تقديم:
قسمت فرنسا تعليم المرحلة الاستعمارية لإنجاز أهداف، منها نشر الفرنسية، وجعلها لغة العلم والعمل. ولم تستطع سياسات تعريب تعليم ما بعد الاستقلال تصحيح الوضع اللغوي بتمكين العربية في القطاع. سنحاول تبيان أن السبب يتجاوز الاستراتيجيات إلى القرار السياسي، والثورة الثقافية الشاملة، والتفتح الفعلي، وليس الخطط الفرنسية التي تختزل التعدد في الفرنسية والعربية واللهجات (الفصحى، بالمعنى التقليدي، واللهجات العربية والأمازيغية، و الفرنسية لغة التفتح الوحيدة).
2. سياسة فرنسا: التعليم نموذجا
قسمت فرنسا تعليم ما قبل الاستقلال إلى التعليم الإسلامي، والإسلامي الأمازيغي، والإسرائيلي، والأوروبي. وفيما يلي، نفصل بعض مكونات كل تعليم على حدة.1
- التعليم الإسلامي: تضمن المدارس القرآنية، والتعليم الإسلامي، بنوعيه، العالي والعصري، والمدارس الأمازيغية.
كان الفقهاء يدرسون في المساجد الأطفال القرآن. وكان الآباء والمدرسون يشعرون بعدم جدوى هذا التعليم ونفعيته، فحاولوا تجديده بإضافة مقررات مثل التربية الإسلامية والنحو والحساب، كما أخضعوا المدرسين لامتحان العلماء (ouléma). إلا أن ذلك لم يُخرج المساجد من الأزمة.
تمثل التعليم العالي في جامعة القرويين، التي تعد من أقدم الجامعات في المغرب، إذ أُسست حوالي 859. كانت في القرون الوسطى تُدرس الآداب وعلوم الدين والأحكام القضائية والبيولوجيا والرياضيات والمنطق، وكانت تستقطب الطلبة من المنطقة المتوسطية العربية، وأوروبا. ساهمت في تكوين العلماء من كل التخصصات التي كان يعرفها العصر آنذاك. إلا أنها سقطت، بالتدريج، في الاستهلاك العقيم، وقل فيها الإبداع والقدرة على التجريد.
كانت تُدرس، في عهد الحماية، 170 درسا: 60 عربيا-كلاسيكيا يُخصص للألفية والجرومية، في حين يُوجه الباقي للبلاغة والعروض ونظم الشعر والعلوم الأساسية القديمة من تشريع، وعلوم الدين، من خلال كتب مثل المختصر لسيدي الخليل، والموجز وتحفة ابن عاصم. في المقابل، قلت العناية بعلم الفلك، والحساب والتاريخ والجغرافيا والطب. وصار الهدف من التدريس دينيا غير علمي. كما أصبحت الطرق تعتمد على القراءة، وخرج اختيار المقررات من التدرج والتعاقب، وحُوّلت إلى كتب صعبة الفهم، تحتاج إلى تعاليق لتُفهم، والتعاليق نفسها تحتاج لأخرى لكي تُفهم. عاد الحفظ والاستظهار، وانتهاج الطرق المكتبية النمط السائد: غابت التمارين التطبيقية، والتراكيب الشخصية، باعتبارها سيرورات أساسية في اكتساب اللغة.
ومثل التعليم الإسلامي العصري المدارس التي نالت اهتمام الفرنسيين. ففي سنة 1912، وهي السنة التي فُرضت فيها الحماية على المغرب، كلف الجنرال ليوطي لجنة خاصة بهذا التعليم، بهدف جعله يُكون موظفين إداريين على نمط الموظفين الفرنسيين، يتم اختيارهم من النخبة. لقد كان على اللجنة أن تُراعي تصوّر فرنسا لساكنة المغرب المبني على وجود: أولا، الأعيان، وهم الناس الميسورون، وأغنياء المدن، تجاراً وموظفين؛ ثانيا، الحضريون من العمّال والحرفيون والمرؤوسون في قطاع الإدارة والتجارة، ثالثا، القرويون ممن يتعاطون الفلاحة.
لقد كان هذا التقسيم وراء التعليم الطبقي المستمر إلى الآن: مدارس أبناء الأعيان أو الأغنياء، والمدارس العمومية.
أقيم النوع الأول من المدارس (ثانوية مولاي يوسف بالرباط وأخرى بفاس) خصّيصاً لأبناء الأعيان والطبقات الميسورة. واعتمد، في التدريس مناهج متطورة. لُقنت بها قضايا بمجالات حيوية مثل الأبناك والبريد والديوان والضرائب والتجارة. كان الهدف منها تكوين موظفين يشغلون وظائف المخزن القديمة، متفتحين على فرنسا. ولذلك، ضيّقت من حصص العربية: من بين 27 ساعة، خُصص للعربية 9، وللفرنسية 18، واقتصرت العربية على الأقسام الأولى، بينما امتدت الفرنسية إلى الأقسام العالية.
وأما المدارس العمومية، فقد كانت لأبناء الشعب. تلقى التلاميذ في المناطق الحضرية تكوينا مهنيا، و في القرى فلاحيا. خرجت الأولى العمال والموظفين والتقنيين والحرفيين الصغار والثانية الفلاحين التابعين، كذلك.. دُرس فيها القرآن، والعربية، والفرنسية، والفلاحة التطبيقية. إلا أن تعليم هذه المواد كان شكلياً، قُصد منه كسب ثقة المغربي في التعليم الفرنسي. بقيت العربية في إطاره اللغة القديمة المعقدة ذات المعجم المنغلق، والقدرة التعبيرية المحدودة بالنسبة لمستجدات العصر.
التعليم الأمازيغي: رأت فرنسا، حين التفكير في التعليم الأمازيغي أن تعريب الأمازيغيين غير ممكن، اعتباراً منها أن في ذلك طمساُ لحضارتهم، وفيه تعميم للغة العربية، وجعلها لغة التجارة والإدارة عند الأمازيغيين الذين يعتبرونها لغة التفوق والامتياز. ولعل موقف رفض التعريب يُفسر سياسة " فرق تسد " التي رسمت حدود التمييز بين المؤسسات العربية- الأمازيغية، واللغة العربية واللغة الأمازيغية. جعلوا من المدارس الفرنكو-أمازيغية وسائط لعدم تعميم العربية، وتبني الفرنسية لغة الإدارة والعمل والعلم.
التعليم الإسرائيلي: وصل عدد تعداد الساكنة الإسرائيلية بالمغرب، أيام الاستعمار الفرنسي، 100.000 نسمة. وقد اختلفت، من حيث الدين والثقافة والحضارة، وترتب عن ذلك اختلاف العلاقات الخارجية. ويبدو أن العنصر الإسرائيلي الذي قدم من إسبانيا والبرتغال كان متفوقاً، بالمقارنة مع اليهود الأمازيغيين الذين كانوا في الأطلس الكبير.
عُرف التعليم الإسرائيلي التقليدي بكونه دينيا، يلقن فيه الرهبان التوراة والتلمود باللغة العبرية في الابتدائي، ثم دروس الذِّمامة في العالي، بهدف تخريج رهبان، ورجال عدل. ومن أهدافه العليا تأكيد القومية اليهودية، والدين واللغة العبرية، وتدعيم الحركة الصهيونية الداعية إلى تطوير الثقافة واللغة العبرية، بحيث تصير حية. لهذا استفاد من الرابطة الإسرائيلة العالمية منذ عهد ما قبل الحماية.2
جعلت فرنسا مدارس العبرانيين في المغرب على النموذج الفرنسي، ورفعت من مستواه، وتعاملت معهم على أنهم أقدر على تكلم الفرنسية من العرب، إدراكاً منهم أن هذه اللغة وسيلة التقدم واكتساح مراكز التجارة والاقتصاد والثقافة. لقد وصل عدد المتمدرسين سنة 1925 من العرب 700 من أربعة مليون ، في حين وصل عدد الإسرائيليين 10.000 من 100.000: أي إن التعليم الذي لم يكن يمس إلا القلة من العرب، شمل القاعدة العامة من الإسرائيليين.
التعليم الأوروبي: بدأ هذا التعليم بالمغرب قبل الحماية، إذ بنت الرابطة الفرنسية منذ بداية القرن التاسع عشر مدارس في مختلف مناطق المغرب. كانت المؤسسات الفرنسية تشمل 655 تلميذا فرنسيا وأما المدارس الإسبانية، فتضمنت 170 (منهم بعض الإسبانيين). وشملت الإنجليزية 150، بما فيهم التلاميذ الإسرائيليين. . ولم تشتمل المدارس الألمانية على أكثر من 25، ضمنهم سويسريون، وإسرائيليون كذلك.
تكاثفت الهجرة الفرنسية بعد الحماية. كان الفرنسيون والإسبان والمالطيون يفدون إلى المغرب بهدف الاغتناء السريع. ولقد احتضنت المدارس الفرنسية الجنسيات المتنوعة، وجعلت المقررات شبيهة بتلك التي في فرنسا. ومن الأهداف التي سطرتها لهذا التعليم: إدماج العناصر غير الأوروبية في العنصر الفرنسي، وإشباعهم بالقيم الفرنسية، وتخريج المدارس الثانوية لنخبة قادرة على العمل في المغرب وخارجه. ولعل ما يسجل على التعليم الأوروبي انتهاج سياسة الانتقاء، إذ لا تستقبل من المغاربة إلا الذين ينتمون إلى وسط اجتماعي يثبت بالوثائق حسن السيرة والسلوك.
كان هذا عرضا يبين السياسة الطبقية التعليمية في مغرب ما قبل الاستقلال، ويُجسد الوضع العام الذي عرفته العربية، بحيث انحصر دورها في تدريس المواد الكلاسيكية والدينية، وقُلِّصت ساعاتها، وأسند تعليمها للمدارس العمومية لأغراض وظيفية محدودة. ولاشك أن ذلك أثر على تطور العربية وإمكان الرفع من مستوى أدائها. ولنا أن نتساءل عن الحلول التي جاءت بعد الاستقلال، هل الاستراتيجيات التي اتُبعت أعلت من مستوى العربية وأعادت لها الاعتبار العلمي الذي حُرمت منه طيلة فترة الاستعمار. هذا ما سنحاول الإجابة عنه فيما يلي.
