفعلية لهذا المنحنى في تشكيل الرؤى والأماني على أقيسة نغمية محبوكة بإتقان ومعرفة فنية رفيعة.
ثم تلتها عيون الأغاني المغربية الرائعة لجيل ناهض معبر فنان كـ : "رموش" و "راحلة" و "أشواق" و "ميعاد" و "حسبتك"... وغيرها كثير مما لا يزال خالدا في الذاكرة ومحفورا في وجدان المغاربة. وقد تظافرت مجموعة من العوامل التي أدت إلى انتشار هذه الأغاني انتشار النار في الهشيم، ولعل من بين أهمها : قدرة الطاقة الصوتية لحنجرتين كان لصاحبهما حضور فاعل في تطور الفن الموسيقي بعد ذلك ؛ إنهما الفنان المطربان : "عبد الهادي بلخياط" و "محمد الحياني" .
وفي تواز معهما، اختار المبدع - فريد عصره - عبد السلام عامر صوتا لا يقل قدرة وتنويعا على تفجير طاقاته الصوتية، ألا وهو الذي تقلد فيما بعد منصب : عميد الموسيقى المغربية : عبد الوهاب الدكالي الذي أسند إليه أداء مجموعة من روائعه الغنائية، وما أغنية: "لا تتركيني" إلا نموذج بالغ الدلالة على ما وصلت إليه الأغنية المغربية على يد هؤلاء المبدعين.
وظل هؤلاء الفرسان الثلاثة : "بلخياط والحياني والدكالي" يتربعون على عرش الأغنية المغربية العصرية ردحا من الزمن إلى أن أطلت بشائر جيل جديد انتقل بالأغنية المغربية لارتياد آفاق أخرى مخالفة .
وبالإضافة إلى هؤلاء الفرسان الثلاثة الذين احتلوا مراكز الصدارة من حيث الذيوع والانتشار، يجب الإقرار بحضور أصوات أخرى احتلت مكانتها بجدارة واستحقاق، إلا أن تواتر إنتاجها كان ينقصه الدعم اللازم، ومن بين هؤلاء المطربين على سبيل الذكر لا الحصر: محمد علي وسعاد محمد وعبد الحي الصقلي وعبد المنعم الجامعي ...وغيرهم كثير.
وقد تظافرت عدة عوامل لاكتساح هؤلاء الساحة الغنائية، ومنها :
- اختيار الكلمات الموحية المطهرة من صدإ الاستعمال الشائع.
- استقطاب أمهر الملحنين الذين تمرسوا بصياغة القوالب الموسيقية الصافية، وحسن توظيف الإيقاعات المغربية الأصيلة.
- استغلال مواهب العازفين المهرة المجبولين على انطاق آلاتهم الموسيقية بأحلى الأنغام والألحان. ويكفي فقط ذكر أسماء : صالح الشرقي على آلة القانون ، وعمر الطنطاوي على آلة العود، وبناني السميرس على آلة الكمان والذين برعوا في تشنيف آذان المغاربة بمعزوفاتهم وتقاسيمهم التي لا تزال راسخة في أذهانهم إلى اليوم.
على أنه، وبفعل الدور الذي أصبحت تضطلع به الثقافة الموسيقية المتمثلة في إنشاء بعض المعاهد الموسيقية، والحث على إشاعة هذا الفن النبيل من أجل صقل مواهب الناشئة بالدراسة والتكوين، والبحث والتنقيب، بدأت تتسع القاعدة الجماهيرية لهذا الفن وذلك بإنشاء النواة الأولى لمعاهد موسيقية في تطوان وطنجة ووجدة ومكناس ومراكش التي بدأت تعطي أكلها وتكمل الدور الريادي الذي لعبته معاهد الرباط والدار البيضاء وفاس. وهذا ما ساعد على تبني الأسر المغربية لطموح أبنائها وبناتها الذين انتسبوا لهذه المعاهد، وانخرطوا في برامج تكوينها، وهذا ما سيساهم في إغناء الساحة الفنية كما وكيفا بفضل خريجي هذه المعاهد.
وفي هذه المرحلة، يجب الإشادة بالدور الذي لعبه الملحن المقتدر، والموسيقي الموهوب، وأستاذ الأجيال : "عبد النبي الجراري" من خلال إعداد برنامج "مواهب" الذي كانت تبثه التلفزة المغربية من دار البريهي أسبوعيا مساء كل سبت، والذي يرجع إليه الفضل في اكتشاف وصقل وتوجيه أصوات مطربين ومطربات ستسطع نجومهم فيما بعد، وسيبوئون الأغنية المغربية مكانة مرموقة في العالم العربي، كما سيحملون على عاتقهم حمل مشعل هذا الفن، لإضاءة مسارب ودروبا ما كان عهدها من قبل أمثال : نعيمة سميح، وسميرة بنسعيد، ورجاء بلمليح، وعزيزة جلال وآمال القادري وغيثة بن عبد السلام وآخرون من الأصوات النسائية. وأمثال : محمود الادريسي وعبد المنعم الجامعي وعماد بلكبير ومحمد الغاوي على سبيل المثال من الأصوات الذكورية.
