تميزت سنة 2013 بصدور كتاب “الرأسمال في القرن الواحد والعشرين” لصاحبه الشاب ( من مواليد 1971 ) طوماس بيكيتي المفكر الاقتصادي الفرنسي الذي يشغل حاليا منصب مدير الدروس بمدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية. حظي هذا الكتاب باهتمام القراء بمختلف توجهاتهم نخص منهم بالذكر روسل جاكوبي الأستاذ في علم التاريخ بجامعة كاليفورنيا في شيغاغو والمعروف بكتابه الصادر سنة 1987 حول “المثقفين الأواخر”. يظهر من خلال قراءته للكتاب المنشورة في Le Monde Diplomatique (غشت 2014)، والتي نقدم فيما يلي ترجمتها للغة العربية، أن روسل جاكوبي اهتدى الى المقارنة بين بيكيتي وماركس استجابة الى وحدة الموضوع دون اغفال الاشارة الى نقاط الاختلاف بين الكاتبين. يفسر النجاح الذي لاقاه كتاب بيكيتي في أمريكا بكونه يتطرق لتفشي واستفحال التفاوتات الطبقية في البلدان الغربية بشكل يدعو للأستنكار. فإذا كان ماركس قد اقترح ثورة اجتماعية من شأنها تغيير العالم نجد بيكيتي يتصور أن الحل يتمثل في فرض ضريبة عالمية على الرأسمال.
يعتبر كتاب “الرسمال في القرن الواحد والعشرين” (Seuil) حدثا سوسيولوجيا أكثر منه حدثا ثقافيا. إنه يبلور روح عصرنا مثلما صنع، في أوانه، كتاب آلن بلوم: The closing of the American Mind . هذا الكتاب الذي فضح الدراسات حول النساء، الجندر والأقليات داخل الجامعات الأمريكية، يقابل ” رداءة ” النسبية الثقافية ب “البحث عن “الجودة” المقترنة، في ذهن بلوم، بالكلاسيكيات الإغريقية والرومانية. رغم قلة عدد قرائه (كان مفخما بشكا خاص)، فقد غذى الاحساس بتدمير النظام التربوي الأمريكي، بتدمير أمريكا نفسها، بسبب خطأ ارتكبه تقدميو اليسار. يندرج “الرأسمال في القرن 21” ضمن نفس السجل القلق على اعتبار أن بيكيتي يتحدر من اليسار وأن المجابهة انتقلت من التربية إلى المجال الاقتصادي. حتى في مجال التعليم، يتمحور النقاش من الآن حول ثقل المديونية الطلابية وحول الحواجز التي تفسر التفاوتات الدراسية.
هكذا جاء الكتاب ليترجم قلقا ملموسا :المجتمع الأمريكي، كسائر المجتمعات، أصبح أكثر ظلما وجورا. فالتفاوتات تتفاقم وتنذر بمستقبل مظلم: كان يجب عنونة الكتاب ب”التفاوتات في القرن 21″ بدل العنوان الأصلي..
سوف يكون من غير المجدي توجيه النقد لبيكيتي نظرا لفشله في تحقيق أهداف ليست أهدافه. مع ذلك، يمكن أن نكتفي بأن نضفرله اكليلا من الغار. كثير من المعلقين أبانوا عن اهتمام بعلاقته بكارل ماركس، بما يدين به إلى الخيانات التي اقترفها في خقه، هذا بينما كان ينبعي بالأحرى التساؤل عما إذا كان الكتاب يسلط الضوء على بؤسنا الراهن. وفي نفس الوقت، إذا تعلق الأمر بهم المساواة، لن يكون غير مجد العودة الى ماركس.بالمقارنة بين هذين الكاتبين، نلاحظ بالفعل تباعدا بينهما: كلاهما يرفض التفاوتات الاقتصادية، إلا أنهما يجترحان توجهات متقابلة. يدرج بيكيتي أقواله في مجال الأجور، المداخيل والثروة: فهو يتمنى القضاء على التفاوتات الصارخة وامدادنا – في محاكاة لشعار “ربيع براغ”- ب”رأسمالية ذات وجه انساني”. على العكس من ذلك، يتموقع ماركس في مجال السلع، الشغل والاستلاب: كان يريد القضاء على هذه العلاقات وتغيير المجتمع.