3. سياسات التعريب في مرحلة ما بعد الاستقلال
تكلف بتعريب تعليم ما بعد الاستقلال وزراء ومسؤولوا وزارة التربية الوطنية، والمدرسون، وقليلا ما كانت تتم استشارة بعض الجامعيين.وظل، التعريب،كما هو معلوم، يتأرجح بين الازدواجية والتعريب، بسبب نقص التجهيزات، إلى حدود 1990.
ارتكزت سياسة التعريب على كونه وسيط العربية، وأداة تعلّم، وضرورة دينية وتاريخية وحضارية واقتصادية، ووسيلة لتعميم التعليم في المدن والبوادي، ورفع مستواه والقضاء على الفرق بين الحاضرة والبادية. اعتُبِرت الأحادية اللغوية غير مكلفة، من الناحية المادية. وعُدَّ التعريب مطلبا شعبيا يرتبط بالكرامة والوجود والمفاخر العربية، ويحمي الذات من الانفصام الذي يولد التناقضات. كان هناك وعي بأن اللغة العربية أصل الإدراك وتكون الفكر، وأن عبقرية الشعوب لا يمكن أن تتفتح بلغة غير لغتها، ويكفي دليلا على ذلك أن الإنتاج الأدبي والعلمي للمعربين بالمغرب أكثر من إنتاج المتفرنسين. بل إن التكوين، سواء أكان مهنياً أو علميا أو أدبيا، فإنه لا يمكن أن يبلغ مداه بغير لغة المكوَّن.3
وتؤكد وثائق وزارة التربية الوطنية أن اختيار التعريب اعتبر المصالح الاقتصادية العربية، إذ رُبطت مصلحة المغرب بالسوق العربي الإسلامي الذي يقتضي تبادل العلاقات وإتمامها باللغة العربية.4
لقد نُظر إلى التعريب على أنه ضرورة بالنسبة للابتدائي، خصوصا، لأنه المجال الحسّاس للتأثيرات الدخيلة. مقابل ذلك، اقترح صانعوا سياسات التعريب اللغات الحية في التعليم العالي، اقتناعا منهم بالموقع الجغرافي للمغرب الذي يجعله في ملتقى الطرق، ونقطة ربط أوروبا بإفريقيا، والغرب بالشرق، والمحيط بالبحر الأبيض المتوسط، مما يؤهله ليكون أداة تمازج الثقافات والتقائها.
لقد جمعت خطط التعريب سياسات التعليم بين القيم الدينية والوطنية والقومية الثقافية التي تستمد أصولها من التراث العربي التليد، وفوائد التفتح على العلم الحديث، والإلمام بالمدركات العلمية والتقنية، واكتساب الخبرة والمهارة اللتين تُؤهلان للاطلاع بمهام الإنماء والتطور.
بعبارة أخرى، اعتبرت خطط التعريب أن اللغة الوطنية تُذكي في المتعلم روح الأصالة، وتغذيه روحياً، وتُنمي شخصيته، وتُفتق قدراته ومواهبه، بينما تمكنه اللغات الأجنبية، في الثانوي والعالي، من التفتح الذي تقتضيه التنمية الاقتصادية والاجتماعية، خصوصا مع الدول التي للمغرب مصالح اقتصادية معها.
اعتُبر عدم تعريب التعليم العالي بدون خطر على التلميذ، لأنه يتلقى منذ الابتدائي اللغة الفرنسية لغة ثانية، بحيث إذا وصل العالي يكون قد درس الفرنسية عشر سنوات، على الأقل، مما يُؤهله لمتابعة الدراسة بالفرنسية.
1.3. تقييم عام
حين نقيّم سياسات التعريب الرسمية لمرحلة ما بعد الاستقلال، يلاحظ أنه بعد مرور ما يزيد عن خمسين سنة، مازال الآباء والمدرسون، والرأي العام، يشكو من عدم جودة البرامج في القطاعات المعربة، وغياب الوسائل الحديثة من كتب ومعاجم تُحيِّن العربية وتُحييها، وتربطها بقضايا العصر ومستجداته العلمية والتقنية والإعلامية والفنية. إن الطفل مازال يعاني من غياب رصيد معجمي يصله بالحياة اليومية ومكوناتها الحية، في عالم الحيوان والنبات والبحار والأطعمة والألبسة والأسفار ووسائلها في البر والبحر والسماء.
على مستوى آخر تستمر الفرنسية في قطاع التعليم العالي في المجالات الحيوية العلمية والاقتصادية. وإذا كان التكوين الجامعي عنصر تفتق العبقريات وبزوغ الإنتاج الراقي المتقدم، فإن التفتق والبزوغ، بهذا المعنى محصور على الثانوي. فهل المطلوب عبقرية في حدود الثانوي أم تقدم في مستوى دقيق متقدم يِؤهل لتقدم عالمي؟
تشير الانتقادات من هذا النوع إلى أن سياسة التعليم في المغرب لم تربط التعريب باستعمال عام للعربية، إذ حدته في المؤسسات التعليمية، وترتب عن ذلك تراجعه في المحيط المجتمعي. لقد كانت مرحلة التخطيط الأولى تطرح أسئلة من نوع: هل يُمكن أن ندرس بالعربية ونبلغ في الوقت نفسه مستوى الأمم الراقية في العلوم الحديثة؟ ألا يحول ذلك دون الرفع من مستوى معيشتنا، وحياتنا المادية إلى مستوى أرقى الأنظمة العالمية؟
هناك اليوم ما يُشبه التسليم بكون العربية تعوق فعلا، والدليل على ذلك التهاون في تعريب العالي، وعدم وجود سياسات حقيقية تعرب المحيط وترفع من جودة التعليم العربي.
لقد عرّف التعريب، على المستوى الحكومي الرسمي، على إنه إحلال اللغات الأجنبية، وإدخال مصطلحات جديدة للعربية، وإلزام الإدارة باستعمالها، دون غيرها، وجعلها أداة التعبير عن كل ما يدور في عصر الذرّة والصواريخ. إنه عملية شمولية هدفها جعل العربية لغة كل شيء.
تعارض مفهوم التعريب الشمولي مع ما عُرف بالتعريب الجزئي، والتعريب في إطار التكوين المزدوج: دعا الأول إلى تعريب تشغل فيه الفرنسية الحيّز الأكبر، والثاني إلى جمع اللغتين معا.
ولقد ساد التكوين المزدوج استجابة لعدم توفر الأطر الفنية والكتب والأدوات. ورافق ذلك اعتقاد عام بصعوبة العربية، وتعقد قواعدها، وعدم تضمنها لمصطلحات العصر الجديدة. ولذلك اعتُبرت محاولات التعريب تسرعاً غير مدروس، كان يتسبب في انخفاض المستوى.
كانت المدارس الابتدائية تعاني من الظروف الصحية والمادية والبيداغوجية السيّئة بسبب ضعف الاعتماد. كان أربع إلى خمس تلاميذ يتكدسون في الطاولة الواحدة، وكان عدد التلاميذ في القسم يصل إلى 110، وزاد الطين بلة نظام نصف الحصة الذي كان يُخفض من ساعات العمل.5
إن تجمع عوامل النقص شكلت مبررات قوية للعودة إلى الازدواجية، كما نلاحظ في عدد من وثائق الوزارة، ومنها عدد من المذكرات التي تتضمن حديثاً عن مشاكل تدريس التاريخ والجغرافيا. جاء فيها وصف لعدم توفر الدارسين على الخرائط والأطالس والكرات الأرضية، ووجود مدرسين لا يقدرون على تحديد جبل، جغرافياً، ومفهوم الجزية تاريخياً. تعددت الاقتراحات بين الدعوة إلى العودة إلى التحرير باللغتين معاً، أو فتح تكوينات في العربية. وبدا حل إيجاد الأدوات، من خرائط وأطالس وكتب بالعربية مكلّفاً. لقد كان المشكل يشمل المكونين والتجهيزات والعدد الكبير للتلاميذ، أي يتجاوز قضية لغة نقل المعارف إلى المعارف نفسها.6
ظل وضع العربية يتراوح بين الأحادية والازدواجية إلى أن صدرت التعليمات الملكية سنة 1978 بكون التعريب قاعدة انطلاق لا رجعة فيها، وفاءاً لنص الدستور المقر باللغة العربية اللغة الرسمية للبلاد، وتثبيتاً للمبادئ الأربعة التي صاغتها اللجنة الملكية للإصلاح سنة 1957، وفي أثناء إعداد الخطة الخماسية (1960-1964).
تحقق تعريب الابتدائي والثانوي، فعلاً، سنة 1990، لكن مازال العالي، كما قلنا فرنسيا في قطاعات العلوم والتقنيات. ولعل البحث عن أسباب ذلك يتعدى التفسيرات المحلية الوطنية إلى التعليلات القومية التاريخية، وهو ما سنحاول تتبعه فيما يلي.
4. التعريب: تصورات
إذا كانت التصورات العربية تُجمل وعي المثقفين العرب بالدور الذي يُمكن أن تتصدره لغتهم في بناء الحضارة العربية، والإنسانية، وفي التحرر والتقدم، وتمثيل الهوية والوطن والأمة، فإن هناك أخرى، أقل ما يُقال عنها أنها مغرضة. وقبل أن نفصل مضامين الأطروحات العربية، لنبيّن مبادئ هذه الأخيرة وأسباب الحكم عليها بالإغراض.