الأغنية الجماهيرية :
وبعد مرحلة النضج هاته، التي عرفها مسار الأغنية المغربية، سيتجه الريبرتوار الغنائي للتركيز على الجانب الاجتماعي الذي وجد تربة خصبة في مغرب ما بعد الاستقلال، بحكم ما يعيشه المغاربة من ظروف سياسية عصيبة في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، وهذا ما أدى إلى بروز جيل جديد يحمل هموم تغيير الأوضاع الاجتماعية التي ساءت بفعل تبخر أحلام الاستقلال. ومن ثم ستظهر تعبيرات موسيقية أصيلة، بمواصفات جديدة، اضطلع بها شبان كانوا في أغلبهم منخرطين في حركات أو جمعيات ثقافية، آلوا على أنفسهم إلا أن يجددوا من طرق التعبير الغنائي وأهدافه ووسائله. وهذا ما فسح المجال لظهور مجموعات غنائية لقيت تجاوبا جماهيريا واسعا، وانتشارا غير مسبوق، إذ سرعان ما بدأ الشباب المغربي متلهفا لاقتناء أخبار وجديد هذه المجموعات، وترديد مقاطع أغانيهم التي استهوتهم بأزجالها التراثية الهادفة، وإيقاعاتها الشعبية الراقصة، وأداء أصواتها المؤثرة.
وكان لمجموعة "ناس الغيوان" قصب السبق في صياغة هذا اللون الموسيقي والغنائي الذي استهوى آذان المغاربة شبانا وكهولا وشيوخا، لتظهر بعدها مجموعة : "جيل جيلالة" ثم "المشاهب". لتتناسل فيما بعد مجموعات كثيرة أثرت الريبيرتوار الغنائي المغربي بكم هائل من الأغاني التي لا تزال في وجدان الشعب المغربي قاطبة.
وقد لعبت هذه المجموعات الغنائية -على اختلاف مستوياتها- دورا بارزا في التعبير عن هموم الأوساط الاجتماعية المقهورة والمحرومة والمتطلعة إلى حياة أفضل. وهذا ما أهلها لأن تحتل مكانة مرموقة في الأوساط الجماهيرية : المدينية والريفية على حد سواء.
وفي منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضي، وبفعل الأثر الملموس المجموعات الغنائية في نفوس الشباب المغربي وتجاوبه العميق مع الآفاق الرحبة لمضامين هذه الأغاني، التي بدأت تحفر مجاري عميقة في وعي المغاربة والرفع من المستوى الفني الهادف إلى ضرورة تغيير الأوضاع الاجتماعية وحتى السياسية لخلق ظروف عيش كريمة حرة وديمقراطية؛ هبت القوى الرجعية وبوسائلها الضخمة من أجل وضع حد لانتشار هذه الأغاني الجماهيرية، وتشجيع أخرى لا تمت إليها بصلة، لطمس معالم وآثار الأولى التي بدأت تؤتي ثمارها، وتشجيع لون جديد مغاير لها تماما، ومناقض لوسائلها وأهدافها.
وفي هذا الإطار، نهض مهندس القوى الرجعية -على الصعيد الداخلي- مستغلا هيمنته على وسائل الإعلام السمعية والبصرية لتدشين عهد جديد سيؤدي بالأغنية المغربية إلى الإسفاف والميوعة، والابتذال والخلاعة، ومن أجل هذه الغاية، تم تشجيع أبواق أشباه المطربين والمطربات، وضخ دماء جديدة في دماء شيوخ وشيخات الألوان الشعبية بكل تلويناتها أينما وجدت في سهول عبدة والشاوية وزعير، وفوق جبال الأطلس الكبير والصغير.
ومن أجل رهن آذان المغاربة بسماع هذه الألوان الموسيقية، وخصوصا الرديئة منها، بدأت عملية إحياء سهرات أسبوعية تبثها الإذاعة والتلفزة المغربية، وتنظيم حفلات مناسباتية، ومهرجانات موسمية تستلمح الضرب على الطبل، والنفخ في المزمار، مبشرة بعهد جديد من الأوهام، وبأعوام سمان من الأباطيل والبهتان.
وبهذه الطريقة تم الإجهاز على المسار الذي قطعته الأغنية المغربية الأصيلة التي كانت تسعى إلى الرقي بذوق المتلقي، واستجلاء مكامن الجمال في سحر الكلمة وصفاء اللحن وحسن الأداء، لتبدأ مرحلة طويلة من الركود والإسفاف والميوعة بسبب استقطاب أشباه المطربين والملحنين وكتاب الكلمات الذين يتحملون قسطا كبيرا من المسؤولية في انحراف الأغنية المغربية عن وظائفها السامية، والزيغ بها عن أهدافها النبيلة. وبذلك بدأ مسلسل إخلاف الأغنية المغربية لموعدها مع التاريخ.