يصوغ بكيتي صك اتهام قاسيا ضد التفاوتات: “آن الأوان – كما يكتب في المقدمة – أن نضع مسألة التفاوتات في قلب التحليل الاقتصادي”. لقد بوأ الجملة الثانية من “إعلان حقوق الإسان والمواطن لعام 1789” “التمايزات الاجتماعية لا يمكن لها أن تقوم سوى على المنفعة العامة” ) مكانة بارزة في كتابه. ( نتساءل من جهة أخرى عن سبب إغفال كتاب مطنب لذكر الجملة الأولى: “يولد الناس أحرارا وسواسية وييبقون كذلك أمام القانون”.) استنادا الى كم كبير من الأرقام والجداول، يبرهن على أن التفاوتات الاقتصادية في تزايد وأن الأكثر غنى يستحوذون على الجزءالأكبر من الثروة.
ضرب بيكيتي بقوة وعن حق عندما تناول احتداد التباينات التي شوهت (وجه) المجتمع، الأمريكي بالخصوص. لاحظ مثلا أنه يجب على التربية أن تكون متاحة بالتساوي للجميع وأن تساعد على الاستقرار الاجتماعي. غير أن ” الدخل (السنوي) المتوسط لآباء طلبة هارفارد يصل حاليا الى مبلغ 000 450 دولار”، الشيء الذي يجعلهم يصنفون ضمن ال 2 % من العائلات الأمريكية الأكثر ثراء. إلى ذلك، يختم حجاجه بهذا التلميح المتميز : “المفارقة بين الخطاب الأهلقراطي الرسمي ( القائل بتراتبية اجتماعية مبنية على أساس الأهلية الفردية) وبين الواقع تبدو في حدودها القصوى بشكل خاص”.
بالنسبة لطائفة من اليسار، ليس هناك من جديد. بالنسبة للآخرين، الذين تعبوا من أن نفسر لهم طوال الوقت أنه من المستحيل الزيادة في الأجر الأدنى، أنه لا ينبغي فرض الضريبة على “خالقي مناصب الشغل” وأن المجتمع الأمريكي يبقى من المجتمعات الأكثر انفتاحا في العالم، يمثل بيكيتي حليفا ساقته العناية الالهية. بالفعل، واستنادا الى تقرير ( غير وارد في الكتاب )، غنم مدراء صناديق الاستثمار ال25 الأكثر جزاء في سنة 2013 واحد وعشرين مليار دولار، أي ما يعادل ضعفي مجموع مداخيل مئة وخمسين ألف مدرس في التعليم الأولي بالولايات المتحدة الأمريكية. اذا كانت المكافأة المالية تتناسب مع القيمة الاجتماعية، فان مديرا لصندوق التحوط (hedge fund) يساوي سبعة عشر ألف معلم. كل الآباء (وحتى المدرسون) بمستطاعهم رفض مشاطرة هذا الرأي.
مع ذلك، التركيز الحصري لبيكيتي على التفاوتات يصطدم بحدود نظرية وسياسية. منذ الثورة الفرنسية وحتى الحركة الأمريكية من أجل الحقوق المدنية مرورا بالنزعة الكاريزمية، بالغاء العبودية وبالمناداة بمنح المرأة حق الاقتراع، أثار التطلع الى المساواة العديد من الانتفاضات السياسية. ففي موسوعة المعارصة، يحتل بكل تاكيد المقال المخصص لها مئات الصفحات ويحيل على كل المداخل. لقد أدت ، وستظل تؤدي، دورا ايجابيا أساسيا. اليوم كذلك، تقدم حركة “لنحتل شارع وول ستريت” والحركات التعبوية من أجل الزواج المثلي الدليل على صواب الفكرة.بعيدا عن كونها اختفت، أخذت هذه المطالبة لها نفسا جديدا.
لكن النزعة المساواتية تقتضي قدرا من الاستسلام: هي تقبل المجتمع كما هو، وتسعى فقط الى اعادة التوازن لتقسيم الخيرات والامتيازات. المثليون يريدون الحصول على الحق في التزاوج مثل العاديين تماما. بيد أن هذا لن يمس في شيء مؤسسة الزواج الناقصة التي لايستطيع المجتمع التخلي عنها أو تحسينها.