1.4. التعريب في التصور الفرنسي
نُمثل التصور الفرنسي للتعريب من خلال دراسة الباحث الفرنسي كَرونكَيوم grandguillaume، وذلك بتتبع آرائه من خلال ما يلي من التصورات الأربعة:6
- مشكل التعريب مشكل مرجع ثقافي وجماعي: يُميز كَرونكَيوم بين نوعين من العربية: الكلاسيكية لغة القرآن والدين والثقافة الإسلامية والهُوية الفردية والجماعية، ولغة التجذر العميق الذي يبقى بعد ضياع الإيمان عند المُلحد، والوطنية عند المُتجنِّس، واللغة عند المتفرنس. إنها لغة القداسة الموسومة في الوعي الشعبي، تستعصي على الاستعمال العادي بحكم الاصطفاء الإلهي. وأما اللغة العصرية، فلا تحظى بالقداسة، ولا التمثيل الهُوي أو الديني، وإن كانت تحاول أن تُدخل في منظورها البعد الإسلامي. ويُجمل مشاكل العربية العصرية في: عدم قدرتها على إدخال العصرنة إلى الثقافة العربية؛ وعدم توفرها على مرجع ثقافي خاص مستقل، يدل على ذلك محاولة الحلول محل الفرنسية عن طريق الترجمة، والرجوع إلى العالم الدلالي الخاص بهذه اللغة؛ وعدم توفرها على مرجع جماعي خاص، فهي لغة "ثالثية" ليست ملكاً لأحد في واقع الحياة اليومية، إنها لغة المواطنة العالمية، والبورجوازية الصغيرة، والتفتح للتأثير الخارجي، ليس لها لا حيوية اللهجة، ولا عمق الكلاسيكية، على حد تعبير ج. بيرك j berque في مناقشة إحدى الرسائل. والملاحظ من هذه المشاكل أن هناك تجريد للعربية من القدرة الفنية، والمسايرة العصرية، والحكم بعدم الحيوية والعمق. ولا شك أن هذا غير صحيح، بدليل الكتابات العربية المنشورة التي تعكس عمق التفكير واللغة في قضايا حيوية معاصرة تمس مختلف التخصصات في حقل المعرفة.
- مشكل التعريب مشكل تعريب-ترجمة وتعريب تحويل: لما استقل المغرب العربي (المغرب وتونس سنة 1956، والجزائر سنة1962) وجد نفسه محاطاً ببنيات إدارية ومؤسسات اقتصادية، وأنظمة تعليم تتحكم فيها الفرنسية تحكماً كلياً. لذلك أُعلن، رسمياً، عن التعريب، وتبني اللغة الوطنية للتحرر من الاستعمار الثقافي. وهكذا اتُخذت التدابير اللازمة لجعل العربية تؤدي الأدوار التي كانت تؤديها الفرنسية أيام الاستعمار. ولقد تجسد ذلك في إعطاء الفرنسية وضع لغة أجنبية، وجعل العربية لغة التعليم والإدارة والتواصل والعمل والمحيط والتجارة والصناعة والمظاهر الرئيسية للحياة العامة. إلا أنه مع مرور الوقت، صار التعريب، على غرار الاستقلال السياسي، مبدأً مقدساً وهدفاً لا يُناقش في البناء الوطني، وصار يُكون جوهر الخطاب الرسمي للسلطة في المجال الثقافي، والمطلب الأساسي للشعب. إلا أن هذا الإقرار اللغوي لشرعية لغة وطنية ظل يُقابله بطء في الإنجاز، وصعوبة في التخلص من الفرنسية، وأحياناً مقاومة صماء، وعقدة نفور من العربية، جعلت الممارسة الماضية والحاضرة والمستقبلة للمغرب تندرج في وضع تشكيك في الاتفاق الحاصل حول مبدأ التعريب. إن التعريب في بلاد المغرب العربي ليس بإعادة تعريب، لأنه لا يهدف إلى استرجاع الماضي والأصل، بل تعبير عن عالم مختلف عن عالم ما قبل الاستعمار، ولا أدل على ذلك من محاولة استعمالها محل الفرنسية لتعبر عن حقائق جديدة بالنسبة للرصيد العربي التقليدي: تحليل يُفرغ العربية من دوالها ومدلولاتها، ويجعل المعبَّر عنه جديداً، وجدَّتَه مشكلة لغوية. أما الفرق بين تعريب-ترجمة، وتعريب-تحويل، فيظهر من كون الأول دمج ما يشيع بالفرنسية في اللسان العربي، وذلك بقول ما يُقال بالفرنسية باللغة العربية، في حين يحيل الثاني على قول شيء آخر بالعربية، لكن بالطريقة نفسها التي يُقال بها بالفرنسية. وبصرف النظر عن دائرية التعريفين، يرى كَرونكَيوم أن الثاني يُعبر عن إرادة الاختلاف، والعودة إلى الذات والأصالة، لأنه إعادة تعريب. كما يرى أن المغرب العربي يختار الاختيارين معاً: يتجلى الثاني في عنايته بمواد الأخلاق والإيديولوجيا والآداب والفلسفة، في اتجاه تعريب-تحويل، ويتجسد الأول في الاستمرار في تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية. ويستنتج أن الأول يسير نحو تماثل الثقافات وتقاربها، بحيث يصير التعريب عطفة غير ضرورية، في حين يلائم الاختيار الثاني المحافظة على هوية خاصة في إطار ثقافة خاصة. وبهذا نلاحظ كيف يصبح تدريس العلوم بالفرنسية اختياراً يُسمى بتماثل الثقافات.
- مشكل التعريب مشكل ازدواجيات لغوية: يذهب كَرانكَيوم أن في المغرب العربي نوعين من التحول: الأول، على مستوى الازدواج: عربي-فرنسي، وعربي-عربي. يسعى الأول إلى إعطاء العربية المكتوبة كل الأوضاع اللغوية التي تأخذها الفرنسية، ويحاول الثاني، على عكس في الظاهر، إلى تصفية اللهجات بنمطيها العربي والأمازيغي. وإذا كان من السهل تنفيذ التحول الثاني، لأنه رهن بتعميم التعليم ومحو الأمية، فإن من الصعب إنجاز الثاني، وذلك لعدم قدرة المغاربة على التعبير عن معطيات العصر في غياب معجم موحد للحضارة العصرية، وعدم وجود أكاديمية تنجزه. إن تصفية اللهجات أمرا غير وارد ويتعارض مع كون الازدواج ظاهرة طبيعية. أما بالنسبة للتحول الثاني، فإن قضية إنجازه، وإحداث مؤسسات تهييئه، يتوقف على الإرادة السياسية، لا أكثر.
- مشكل التعريب مشكل تشكيك في التعددية: يُدافع كَركَيوم عن تشكيك التعريب والعربية في التعدد من خلال ما نعرضه في الأفكار التالية:
- وظيفة التوحيد في إطار الإسلام: العربية الفصحى لغة القرآن والوحدة الإسلامية، والعربية، تمثل الأصل الصافي، الذي قد يتفاعل مع اللهجات، لكنه لا يتلهج. إذا كانت هذه مزايا، فإن كَركَيوم يراها عوامل تشكيك في التعددية، لأن لها وضع اللغة المقدسة التي تخرج عن الاستعمال العادي. بعبارة أخرى إن وظيفتها أيديولوجية لا تتعدى التوحيد.
- وظيفة التوحيد في إطار الأمة: يرى أن المغرب العربي يستهدف تأكيد الذات في إطار تعارضين: عربية-فرنسية، من جهة، وعربية-لهجات، من جهة أخرى. يُحلل الكيفية التي يُمكن أن تنتشر بها العربية لتأكيد الذات معتمداً عدداً من الخصائص التي أخرجتها الدراسات الفرنسية بخصوص انتشار الفرنسية في عهد الجمهورية III، منذ عهد الثورة الفرنسية، وتتلخص في توحيد لساني ضروري، حتى تستطيع القاعدة الإنصات إلى السلطة؛ وتثمين للثقافة المركزية على حساب الثقافة الوطنية المحلية؛ واعتبار اللغة تُرمِّز الوحدة الوطنية، ووظيفتها تمثيل مُعترف به لهذه الوحدة. ثم يستنتج، أن المغرب العربي لا يُمكن أن يُحقق الخاصية الأولى، لأنه يحتاج إلى لغة تواصل مع مواطنين مختلفين، مثقفين يعرفون الفرنسية، وآخرون لا يعرفون لا العربية ولا الفرنسية. ويتطلب إصلاح اللغة، بالنظر إلى الخاصية الثانية، تثمين العربية على حساب اللغة الفرنسية واللهجات كذلك، أي أداء دور العصرنة التي تؤديه اللغة الفرنسية، وتصفية اللهجات باسم الوحدة الوطنية. ويُلاحظ من خلال الخاصية الثالثة أن التعريب يختلف باختلاف رمز الوحدة. ففي الجزائر، مثلا، التعريب "يعقوبي" غير متساهل مع التعدد، إذ الوحدة اللغوية هناك هي الضامن الشرعي للسلطة الموجودة. وفي المغرب، فإن الملك رمز الوحدة، ولذلك فإن التعريب ليس سوى إعادة إنتاج للقيم الثابتة. وعموماً، خلاصة تحليل كَرنكَيوم قوله إن هناك سعي لتصفية التعدد بتصفية الفرنسية واللهجات العربية. والواقع أن الازدواج طبيعي، وأن التفتح على الفرنسية يعد مكسباً إذا لم يكن يُعيق تقدم العربية في المجالات الراقية. أما جعل التعدد هو اللغة الفرنسية وتصفيته تصفية لهذه اللغة، فإنه أمر غير منطقي وغير مفهوم.
- اللغة والهوية: ينطلق كَرنكَيوم من وجود مرجعيات مختلفة في المغرب العربي: الفرنسية وتحيل على العصرنة والتطور والاستهلاك، والعربية وتحيل على الإسلام والهوية والماضي والتاريخ. ويرى أنه إذا كان المشرق قد نجح في جعل العربية تؤدي وظائف اللغة الأجنبية، فإن تحقق ذلك بعيد في المغرب العربي. وينتهي إلى أن أحادية اللغة تربطنا بالهوية، بينما تعدد اللغات يُعيد إلى ممارسات اجتماعية مختلفة، ويوصل إلى استقلال كبير للذات غير الراغبة في التطابق مع لغة واحدة. ويخلص إلى أنه إذا كان التحرر الحقيقي يعبر عن استقلال الذات الكبير، فإن الازدواج العربي-الفرنسي في المغرب لا يُعتبر عقبة في وجه وعيه بهويته، بل إنه شكل أعلى للهوية: يُغني الفرد والوسط الاجتماعي، ويُمكن أن تزيد نفعيته إذا اعتُبرت فيه اللغات الأم اللهجية: العربية والأمازيغية. وهكذا، وبناءاً على مسلمات خاطئة، تصير العربية لغة التقليد، والفرنسية لغة التطور، ويصير التعدد الهُوي عربياً فرنسياً أساساً.
2.4. التعريب في التصورات العربية
نعرض تصور باحثين عرب (مشارقة ومغاربة)، ونبين وضوح الرؤى والأهداف، من حيث كون المشكل سياسياً أساساً.
1.2.4. مشكل التعريب مشكل تفتح تبعي والحل تفتح فعلي
ينطلق الطاهر لبيب من السؤال: لماذا تفشل الأنظمة العربية السياسية في تنفيذ مشروع التعريب رغم ادعاء تبنيه والقول بشرعيته ومشروعيته، ووضعه فوق الواقع الاجتماعي؟ ويجيب بكون السبب يعود إلى عجز بنيوي، وأن للعجز عوارض وأسباب ونتائج وحلول.7وتتجلى عوارض العجز البنيوي في التبريرات التقنية المكررة، والمعهودة التي تقوم على ثنائية المبدأ والتطبيق المتجلية في أقوال مثل: إن التعريب ممكن وضروري، ومن قال غير ذلك فقد خان، نعم للتعريب مبدأً، ولكن لا للتعريب تطبيقاً، ومن ثم المبررات المشاكل من نوع بقايا الاستعمار والتخلف والنقص في الإطار البشري والمادي والخوف من انخفاض المستوى. ويُسبّب العجز البنيوي تفتحاُ تبعياً وتفكيراً غير صحيح في قضية التعريب. لقد نتجت التبعية، تاريخياً، عن الهيمنة الاستعمارية الأمبريالية للتطور الرأسمالي العالمي، وصارت شرطاً لاستمراريته، وفي هذا الإطار تبلورت الثقافة العربية المحلية التابعة للخارج، ونشأت وأمست قوة اجتماعية وسياسية وصناعية وتجارية وسيطة تتزايد كمّاً ونوعاً وتأثيراً بتزايد ارتباط مصالحها بانفتاح اقتصادي، ينتج عنه ويُدعمه استهلاك فكري، وسلوك ثقافي، واستعمال وظيفي للغة أجنبية أكثر مردوداً، ونفعاً ونجاعةً وفعالية في تحقيق ربح مضمون ومباشر، مصيره مرتبط بمصير الثقافة الأجنبية، ولغتها، لكنه ارتباط مرغوب فيه طالما أنه يُحقق الربح. وينتج عن هذا الارتباط عدم ربط مشروع التعريب بمشروع مجتمعي أعم، وعدم قطع الصِّلة مع المستعمر مباشرة بعد التحرر السياسي منه، والقول بكلفة التعريب والتحديث اقتصادياً، واعتبار التخطيط له، على المدى البعيد، واستبداله، مجازفة. ويترتب عن ذلك أيضا الهيمنة والنفوذ الاجتماعيين والنفسيين اللذين تمارسهما اللغة الأجنبية في الأقطار العربية لدى المدافعين عن اللغة القومية أنفسهم، وتنتج المقارنة القائمة بين العربية والأجنبية: العربية ما اقترن بالتقليدي، والرجعي والأجنبي، والأجنبية ما اقترن بالعصري والتقدمي. وهكذا تُتابع اللعبة التي أصبحت مكشوفة بثنائياتها وتناقضاتها ومواقفها باسم التفتح "الموضوعي" على اللغة الأجنبية، وإن كان التفتح المقصود، في الحقيقة، تفتح على لغة المستعمر القديم وثقافته وأيديولوجيته. فبلغته يُعاد إنتاج العلاقات السائدة، ويُعتبر ما يأتي بلغة أخرى إيديولوجية مستوردة لا حاجة للعرب بها. وإذا ما نظرنا في التفتح المزعوم في الأقطار العربية، وجدنا من الظواهر أن النسق الثقافي المُتَفتّح عليه رأسمالي أمريكي أوروبي، يدعي الكونية، ويُمثل الإنسانية؛ وأن اللغة الأجنبية المتفتح بها تُحدد داخل النسق المُتفتَّح عليه خصوصية ثقافة المستعمر القديم المتفتَّح عليها. ففي الوقت الذي يتصور المغربي أو التونسي أنه متفتح على الثقافة الإنسانية يجد نفسه متفتِّح، عملياً، على ثقافة فرنسية، ولا يعرف من الثقافة الإنسانية إلا ما تسمح به لغة تفتحه، ناهيك عن عجزه كتابع مستهلك بالنسبة لصاحب اللغة المُبدع فيها، إنه دائماً متأخر في مواكبة تطور أشكال ومضامين هذه اللغة؛ ثم إن التابع المستهلك يتحمل ضعف اللغة الأجنبية المُعوّل عليها محليّاً في الاتصال بالعالم، والمُتتبعون للوضع الثقافي الفرنسي يعرفون بوادر تبعية فرنسية للغة والثقافة الأنكَلوسكسونيتين؛ كما، يُكون المستهلك ( التابع )
تصورا خاطئا عن الثقافة الإنسانية، أقصى حدوده عملية التطابق المحتمل في الذهن بينها وبين الثقافة المُهيمنة؛ وأخيرا، تُعزل المجتمعات العربية التابعة بعضها عن بعض، وعزل العربي عن واقعه، واهتماماته العصرية.
أمام هذه الحدود الموضوعية للتفتح، يصير حل التعريب الحل العملي الوحيد، وتصبح التوضيحات والأبعاد التالية الدعم النظري الراسم لحدوده:
توضيح 1: إن ما يُسمى تفتُّحاً قد لا يكون شيئاً سوى عملية استيعاب للمضمون التبعي لعلاقة المجتمع بالخارج؛
توضيح 2: إن الخوف من اقتران التعريب بالانغلاق خوف نتيجته المرحلة بعد-الاستعمارية، سابقاً ونتيجته التفكير السكوني اليوم في المجتمعات العربية. ثم إن مفهوم التفتح والانغلاق مفهومان نسبيان، ولا يعني الأول أنها حالة متقدمة ومتطورة، وبالتالي أرقى، بالضرورة، بالنسبة للثاني، وإلا جاز القول: إن مصر متفتحة وكوبا أو الصين منغلقة.
بعد 1: بعد الاختيار: إذا كانت لغة التبعية تفرض مضموناً ثقافياً واحداً، فإن العربية تسمح باختيار متعدد؛
بعد 2: البعد الجماهيري: إذا كانت لغة التبعية لغة تفتح النخبة، فإن الجماهير لا تنفتح محلياً، وعربياً وعالمياً إلا بالعربية، وكل مجتمع لا تنفتح جماهيره يُعد غير منفتح.
2.2.4. مشكل العربية سياسي وقومي ليس إلا!
يرى مصطفى الفيلالي أن قضية العربية قومية سياسية بالأساس، ذلك أن قرناً كاملاً من المجهودات اللغوية العلمية على مستوى مجامع اللغة العربية، من مجمع دمشق الأول إلى مجامع القاهرة وبغداد والأردن قد زوّد العربية المعاصرة بالأدوات الفنية الكافية انطلاقاً من طاقاتها الذاتية. ولقد وُفق اللغويون والكتاب واللسانيون وأصحاب العلوم الدقيقة العرب في إثراء المعجم العربي بعشرات آلاف المصطلحات العلمية نحتاً وتعريباً واقتباساً مما أعاد إلى العربية قدرتها السالفة على حمل رسالة الإنسان في الحالات المعاصرة. غير أن هذه القدرة تنتظر التحول إلى قدرة بالفعل، إذ لا تزال هناك طاقات استعداد وترقب لم يستفد منها المجتمع العربي ليعود إلى الاعتزاز بلغته، وينهض لها بواجب الوفاء والإخلاص، ويخرج من أوهاد التبعية الفكرية والحضارية للمجتمعات الغربية.8
3.2.4. الثورة الثقافية الشاملة حلاً لمشكل التعريب
يعتبر محمد عابد الجابري أن التعريب ليس إحلال اللغة العربية محل اللغة الأجنبية، بل ثورة ثقافية شاملة تمتد إلى كل الحياة العامة، الاجتماعية والمصطلحات والكلمات والجمل لا تشمل قطاعات دون أخرى استجابة لسياسات التدرج والتجزيء المبررة بمبررات واهية مثل تجنب الاضطراب والفوضى ونهج الحكمة والتبصر لقلة الأطر والإمكانات. بل إن التعريب لا يتم إلا ضمن الثورة السياسية والثقافية والاقتصادية، التي تستهدف الشخصية المغربية والفكر والقوالب الفكرية، وتبعث القومية وتغير الذهنية، وتجدد أساليب العمل والتفكير، وتعطي للثقافة المغربية لساناً ومضموناً عربياً قومياً يستمد عناصره من الجوانب العقلانية الأصلية والتقدمية في التراث، وينبع من صلب المشاكل اللغوية، ويُعبر عن مشاغل المغاربة واختياراتهم. ويتم التعريب من هذا النوع بشيئين اثنين:9
مستوى اللغة: ويكون بالعربية الفصحى ولا شيء غير العربية الفصحى، ويتم ذلك ب:تصفية اللغة الأجنبية لغة حضارة وثقافة وتخاطب وتعامل؛ وإماتة اللهجات المحلية: الأمازيغية والعربية الدارجة؛ وتحريم استعمال لغة أو لهجة غير العربية الفصيحة في كل مرافق الحياة.
التربية الشعبية، وتكون ب: تخصيص برامج متنوعة مخططة للتربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تستمد مضمونها من آفاق الهدف الوطني العام (البناء الاشتراكي)، وتُعنى بإعادة التكوين الدورية المستمرة المخططة.
ويكون التعريب بهذه الشروط تاماً وشاملاً، لأن استعمال العربية الفصحى سيُبسط الفصحى، ويرفع من مستوى الدارجة، ويخلصها من الهجانة والمزجية والتشويه الذي يأتيها من الكلمات العربية والأجنبية، وسيجعلها لغة شعبية تعكس أحاسيس الناس وتطلعاتهم. ويضمن الاهتمام بالتربية الشعبية مجتمعاً مغربياً عربياً تقدمياً لا يُخشى من عودة أطفاله إلى الأمية، إذا ما غادروا المدرسة. ثم إن التعريب بهذا المعنى يُمكن أن يُنجز في ظرف زمني قصير.بضمان الثورة الثقافية الشاملة.
4.2.4. مشكل التعريب مشكل تاريخي وحله ثورة ثقافية شاملة
يُعرف عبد الله العروي التعريب بنشر ثقافة عصرية علمية جماهيرية في وقت وجيز بإصلاح اللسان العربي في إطار وحدوي قومي يوفر الإمكانات التعبيرية المرنة والدقيقة والموجزة.