في سنة 1931، سبق للمؤرخ اليساري الإنجليزي رتشارد هنري تاونر أن شدد على هذه الحدود في كتاب له رافع فيه، اضافة الى ذلك، عن النزعة المساواتية. كتب يقول ان الحركة العمالية تؤمن بامكان (خلق) مجتمع يعطي قيمة أكثر للأشخاص و قيمة أقل للمال. لكن لهذا التوجه حدوده:” في نفس الوقت، تتطلع (المساواتية) ليس الى نظام اجتماعي مختلف، لن يعود فيه المال والسلطة الاقتصادية هما معيار النجاح، بل الى نظام اجتماعي من نفس النمط، تكون فيه “المادة” والسلطة السياسية موزعتين بشكل مختلف قليلا”. هنا نلمس جوهر المسألة. ان نعطي للجميع الحق في التلويث فذلك يمثل تقدما بالنسبة للمساواة، لكنه بدون شك ليس كذلك بالنسبة لكوكب الأرض.
لم يفرد ماركس مكانة للمساواة. فهو لم يسبق له فقط ان اعتبر أن أجور العمال يمكن لها أن ترتفع بطريقة دالة، بل حتى ولو تحقق ذلك، فالمسألة في نظره لا تطرح هنا. الرأسمال هو الذي يفرض اعدادات العمل، ايقاعه وحتى تعريفه، وكل ما هو نافع وغير نافع. لكن في نظام رأسمالي يكتسي أشكالا “ميسورة وليبرالية”، حيث العامل يستطيع العيش أحسن والاستهلاك أكثر لأنه يأخد راتبا محترما، لن يكون الوضع مختلفا على نحو أساسي. ان الزيادة في أجرة العامل لن تغير أبدا من تبعيته، ” فلا تحسين ملبس العبيد ومأكلهم ومعاملتهم والزيادة في تحررهم من شانها الغاء تبعيتهم واستغلالهم. ان الزيادة في الأجرة لن تعني أكثر من كون “اتساع ووزن السلسلة الذهبية التي أللها الأجير ذاته يسمحان بشدها بقوة أقل”.
يمكن دائما الاعتراض بأن هذه الملاحظات النقدية تعود الى القرن التاسع عشر. لكن كان لماركس على الأقل الفضل في التركيز على بنية العمل، بينما بيكيتي لم يقل عنها ولو كلمة واحدة. لا يتعلق الأمر بمعرفة أيهما كان على صواب في موضوع نظام عمل الرأسمالية، بل بادراك قاعدة تحليلاتهم الخاصة: اعادة التوزيع بالنسبة لبيكيتي، الانتاج بالنسبة لماركس. الأول يريد اعادة توزيع ثمار الرأسمالية بطريقة تتقلص معها الهوة بين المداخيل الأكثر ارتفاعا وبين تلك الأكثر هزالة، بينما يتمنى الثاني تغيير الرأسمالية ووضع حد لهيمنتها.
منذ شبابه، واظب ماركس على توثيق بؤس العمال؛ لقد خصص مئات الصفحات من كتاب “الرأسمال” ليوم العمل المرجعي وللانتقادات التي يثيرها. حول هذا الموضوع كذلك، ليس لبيكيتي ما يقوله لكم، حتى وان أتى على ذكر اضراب في بداية فصله الأول. في فهرست الطبعة الفرنسية، عند المدخل، يمكن أن نقرأ : ” انظر ( تقسيم العمل-الرأسمال)”. هذا شيء مفهوم، ما دام أن الكاتب لايهتم بالعمل بحصر المعنى، بل بالتفاوتات الناجمة عن هذا التقسيم.
عند بيكيتي، يختزل العمل على الخصوص في قيمة المداخيل. ان موجات الغضب التي تطفو من حبن لآخر على قلمه تستهدف الأكثر ثراء. هكذا يلاحظ أن ثروة السيدة ليليان ييطونكور، وريثة L’auréal، انتقلت من 4 الى 30 مليار دولار فيما بين 1990 و2010: “ليليان يطونكور لم يسبق لها أبدا أن اشتغلت، لكن هذا لم يمنع ثروثها من أن تزداد بشكل مضبوط بنفس سرعة نمو ثروة بيل غيتس.” هذا الاهتمام الممنوح للأكثر ثراء يتناسب تماما وحساسية عصرنا، هذا بينما ماركس، بتوصيفاته لعمل الخبازين، الغسالين والصباغين المياومين، ينتمي الى الماضي. لقد اختفى المعمل والتجمهر من البلدان الرأسمالية المتقدمة وتكاثرا بالبلدان التي في طريق النمو، من بانغلاديش الى جمهورية الدومينيكان. لكن سبب هجران حجة ما لا يتمثل في كونها قديمة، بينما ماركس، وهو منكب على العمل، يشدد على بعد شبه غائب عن “الرأسمال في القرن الواحد والعشرين”.