تقوم مقاربة التعريب من هذا النوع على تحليل مُقارن يُميز فيه بين اللسان كمنظومة مكتوبة دورها أن يُصب فيها غيرها من اللهجات واللغات العلمية والاصطلاحية التي يجب أن تتحول إليه من مجالها الضيق فتخلق معه علاقة تتيح له بدوره التغير والتجدد. وعليه، فإن الوضع الطبيعي الذي ينبغي أن يكون عليه اللسان وضع لغة تتفاعل وتنفعل مع ما حولها من اللهجات واللغات. فهل هذا وضع العربية؟ الجواب لا. والسبب سببان يتمظهران من خلال مشكلين أساسيين: مشكل اجتماعي وآخر حضاري/ثقافي.10
لقد بدأ مشكل التعريب في مظهره الاجتماعي حين وقف اللسان العربي عن أداء وظيفته، فدخل بذلك مرحلة الجمود والاستقرار والتمام والكمال واللاتجدد الذي تُتيح للسان آخر دخيل إمكان القيام بدور الوسيط بدله. وإذا كان السؤال المطروح: بماذا نفسر محاولات الإصلاح اللغوي المترجم بوضع المصطلحات والتراجم، وإنجاز عدد من الأعمال (اللغوية وغير اللغوية)، فإن الجواب: إن عمليات الإصلاح من هذا النوع لا تصب في اللسان المقعد، ولا تغيره، وهنا يكمن الحجر العثرة المعترض للتعريب: إنه المشكل الثاني في مظهره الثقافي/الحضاري: يبدأ هذا المشكل منذ اللحظة التي يتوقف فيها إصلاح اللسان، فيدخل مرحلة الإيمان الميتافزيقي والماورائي بأنه مطلق، وغير عرضي في شكليه: اللغوي والإعرابي، ويصير كل عمل صناعة، ليس إلا! بل يصبح هو نفسه صناعة (لغة أو لهجة خاصة بمجموعة من الناس في قطاع معين علمي معين، علمي أو فني أو لغوي أو غير ذلك).
ويكون إصلاح اللسان العربي بوضع خطط وحدوية. ذلك أن مشكل التعريب في مظهره الاجتماعي سياسي آني عرضي، لكنه في مظهره الحضاري/الثقافي تاريخي خطير لا يُمكن أن يكون إلا في إطار ثورة قومية شاملة، يأتي فيها قرار الوحدة قرارا،ً أولا، والنمو الاقتصادي، ثانياً، والتنظيم الاجتماعي، ثالثاً، واللغوي رابعاً.
5. خلاصة
لقد رفضنا ضمنيا التصور الفرنسي الذي يحصر التعدد في العربية واللهجات والفرنسية، وتبنينا الرؤى العربية (المشرقية والمغربية) التي تعالج التعريب، باعتباره قضية قومية ومسألة تاريخية، ينبغي مقاربتها بالاستراتيجيات الثورية الكبرى، لا التجزيئية الصغرى.
الهوامش :
1 . نستقي ما نورده من معلومات من:
R.Gaudegoy Demombynes,.1928, Loeuvre Francaise en matiére d’ Enseignement au Maroc, Paris.
2 . أسسها الفرنسيون لمساعدة الإسرائيليين.
3 . من هذه الوثائق، انظر، على سبيل المثال لا الحصر:
قضايا التعليم الثانوي، 1980، ج1، تعريب التعليم، 1960، التعريب في مضمار التعليم، 1961، الخطابات الماكية 1974-1990، المغرب في المعرض الدولي للغات، 1983، باريس، الندوات الصُحفية التي كان يعقدها وزراء التعليم (منها، مثلاً، ندوة عز الدين العراقي بمناسبة الدخول المدرسي والجامعي 1985-1986)، توجيهات الملك الحسن الثاني لأعضاء الحكومة أثناء انعقاد مجلس وزاري مصغر لدراسة قضايا التعليم، 1987، واللائحة طويلة.
4 . انظر العرض الذي ألقاه الوزير محمد الديوري بكلية العلوم: إلى أين يسير التعريب
5 . يعود نظام نصف الحصة إلى قلة التجهيزات، بما في ذلك القاعات: المرجع نفسه.
6 . المرجع نفسه: جاء في أحد الدروس أن عريفاً سأل ثلميذاً بشؤال مصاغ على الشكل التالي:
أربعة حمير، وثلاثة جمال، كم؟ وعلى الرغم من سوء صياغة السؤال، أجاب التلميذ: سبعة، لكن العريف رد عليه بسؤال: سبعة ماذا؟ فهذا مثال يبين جهل المدرس لقاعدة الجمع الأساسية التي تقتضي ألا يُجمع إلا الأعداد من طبيعة واحدة.
7. انظر:
G.Grandguillaume, Arabisation Et Politique Linguistique au Maghreb, Editions Maisonneuve et Larose, 1983
8. الطاهر لبيب، البعد السياسي للتعريب وصلته بالوحدة والديمقراطية، ضمن:
التعريب ودوره في تدعيم الوجود العربي والوحدة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،1982.
9. مصطفى الفيلالي، تقويم تجربة التعريب في المشرق العربي، المرجع نفسه.
محمد عابد الجابري، أضواء على مشكل التعريب بالمغرب، دار النشر المغربية، البيضاء، د.ت.
10 . عبد الله العروي، التعريب وخصائص الوجود العربي والوحدة العربية، ضمن:
التعريب ودوره في تدعيم الوجود العربي والوحدة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1982.
ومثل التعليم الإسلامي العصري المدارس التي نالت اهتمام الفرنسيين. ففي سنة 1912، وهي السنة التي فُرضت فيها الحماية على المغرب، كلف الجنرال ليوطي لجنة خاصة بهذا التعليم، بهدف جعله يُكون موظفين إداريين على نمط الموظفين الفرنسيين، يتم اختيارهم من النخبة. لقد كان على اللجنة أن تُراعي تصوّر فرنسا لساكنة المغرب المبني على وجود: أولا، الأعيان، وهم الناس الميسورون، وأغنياء المدن، تجاراً وموظفين؛ ثانيا، الحضريون من العمّال والحرفيون والمرؤوسون في قطاع الإدارة والتجارة، ثالثا، القرويون ممن يتعاطون الفلاحة.
لقد كان هذا التقسيم وراء التعليم الطبقي المستمر إلى الآن: مدارس أبناء الأعيان أو الأغنياء، والمدارس العمومية.
أقيم النوع الأول من المدارس (ثانوية مولاي يوسف بالرباط وأخرى بفاس) خصّيصاً لأبناء الأعيان والطبقات الميسورة. واعتمد، في التدريس مناهج متطورة. لُقنت بها قضايا بمجالات حيوية مثل الأبناك والبريد والديوان والضرائب والتجارة. كان الهدف منها تكوين موظفين يشغلون وظائف المخزن القديمة، متفتحين على فرنسا. ولذلك، ضيّقت من حصص العربية: من بين 27 ساعة، خُصص للعربية 9، وللفرنسية 18، واقتصرت العربية على الأقسام الأولى، بينما امتدت الفرنسية إلى الأقسام العالية.
وأما المدارس العمومية، فقد كانت لأبناء الشعب. تلقى التلاميذ في المناطق الحضرية تكوينا مهنيا، و في القرى فلاحيا. خرجت الأولى العمال والموظفين والتقنيين والحرفيين الصغار والثانية الفلاحين التابعين، كذلك.. دُرس فيها القرآن، والعربية، والفرنسية، والفلاحة التطبيقية. إلا أن تعليم هذه المواد كان شكلياً، قُصد منه كسب ثقة المغربي في التعليم الفرنسي. بقيت العربية في إطاره اللغة القديمة المعقدة ذات المعجم المنغلق، والقدرة التعبيرية المحدودة بالنسبة لمستجدات العصر.
التعليم الأمازيغي: رأت فرنسا، حين التفكير في التعليم الأمازيغي أن تعريب الأمازيغيين غير ممكن، اعتباراً منها أن في ذلك طمساُ لحضارتهم، وفيه تعميم للغة العربية، وجعلها لغة التجارة والإدارة عند الأمازيغيين الذين يعتبرونها لغة التفوق والامتياز. ولعل موقف رفض التعريب يُفسر سياسة " فرق تسد " التي رسمت حدود التمييز بين المؤسسات العربية- الأمازيغية، واللغة العربية واللغة الأمازيغية. جعلوا من المدارس الفرنكو-أمازيغية وسائط لعدم تعميم العربية، وتبني الفرنسية لغة الإدارة والعمل والعلم.
التعليم الإسرائيلي: وصل عدد تعداد الساكنة الإسرائيلية بالمغرب، أيام الاستعمار الفرنسي، 100.000 نسمة. وقد اختلفت، من حيث الدين والثقافة والحضارة، وترتب عن ذلك اختلاف العلاقات الخارجية. ويبدو أن العنصر الإسرائيلي الذي قدم من إسبانيا والبرتغال كان متفوقاً، بالمقارنة مع اليهود الأمازيغيين الذين كانوا في الأطلس الكبير.
عُرف التعليم الإسرائيلي التقليدي بكونه دينيا، يلقن فيه الرهبان التوراة والتلمود باللغة العبرية في الابتدائي، ثم دروس الذِّمامة في العالي، بهدف تخريج رهبان، ورجال عدل. ومن أهدافه العليا تأكيد القومية اليهودية، والدين واللغة العبرية، وتدعيم الحركة الصهيونية الداعية إلى تطوير الثقافة واللغة العبرية، بحيث تصير حية. لهذا استفاد من الرابطة الإسرائيلة العالمية منذ عهد ما قبل الحماية.2
جعلت فرنسا مدارس العبرانيين في المغرب على النموذج الفرنسي، ورفعت من مستواه، وتعاملت معهم على أنهم أقدر على تكلم الفرنسية من العرب، إدراكاً منهم أن هذه اللغة وسيلة التقدم واكتساح مراكز التجارة والاقتصاد والثقافة. لقد وصل عدد المتمدرسين سنة 1925 من العرب 700 من أربعة مليون ، في حين وصل عدد الإسرائيليين 10.000 من 100.000: أي إن التعليم الذي لم يكن يمس إلا القلة من العرب، شمل القاعدة العامة من الإسرائيليين.