يوثق بيكيتي “انفجار” التباينات، خاصة بالولايات المتحدة، وينتقد المفكرين الاقتصاديين المحافظين، الذين يبررون الفروق الكبيرة بين الأجور بالقوى العقلانية للسوق. إنه يسخر من زملائه الأمريكيين، الذين ” لهم في الغالب ميل الى اعتبار اقتصاد الولايات المتحدة بالأولى في صحة جيدة، وأنه بالأخص يكافئ الموهبة والأهلية بدقة ووضوح”. لكن، كما يضيف، لا عجب في ذلك، ما دام هؤلاء المفكرون الاقتصاديون يشكلون هم أنفسهم جزءا من 10% ,وهي نسبة الأكثر غنى. وبما أن عالم المال، الذي يحدث أن يمنحوه خدماتهم، يسحب أجورهم نحو الأعلى، يبدون “ميلا مزعجا الى الدفاع عن مصالحهم الخاصة، وهم يختقون كليا وراء دفاع غير محتمل وراء المصلحة العامة”.
وحتى نأخذ نموذجا غير وارد في كتاب بيكيتي، يسعى مقال منشور في مجلة الجمعية الاقتصادية الأمريكية الى تبيان، استنادا الى أرقام، أن الفروق الكبيرة تتاتى من وقائع اقتصادية.” المداخيل المرتفعة مرتبطة بكفاءات نادرة وفريدة تسمح لأصحابها بأن يفاوضوا على الأجر المرتفع بالنظر الى القيمة المتزايدة لمواهبهم”، كا يستنتج أحد الكتاب، ستيفن ن. كابلان، أستاذ ريادة الأعمال والمال في مدرسة الأعمال (التابعة) لجامعة شيكاغو. من الممكن ان نرى أن كابلان يحتاج الى اضافة الزبدة الى سبانيخه: تخبرنا ملحوظة في أسفل الصفحة بأنه “يقيم في المجلس الاداري لعدة صناديق مشتركة خاصة بالمال الموظف” وأنه كان مستشارا لفائدة شركات رأسمال-استثمار ورأسمال-مجازفة”. ها هو التعليم الانسانوي في القرن الواحد والعشرين! يشرح بيكيتي في بداية كتابه كيف أنه تخلص من أوهامه حول المفكرين الاقتصاديين عن طريق التدريس بمعهد ماساشوستش للتكنولوجيا، وكيف أن زملاءهم في الجامعات الفرنسية يحظون ب”ميزة عالية” تتمثل في أنهم ليسوا أكثر احتراما وأحسن أجورا: هذا ما يجعلهم يتركون أقدامهم على الأرض.
لكن التفسير المضاد الذي يقترحه أقل ما يوصف به أنه تافه: الفوارق الهائلة في المكافآت تنبع من التكنولوجيا،من التربية ومن التقاليد. الأجور “الباهظة” ل”الأطر العليا”، باعتبارها “آلية قوية” لزيادة الفوارق الاقتصادية”، خاصة في الولايات المتحدة، لا يمكن لها ان تفسر ب”المنطق العقلاني للانتاجية”. انها تعكس المعايير الاجتماعية الراهنة، التي ترجع هي نفسها الى سياسات محافظة عدلت من فرض الضريبة على الأكثر ثراء. مدراء المقاولات الكبرى يتلقون أجورا سمينة لأن لديهم امكانية ذلك ولأن المجتمع يحكم على هذه الممارسات بانها مقبولة، على الأقل في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
يقترح ماركس تحليلا مختلفا. فهو يسعى الى البرهنة على التباينات الاقتصادية السحيقة بقدر أقل مما يسعى الى اكتشاف جذورها في التراكم الرأسمالي. أكيد ان بيكيتي شرح كيف تكون هذه التباينات عائدة الى “التناقض الأساسي للرأسمالية”: الانفصال بين معدل ريع الرأسمال وبين معدل النمو الاقتصادي. فبقدر ما يقتفي لزوما الأول أثر الثاني، مفضلا الثروة الموجودة على حساب الشغل، فانه يتأدى الى تباينات “رهيبة” في تقسيم الثروات. سوف يكون ماركس ربما متفقا على هذه النقطة،لكنه، مرة أخرى، يهتم بالشغل، الذي يعتبره موضع أصل وانتشار التباينات. ففي نظره، تراكم الرأسمال تنتج عنه بالضرورة البطالة، الجزئية، الموسمية أوالدائمة. بيد أن هذه الحقائق، يصعب نفي أهميتها في عالمنا الحالي، هي غائبة تماما عن كتاب بيكيتي.