التعليم الأوروبي: بدأ هذا التعليم بالمغرب قبل الحماية، إذ بنت الرابطة الفرنسية منذ بداية القرن التاسع عشر مدارس في مختلف مناطق المغرب. كانت المؤسسات الفرنسية تشمل 655 تلميذا فرنسيا وأما المدارس الإسبانية، فتضمنت 170 (منهم بعض الإسبانيين). وشملت الإنجليزية 150، بما فيهم التلاميذ الإسرائيليين. . ولم تشتمل المدارس الألمانية على أكثر من 25، ضمنهم سويسريون، وإسرائيليون كذلك.
تكاثفت الهجرة الفرنسية بعد الحماية. كان الفرنسيون والإسبان والمالطيون يفدون إلى المغرب بهدف الاغتناء السريع. ولقد احتضنت المدارس الفرنسية الجنسيات المتنوعة، وجعلت المقررات شبيهة بتلك التي في فرنسا. ومن الأهداف التي سطرتها لهذا التعليم: إدماج العناصر غير الأوروبية في العنصر الفرنسي، وإشباعهم بالقيم الفرنسية، وتخريج المدارس الثانوية لنخبة قادرة على العمل في المغرب وخارجه. ولعل ما يسجل على التعليم الأوروبي انتهاج سياسة الانتقاء، إذ لا تستقبل من المغاربة إلا الذين ينتمون إلى وسط اجتماعي يثبت بالوثائق حسن السيرة والسلوك.
كان هذا عرضا يبين السياسة الطبقية التعليمية في مغرب ما قبل الاستقلال، ويُجسد الوضع العام الذي عرفته العربية، بحيث انحصر دورها في تدريس المواد الكلاسيكية والدينية، وقُلِّصت ساعاتها، وأسند تعليمها للمدارس العمومية لأغراض وظيفية محدودة. ولاشك أن ذلك أثر على تطور العربية وإمكان الرفع من مستوى أدائها. ولنا أن نتساءل عن الحلول التي جاءت بعد الاستقلال، هل الاستراتيجيات التي اتُبعت أعلت من مستوى العربية وأعادت لها الاعتبار العلمي الذي حُرمت منه طيلة فترة الاستعمار. هذا ما سنحاول الإجابة عنه فيما يلي.
3. سياسات التعريب في مرحلة ما بعد الاستقلال
تكلف بتعريب تعليم ما بعد الاستقلال وزراء ومسؤولوا وزارة التربية الوطنية، والمدرسون، وقليلا ما كانت تتم استشارة بعض الجامعيين.وظل، التعريب،كما هو معلوم، يتأرجح بين الازدواجية والتعريب، بسبب نقص التجهيزات، إلى حدود 1990.
ارتكزت سياسة التعريب على كونه وسيط العربية، وأداة تعلّم، وضرورة دينية وتاريخية وحضارية واقتصادية، ووسيلة لتعميم التعليم في المدن والبوادي، ورفع مستواه والقضاء على الفرق بين الحاضرة والبادية. اعتُبِرت الأحادية اللغوية غير مكلفة، من الناحية المادية. وعُدَّ التعريب مطلبا شعبيا يرتبط بالكرامة والوجود والمفاخر العربية، ويحمي الذات من الانفصام الذي يولد التناقضات. كان هناك وعي بأن اللغة العربية أصل الإدراك وتكون الفكر، وأن عبقرية الشعوب لا يمكن أن تتفتح بلغة غير لغتها، ويكفي دليلا على ذلك أن الإنتاج الأدبي والعلمي للمعربين بالمغرب أكثر من إنتاج المتفرنسين. بل إن التكوين، سواء أكان مهنياً أو علميا أو أدبيا، فإنه لا يمكن أن يبلغ مداه بغير لغة المكوَّن.3
وتؤكد وثائق وزارة التربية الوطنية أن اختيار التعريب اعتبر المصالح الاقتصادية العربية، إذ رُبطت مصلحة المغرب بالسوق العربي الإسلامي الذي يقتضي تبادل العلاقات وإتمامها باللغة العربية.4
لقد نُظر إلى التعريب على أنه ضرورة بالنسبة للابتدائي، خصوصا، لأنه المجال الحسّاس للتأثيرات الدخيلة. مقابل ذلك، اقترح صانعوا سياسات التعريب اللغات الحية في التعليم العالي، اقتناعا منهم بالموقع الجغرافي للمغرب الذي يجعله في ملتقى الطرق، ونقطة ربط أوروبا بإفريقيا، والغرب بالشرق، والمحيط بالبحر الأبيض المتوسط، مما يؤهله ليكون أداة تمازج الثقافات والتقائها.
لقد جمعت خطط التعريب سياسات التعليم بين القيم الدينية والوطنية والقومية الثقافية التي تستمد أصولها من التراث العربي التليد، وفوائد التفتح على العلم الحديث، والإلمام بالمدركات العلمية والتقنية، واكتساب الخبرة والمهارة اللتين تُؤهلان للاطلاع بمهام الإنماء والتطور.
بعبارة أخرى، اعتبرت خطط التعريب أن اللغة الوطنية تُذكي في المتعلم روح الأصالة، وتغذيه روحياً، وتُنمي شخصيته، وتُفتق قدراته ومواهبه، بينما تمكنه اللغات الأجنبية، في الثانوي والعالي، من التفتح الذي تقتضيه التنمية الاقتصادية والاجتماعية، خصوصا مع الدول التي للمغرب مصالح اقتصادية معها.
اعتُبر عدم تعريب التعليم العالي بدون خطر على التلميذ، لأنه يتلقى منذ الابتدائي اللغة الفرنسية لغة ثانية، بحيث إذا وصل العالي يكون قد درس الفرنسية عشر سنوات، على الأقل، مما يُؤهله لمتابعة الدراسة بالفرنسية.
1.3. تقييم عام
حين نقيّم سياسات التعريب الرسمية لمرحلة ما بعد الاستقلال، يلاحظ أنه بعد مرور ما يزيد عن خمسين سنة، مازال الآباء والمدرسون، والرأي العام، يشكو من عدم جودة البرامج في القطاعات المعربة، وغياب الوسائل الحديثة من كتب ومعاجم تُحيِّن العربية وتُحييها، وتربطها بقضايا العصر ومستجداته العلمية والتقنية والإعلامية والفنية. إن الطفل مازال يعاني من غياب رصيد معجمي يصله بالحياة اليومية ومكوناتها الحية، في عالم الحيوان والنبات والبحار والأطعمة والألبسة والأسفار ووسائلها في البر والبحر والسماء.
على مستوى آخر تستمر الفرنسية في قطاع التعليم العالي في المجالات الحيوية العلمية والاقتصادية. وإذا كان التكوين الجامعي عنصر تفتق العبقريات وبزوغ الإنتاج الراقي المتقدم، فإن التفتق والبزوغ، بهذا المعنى محصور على الثانوي. فهل المطلوب عبقرية في حدود الثانوي أم تقدم في مستوى دقيق متقدم يِؤهل لتقدم عالمي؟
تشير الانتقادات من هذا النوع إلى أن سياسة التعليم في المغرب لم تربط التعريب باستعمال عام للعربية، إذ حدته في المؤسسات التعليمية، وترتب عن ذلك تراجعه في المحيط المجتمعي. لقد كانت مرحلة التخطيط الأولى تطرح أسئلة من نوع: هل يُمكن أن ندرس بالعربية ونبلغ في الوقت نفسه مستوى الأمم الراقية في العلوم الحديثة؟ ألا يحول ذلك دون الرفع من مستوى معيشتنا، وحياتنا المادية إلى مستوى أرقى الأنظمة العالمية؟
هناك اليوم ما يُشبه التسليم بكون العربية تعوق فعلا، والدليل على ذلك التهاون في تعريب العالي، وعدم وجود سياسات حقيقية تعرب المحيط وترفع من جودة التعليم العربي.
لقد عرّف التعريب، على المستوى الحكومي الرسمي، على إنه إحلال اللغات الأجنبية، وإدخال مصطلحات جديدة للعربية، وإلزام الإدارة باستعمالها، دون غيرها، وجعلها أداة التعبير عن كل ما يدور في عصر الذرّة والصواريخ. إنه عملية شمولية هدفها جعل العربية لغة كل شيء.
تعارض مفهوم التعريب الشمولي مع ما عُرف بالتعريب الجزئي، والتعريب في إطار التكوين المزدوج: دعا الأول إلى تعريب تشغل فيه الفرنسية الحيّز الأكبر، والثاني إلى جمع اللغتين معا.
ولقد ساد التكوين المزدوج استجابة لعدم توفر الأطر الفنية والكتب والأدوات. ورافق ذلك اعتقاد عام بصعوبة العربية، وتعقد قواعدها، وعدم تضمنها لمصطلحات العصر الجديدة. ولذلك اعتُبرت محاولات التعريب تسرعاً غير مدروس، كان يتسبب في انخفاض المستوى.
كانت المدارس الابتدائية تعاني من الظروف الصحية والمادية والبيداغوجية السيّئة بسبب ضعف الاعتماد. كان أربع إلى خمس تلاميذ يتكدسون في الطاولة الواحدة، وكان عدد التلاميذ في القسم يصل إلى 110، وزاد الطين بلة نظام نصف الحصة الذي كان يُخفض من ساعات العمل.5
إن تجمع عوامل النقص شكلت مبررات قوية للعودة إلى الازدواجية، كما نلاحظ في عدد من وثائق الوزارة، ومنها عدد من المذكرات التي تتضمن حديثاً عن مشاكل تدريس التاريخ والجغرافيا. جاء فيها وصف لعدم توفر الدارسين على الخرائط والأطالس والكرات الأرضية، ووجود مدرسين لا يقدرون على تحديد جبل، جغرافياً، ومفهوم الجزية تاريخياً. تعددت الاقتراحات بين الدعوة إلى العودة إلى التحرير باللغتين معاً، أو فتح تكوينات في العربية. وبدا حل إيجاد الأدوات، من خرائط وأطالس وكتب بالعربية مكلّفاً. لقد كان المشكل يشمل المكونين والتجهيزات والعدد الكبير للتلاميذ، أي يتجاوز قضية لغة نقل المعارف إلى المعارف نفسها.6
ظل وضع العربية يتراوح بين الأحادية والازدواجية إلى أن صدرت التعليمات الملكية سنة 1978 بكون التعريب قاعدة انطلاق لا رجعة فيها، وفاءاً لنص الدستور المقر باللغة العربية اللغة الرسمية للبلاد، وتثبيتاً للمبادئ الأربعة التي صاغتها اللجنة الملكية للإصلاح سنة 1957، وفي أثناء إعداد الخطة الخماسية (1960-1964).