ينطلق ماركس، بالطبع، من قضية أخرى: العمل هو الذي يخلق الثروات. يمكن لهذه الفكرة أن تبدو بالية. ومع ذلك فانها تؤشر على توتر غير معالج في الرأسمالية: هذه الأخيرة محتاجة الى العمل، وفي نفس الوقت، تسعى الى الاستغناء عنه. فبقدر ما يكون العمال ضروريين لتوسعها، بقدر ما تتخلص منهم من أجل التقليص من التكاليف، عن طريق مكننة الانتاج مثلا. درس ماركس مطولا الطريقة التي تنتج بها الرأسمالية “عمالا فائضين من ذوي الاختصاص”. تكتسي هذه السيرورة شكلين أساسيين: اما يتم تسريح العمال، واما التوقف عن ادماج عمال جدد. في المحصلة، تنتج الرأسمالية مستخدمين “jetables” أو جيشا احتياطيا من العاطلين. بقدر ما ينمو الرأسمال والثروة بقدر ما تتفشى البطالة والبطالة المقنعة.
مئات المفكرين الاقتصاديين حاولوا تصحيح وتفنيد هذه التحاليل، لكن فكرة تزايد قوة العمل الفائض تبدو مؤكدة: من مصر الى السلفادور ومن أوربا الى الولايات المتحدة، تعاني غالبية البلدان بدرجات مرتفعة أو حرجة من التشغيل المحدود لليد العاملة ومن البطالة. بعبارة أخرى، الانتاجية الرأسمالية تحجب الاستهلاك الرأسمالي. مهما كانوا مسرفين. لن يصل أبدا المدراء الخمسة والعشرون لصندوق الحوط الى صرف 21 مليار دولار التي تشكل قيمة مكافأتهم السنوية. الرأسمالية مثقلة بما أسماه ماركس ب”أشباح” “الافراط في الانتاج، الافراط في الاستهلاك”. لوحدها فقط، تستطيع الصين بدون شك انتاج ما يكفي من السلع لتغذية السواق الأوربية والأمريكية والافريقية. لكن ما مصير قوة العمل في بقية مناطق العالم؟ الصادرات الصينية من المنسوجات وقطع الأثاث الى أفريقيا جنوب الصحراء تترجم (صيغة المبني للمجهول) بالتقليص من عدد مناصب الشغل بالنسبة للأفارقة. من وجهة نظر الرأسمالية، لدينا هنا جيش في توسع، مكون من مستخدمين بعدد محدود ومن العاطلين الدائمين، تلك تجسيدات للتباينات الراهنة.
وبما أن ماركس وبيكيتي يسيران في اتجاهات مختلفة، فمن المنطقي ان يقترحا حلولا متباينة.يقترح بيكيتي، المشغول بالتخفيف من التفاوتات وباعادة التوزيع على نحو أحسن، فرض ضريبة عالمية وتدريجية على الرأسمال، ولك من أجل “تفادي التباعدات بلا حد (الناتجة) عن التفاوتات المتعلقة بالذمة المالية”. اذا كانت هذه الفكرة، كما يعترف، “طوباوية”،فهو يعتبرها ضرورية ومفيدة.: “يرمي الكثيرون الضريبة على الرأسمال جانبا كما لو كانت وهما خطيرا، مثلما تم رفض الضريبة على الدخل منذ أكثر من قرن تقريبا”.
بالنسبة لماركس، لا يقترح أي حل معقول: الفصل ما قبل الأخير من “الرأسمال” يشير الى “القوى” و”الأهواء” التي تبرز لغاية تحويل الرأسمالية. سوف تدشن الطبقة العاملة عهدا جديدا فيه سيسود “التعاون والملكية المشتركة للأرض ولوسائل الانتاج”. في سنة 2014، يبدو هذا المقترح طوباويا – بل موجبة للابطال، حسب الكيفية التي نؤول بها التجربة السوفياتية.
لا داعي للاختيار بين بيكيتي وماركس. فمن أجل الحديث بطريقة الأول، قد يتعين بالحري توضيح اختلافاتهما. تكتسي نزعة بيكيتي الطوباوية، وهي احدى نقاط قونه، بعدا عمليا، في نطاق استعماله للغة عادية مرتبطة بالضرائب والضبط. انه يعول على تعاون دولي، وحتى على حكومة عالمية، من أجل فرض ضريبة هي أيضا عالمية من شأنها مجانبة “دوامة من التباينات بلا حدود”. انه يقترح حلا ملموسا: رأسمالية على الطريقة السويدية، الذي أبان عن مزاياه في القضاء على التباينات الاقتصادية القصوى. فهو لا يذكر لا قوة العمل الفائض، لا العمل المستلب ولا مجتمعا تحركه النقود والأرباح؛ بالعكس يقبلها ويريد منا القيام بالشء نفسه. بالمقابل، يقدم لنا شيء نعرفه بشكل مسبق: الرأسمالية، بكل ايجابياتها وبأقل قدر من سلبياتها.
في العمق، بيكيتي مفكر اقتصادي تقليدي أكثر مما يعتقد. تتمثل وسيلته الطبيعية في الاحصائيات المتعلقة بمستويات الدخل، بمشاريع فرض الضريبة وباللجان المكلفة بمعالجة هذه المسائل. تتلخص توصياته من أجل تعديل التباينات في سياسات ضريبية مفروضة من أعلى. يظهر بشكل واضح على انه غير مبال بالحركات الاجتماعيةالتي، استطاعت في الماضي وضع التفاوتات موضع تساؤل وسوف تستطيع من جديد لعب دور مماثل.
يبدو كذلك منشغلا أكثر بفشل الدولة في القضاء على التفاوتات. ورغم ذكره بطريقة علمية لكل من Honnoré Balzac و Jane Austen، من كتاب الرواية في القرن التاسع عشر، بقي تعريفه للرأسمالية اقتصاديا واختزاليا. لا يعير ادنى اعتبار للرأسمال الاجتماعي، للموارد الثقافية وللمهارات والملكات المتراكمة التي يستفيد منها الكثر يسرا والتي تيسر النجاح لسلالتهم. ان رأسمالا اجتماعيا محدودا يحكم بالاستبعاد شانه في ذلك شأن رصيد بنكي فارغ. بخصوص هذا الموضوع، ليس لبيكيتي ما يقوله لنا.
ماركس يعطينا في أن واحد أكثر وأقل من ذلك. صك اتهامه، ولو أنه عميق وأكثر شساعة، لا ياتي بأي حل عملي. يمكن نعته بالطوباوي المناهض للطوباوية. في ملحق الطبعة الثانية الألمانية ل”الرأسمال”، يسخر من أولئك الذين يريدون كتابة “وصفات لفائدة مطعم حقير في المستقبل”. وحتى وان انبثقت رؤية من كتاباته الاقتصلدية، فلا علاقة لها تذكر بالنزعة المساواتية. حارب ماركس دائما المساواة البدائية، التي تأمر بالفقر للجميع وب”الرداءة المعممة”. واذا اعترف بقدرة الرأسمالية على انتاج الثروة، فقد رفض سمتها المضادة، التي تخضع مجمل العمل – والمجتمع- للبحث عن الربح. المزيد من المساواة لن يعمل سوى على دمقرطة هذا الشر.
كان ماركس على علم ب”السلسلة الذهبية، لكنه كان يعتقد بأنه من الممكن تكسيرها. ماذا سوف يحدث لو توصلنا الى ذلك؟ الجواب الرائع الذي قدمه ماركس (عن هذا السؤال) يوجد في نص يعود الى شبابه حيث يهاجم هذه السلسلة التي تغطيها “وروده الخيالية”: “النقد أتلف الورود الخيالية التي تزين السلسلة، ليس لكي يحمل الانسان السلسلة بدون حلم وسلوى، لكن من أجل أن يزعزع السلسلة ويقطف الوردة الحية”.