تحقق تعريب الابتدائي والثانوي، فعلاً، سنة 1990، لكن مازال العالي، كما قلنا فرنسيا في قطاعات العلوم والتقنيات. ولعل البحث عن أسباب ذلك يتعدى التفسيرات المحلية الوطنية إلى التعليلات القومية التاريخية، وهو ما سنحاول تتبعه فيما يلي.
4. التعريب: تصورات
إذا كانت التصورات العربية تُجمل وعي المثقفين العرب بالدور الذي يُمكن أن تتصدره لغتهم في بناء الحضارة العربية، والإنسانية، وفي التحرر والتقدم، وتمثيل الهوية والوطن والأمة، فإن هناك أخرى، أقل ما يُقال عنها أنها مغرضة. وقبل أن نفصل مضامين الأطروحات العربية، لنبيّن مبادئ هذه الأخيرة وأسباب الحكم عليها بالإغراض.
1.4. التعريب في التصور الفرنسي
نُمثل التصور الفرنسي للتعريب من خلال دراسة الباحث الفرنسي كَرونكَيوم grandguillaume، وذلك بتتبع آرائه من خلال ما يلي من التصورات الأربعة:6
- مشكل التعريب مشكل مرجع ثقافي وجماعي: يُميز كَرونكَيوم بين نوعين من العربية: الكلاسيكية لغة القرآن والدين والثقافة الإسلامية والهُوية الفردية والجماعية، ولغة التجذر العميق الذي يبقى بعد ضياع الإيمان عند المُلحد، والوطنية عند المُتجنِّس، واللغة عند المتفرنس. إنها لغة القداسة الموسومة في الوعي الشعبي، تستعصي على الاستعمال العادي بحكم الاصطفاء الإلهي. وأما اللغة العصرية، فلا تحظى بالقداسة، ولا التمثيل الهُوي أو الديني، وإن كانت تحاول أن تُدخل في منظورها البعد الإسلامي. ويُجمل مشاكل العربية العصرية في: عدم قدرتها على إدخال العصرنة إلى الثقافة العربية؛ وعدم توفرها على مرجع ثقافي خاص مستقل، يدل على ذلك محاولة الحلول محل الفرنسية عن طريق الترجمة، والرجوع إلى العالم الدلالي الخاص بهذه اللغة؛ وعدم توفرها على مرجع جماعي خاص، فهي لغة "ثالثية" ليست ملكاً لأحد في واقع الحياة اليومية، إنها لغة المواطنة العالمية، والبورجوازية الصغيرة، والتفتح للتأثير الخارجي، ليس لها لا حيوية اللهجة، ولا عمق الكلاسيكية، على حد تعبير ج. بيرك j berque في مناقشة إحدى الرسائل. والملاحظ من هذه المشاكل أن هناك تجريد للعربية من القدرة الفنية، والمسايرة العصرية، والحكم بعدم الحيوية والعمق. ولا شك أن هذا غير صحيح، بدليل الكتابات العربية المنشورة التي تعكس عمق التفكير واللغة في قضايا حيوية معاصرة تمس مختلف التخصصات في حقل المعرفة.
- مشكل التعريب مشكل تعريب-ترجمة وتعريب تحويل: لما استقل المغرب العربي (المغرب وتونس سنة 1956، والجزائر سنة1962) وجد نفسه محاطاً ببنيات إدارية ومؤسسات اقتصادية، وأنظمة تعليم تتحكم فيها الفرنسية تحكماً كلياً. لذلك أُعلن، رسمياً، عن التعريب، وتبني اللغة الوطنية للتحرر من الاستعمار الثقافي. وهكذا اتُخذت التدابير اللازمة لجعل العربية تؤدي الأدوار التي كانت تؤديها الفرنسية أيام الاستعمار. ولقد تجسد ذلك في إعطاء الفرنسية وضع لغة أجنبية، وجعل العربية لغة التعليم والإدارة والتواصل والعمل والمحيط والتجارة والصناعة والمظاهر الرئيسية للحياة العامة. إلا أنه مع مرور الوقت، صار التعريب، على غرار الاستقلال السياسي، مبدأً مقدساً وهدفاً لا يُناقش في البناء الوطني، وصار يُكون جوهر الخطاب الرسمي للسلطة في المجال الثقافي، والمطلب الأساسي للشعب. إلا أن هذا الإقرار اللغوي لشرعية لغة وطنية ظل يُقابله بطء في الإنجاز، وصعوبة في التخلص من الفرنسية، وأحياناً مقاومة صماء، وعقدة نفور من العربية، جعلت الممارسة الماضية والحاضرة والمستقبلة للمغرب تندرج في وضع تشكيك في الاتفاق الحاصل حول مبدأ التعريب. إن التعريب في بلاد المغرب العربي ليس بإعادة تعريب، لأنه لا يهدف إلى استرجاع الماضي والأصل، بل تعبير عن عالم مختلف عن عالم ما قبل الاستعمار، ولا أدل على ذلك من محاولة استعمالها محل الفرنسية لتعبر عن حقائق جديدة بالنسبة للرصيد العربي التقليدي: تحليل يُفرغ العربية من دوالها ومدلولاتها، ويجعل المعبَّر عنه جديداً، وجدَّتَه مشكلة لغوية. أما الفرق بين تعريب-ترجمة، وتعريب-تحويل، فيظهر من كون الأول دمج ما يشيع بالفرنسية في اللسان العربي، وذلك بقول ما يُقال بالفرنسية باللغة العربية، في حين يحيل الثاني على قول شيء آخر بالعربية، لكن بالطريقة نفسها التي يُقال بها بالفرنسية. وبصرف النظر عن دائرية التعريفين، يرى كَرونكَيوم أن الثاني يُعبر عن إرادة الاختلاف، والعودة إلى الذات والأصالة، لأنه إعادة تعريب. كما يرى أن المغرب العربي يختار الاختيارين معاً: يتجلى الثاني في عنايته بمواد الأخلاق والإيديولوجيا والآداب والفلسفة، في اتجاه تعريب-تحويل، ويتجسد الأول في الاستمرار في تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية. ويستنتج أن الأول يسير نحو تماثل الثقافات وتقاربها، بحيث يصير التعريب عطفة غير ضرورية، في حين يلائم الاختيار الثاني المحافظة على هوية خاصة في إطار ثقافة خاصة. وبهذا نلاحظ كيف يصبح تدريس العلوم بالفرنسية اختياراً يُسمى بتماثل الثقافات.
- مشكل التعريب مشكل ازدواجيات لغوية: يذهب كَرانكَيوم أن في المغرب العربي نوعين من التحول: الأول، على مستوى الازدواج: عربي-فرنسي، وعربي-عربي. يسعى الأول إلى إعطاء العربية المكتوبة كل الأوضاع اللغوية التي تأخذها الفرنسية، ويحاول الثاني، على عكس في الظاهر، إلى تصفية اللهجات بنمطيها العربي والأمازيغي. وإذا كان من السهل تنفيذ التحول الثاني، لأنه رهن بتعميم التعليم ومحو الأمية، فإن من الصعب إنجاز الثاني، وذلك لعدم قدرة المغاربة على التعبير عن معطيات العصر في غياب معجم موحد للحضارة العصرية، وعدم وجود أكاديمية تنجزه. إن تصفية اللهجات أمرا غير وارد ويتعارض مع كون الازدواج ظاهرة طبيعية. أما بالنسبة للتحول الثاني، فإن قضية إنجازه، وإحداث مؤسسات تهييئه، يتوقف على الإرادة السياسية، لا أكثر.
- مشكل التعريب مشكل تشكيك في التعددية: يُدافع كَركَيوم عن تشكيك التعريب والعربية في التعدد من خلال ما نعرضه في الأفكار التالية:
- وظيفة التوحيد في إطار الإسلام: العربية الفصحى لغة القرآن والوحدة الإسلامية، والعربية، تمثل الأصل الصافي، الذي قد يتفاعل مع اللهجات، لكنه لا يتلهج. إذا كانت هذه مزايا، فإن كَركَيوم يراها عوامل تشكيك في التعددية، لأن لها وضع اللغة المقدسة التي تخرج عن الاستعمال العادي. بعبارة أخرى إن وظيفتها أيديولوجية لا تتعدى التوحيد.
- وظيفة التوحيد في إطار الأمة: يرى أن المغرب العربي يستهدف تأكيد الذات في إطار تعارضين: عربية-فرنسية، من جهة، وعربية-لهجات، من جهة أخرى. يُحلل الكيفية التي يُمكن أن تنتشر بها العربية لتأكيد الذات معتمداً عدداً من الخصائص التي أخرجتها الدراسات الفرنسية بخصوص انتشار الفرنسية في عهد الجمهورية III، منذ عهد الثورة الفرنسية، وتتلخص في توحيد لساني ضروري، حتى تستطيع القاعدة الإنصات إلى السلطة؛ وتثمين للثقافة المركزية على حساب الثقافة الوطنية المحلية؛ واعتبار اللغة تُرمِّز الوحدة الوطنية، ووظيفتها تمثيل مُعترف به لهذه الوحدة. ثم يستنتج، أن المغرب العربي لا يُمكن أن يُحقق الخاصية الأولى، لأنه يحتاج إلى لغة تواصل مع مواطنين مختلفين، مثقفين يعرفون الفرنسية، وآخرون لا يعرفون لا العربية ولا الفرنسية. ويتطلب إصلاح اللغة، بالنظر إلى الخاصية الثانية، تثمين العربية على حساب اللغة الفرنسية واللهجات كذلك، أي أداء دور العصرنة التي تؤديه اللغة الفرنسية، وتصفية اللهجات باسم الوحدة الوطنية. ويُلاحظ من خلال الخاصية الثالثة أن التعريب يختلف باختلاف رمز الوحدة. ففي الجزائر، مثلا، التعريب "يعقوبي" غير متساهل مع التعدد، إذ الوحدة اللغوية هناك هي الضامن الشرعي للسلطة الموجودة. وفي المغرب، فإن الملك رمز الوحدة، ولذلك فإن التعريب ليس سوى إعادة إنتاج للقيم الثابتة. وعموماً، خلاصة تحليل كَرنكَيوم قوله إن هناك سعي لتصفية التعدد بتصفية الفرنسية واللهجات العربية. والواقع أن الازدواج طبيعي، وأن التفتح على الفرنسية يعد مكسباً إذا لم يكن يُعيق تقدم العربية في المجالات الراقية. أما جعل التعدد هو اللغة الفرنسية وتصفيته تصفية لهذه اللغة، فإنه أمر غير منطقي وغير مفهوم.
- اللغة والهوية: ينطلق كَرنكَيوم من وجود مرجعيات مختلفة في المغرب العربي: الفرنسية وتحيل على العصرنة والتطور والاستهلاك، والعربية وتحيل على الإسلام والهوية والماضي والتاريخ. ويرى أنه إذا كان المشرق قد نجح في جعل العربية تؤدي وظائف اللغة الأجنبية، فإن تحقق ذلك بعيد في المغرب العربي. وينتهي إلى أن أحادية اللغة تربطنا بالهوية، بينما تعدد اللغات يُعيد إلى ممارسات اجتماعية مختلفة، ويوصل إلى استقلال كبير للذات غير الراغبة في التطابق مع لغة واحدة. ويخلص إلى أنه إذا كان التحرر الحقيقي يعبر عن استقلال الذات الكبير، فإن الازدواج العربي-الفرنسي في المغرب لا يُعتبر عقبة في وجه وعيه بهويته، بل إنه شكل أعلى للهوية: يُغني الفرد والوسط الاجتماعي، ويُمكن أن تزيد نفعيته إذا اعتُبرت فيه اللغات الأم اللهجية: العربية والأمازيغية. وهكذا، وبناءاً على مسلمات خاطئة، تصير العربية لغة التقليد، والفرنسية لغة التطور، ويصير التعدد الهُوي عربياً فرنسياً أساساً.
2.4. التعريب في التصورات العربية
نعرض تصور باحثين عرب (مشارقة ومغاربة)، ونبين وضوح الرؤى والأهداف، من حيث كون المشكل سياسياً أساساً.
1.2.4. مشكل التعريب مشكل تفتح تبعي والحل تفتح فعلي
ينطلق الطاهر لبيب من السؤال: لماذا تفشل الأنظمة العربية السياسية في تنفيذ مشروع التعريب رغم ادعاء تبنيه والقول بشرعيته ومشروعيته، ووضعه فوق الواقع الاجتماعي؟ ويجيب بكون السبب يعود إلى عجز بنيوي، وأن للعجز عوارض وأسباب ونتائج وحلول.7وتتجلى عوارض العجز البنيوي في التبريرات التقنية المكررة، والمعهودة التي تقوم على ثنائية المبدأ والتطبيق المتجلية في أقوال مثل: إن التعريب ممكن وضروري، ومن قال غير ذلك فقد خان، نعم للتعريب مبدأً، ولكن لا للتعريب تطبيقاً، ومن ثم المبررات المشاكل من نوع بقايا الاستعمار والتخلف والنقص في الإطار البشري والمادي والخوف من انخفاض المستوى. ويُسبّب العجز البنيوي تفتحاُ تبعياً وتفكيراً غير صحيح في قضية التعريب. لقد نتجت التبعية، تاريخياً، عن الهيمنة الاستعمارية الأمبريالية للتطور الرأسمالي العالمي، وصارت شرطاً لاستمراريته، وفي هذا الإطار تبلورت الثقافة العربية المحلية التابعة للخارج، ونشأت وأمست قوة اجتماعية وسياسية وصناعية وتجارية وسيطة تتزايد كمّاً ونوعاً وتأثيراً بتزايد ارتباط مصالحها بانفتاح اقتصادي، ينتج عنه ويُدعمه استهلاك فكري، وسلوك ثقافي، واستعمال وظيفي للغة أجنبية أكثر مردوداً، ونفعاً ونجاعةً وفعالية في تحقيق ربح مضمون ومباشر، مصيره مرتبط بمصير الثقافة الأجنبية، ولغتها، لكنه ارتباط مرغوب فيه طالما أنه يُحقق الربح. وينتج عن هذا الارتباط عدم ربط مشروع التعريب بمشروع مجتمعي أعم، وعدم قطع الصِّلة مع المستعمر مباشرة بعد التحرر السياسي منه، والقول بكلفة التعريب والتحديث اقتصادياً، واعتبار التخطيط له، على المدى البعيد، واستبداله، مجازفة. ويترتب عن ذلك أيضا الهيمنة والنفوذ الاجتماعيين والنفسيين اللذين تمارسهما اللغة الأجنبية في الأقطار العربية لدى المدافعين عن اللغة القومية أنفسهم، وتنتج المقارنة القائمة بين العربية والأجنبية: العربية ما اقترن بالتقليدي، والرجعي والأجنبي، والأجنبية ما اقترن بالعصري والتقدمي. وهكذا تُتابع اللعبة التي أصبحت مكشوفة بثنائياتها وتناقضاتها ومواقفها باسم التفتح "الموضوعي" على اللغة الأجنبية، وإن كان التفتح المقصود، في الحقيقة، تفتح على لغة المستعمر القديم وثقافته وأيديولوجيته. فبلغته يُعاد إنتاج العلاقات السائدة، ويُعتبر ما يأتي بلغة أخرى إيديولوجية مستوردة لا حاجة للعرب بها. وإذا ما نظرنا في التفتح المزعوم في الأقطار العربية، وجدنا من الظواهر أن النسق الثقافي المُتَفتّح عليه رأسمالي أمريكي أوروبي، يدعي الكونية، ويُمثل الإنسانية؛ وأن اللغة الأجنبية المتفتح بها تُحدد داخل النسق المُتفتَّح عليه خصوصية ثقافة المستعمر القديم المتفتَّح عليها. ففي الوقت الذي يتصور المغربي أو التونسي أنه متفتح على الثقافة الإنسانية يجد نفسه متفتِّح، عملياً، على ثقافة فرنسية، ولا يعرف من الثقافة الإنسانية إلا ما تسمح به لغة تفتحه، ناهيك عن عجزه كتابع مستهلك بالنسبة لصاحب اللغة المُبدع فيها، إنه دائماً متأخر في مواكبة تطور أشكال ومضامين هذه اللغة؛ ثم إن التابع المستهلك يتحمل ضعف اللغة الأجنبية المُعوّل عليها محليّاً في الاتصال بالعالم، والمُتتبعون للوضع الثقافي الفرنسي يعرفون بوادر تبعية فرنسية للغة والثقافة الأنكَلوسكسونيتين؛ كما، يُكون المستهلك ( التابع )
تصورا خاطئا عن الثقافة الإنسانية، أقصى حدوده عملية التطابق المحتمل في الذهن بينها وبين الثقافة المُهيمنة؛ وأخيرا، تُعزل المجتمعات العربية التابعة بعضها عن بعض، وعزل العربي عن واقعه، واهتماماته العصرية.
أمام هذه الحدود الموضوعية للتفتح، يصير حل التعريب الحل العملي الوحيد، وتصبح التوضيحات والأبعاد التالية الدعم النظري الراسم لحدوده:
توضيح 1: إن ما يُسمى تفتُّحاً قد لا يكون شيئاً سوى عملية استيعاب للمضمون التبعي لعلاقة المجتمع بالخارج؛
توضيح 2: إن الخوف من اقتران التعريب بالانغلاق خوف نتيجته المرحلة بعد-الاستعمارية، سابقاً ونتيجته التفكير السكوني اليوم في المجتمعات العربية. ثم إن مفهوم التفتح والانغلاق مفهومان نسبيان، ولا يعني الأول أنها حالة متقدمة ومتطورة، وبالتالي أرقى، بالضرورة، بالنسبة للثاني، وإلا جاز القول: إن مصر متفتحة وكوبا أو الصين منغلقة.
بعد 1: بعد الاختيار: إذا كانت لغة التبعية تفرض مضموناً ثقافياً واحداً، فإن العربية تسمح باختيار متعدد؛
بعد 2: البعد الجماهيري: إذا كانت لغة التبعية لغة تفتح النخبة، فإن الجماهير لا تنفتح محلياً، وعربياً وعالمياً إلا بالعربية، وكل مجتمع لا تنفتح جماهيره يُعد غير منفتح.
2.2.4. مشكل العربية سياسي وقومي ليس إلا!
يرى مصطفى الفيلالي أن قضية العربية قومية سياسية بالأساس، ذلك أن قرناً كاملاً من المجهودات اللغوية العلمية على مستوى مجامع اللغة العربية، من مجمع دمشق الأول إلى مجامع القاهرة وبغداد والأردن قد زوّد العربية المعاصرة بالأدوات الفنية الكافية انطلاقاً من طاقاتها الذاتية. ولقد وُفق اللغويون والكتاب واللسانيون وأصحاب العلوم الدقيقة العرب في إثراء المعجم العربي بعشرات آلاف المصطلحات العلمية نحتاً وتعريباً واقتباساً مما أعاد إلى العربية قدرتها السالفة على حمل رسالة الإنسان في الحالات المعاصرة. غير أن هذه القدرة تنتظر التحول إلى قدرة بالفعل، إذ لا تزال هناك طاقات استعداد وترقب لم يستفد منها المجتمع العربي ليعود إلى الاعتزاز بلغته، وينهض لها بواجب الوفاء والإخلاص، ويخرج من أوهاد التبعية الفكرية والحضارية للمجتمعات الغربية.8
3.2.4. الثورة الثقافية الشاملة حلاً لمشكل التعريب
يعتبر محمد عابد الجابري أن التعريب ليس إحلال اللغة العربية محل اللغة الأجنبية، بل ثورة ثقافية شاملة تمتد إلى كل الحياة العامة، الاجتماعية والمصطلحات والكلمات والجمل لا تشمل قطاعات دون أخرى استجابة لسياسات التدرج والتجزيء المبررة بمبررات واهية مثل تجنب الاضطراب والفوضى ونهج الحكمة والتبصر لقلة الأطر والإمكانات. بل إن التعريب لا يتم إلا ضمن الثورة السياسية والثقافية والاقتصادية، التي تستهدف الشخصية المغربية والفكر والقوالب الفكرية، وتبعث القومية وتغير الذهنية، وتجدد أساليب العمل والتفكير، وتعطي للثقافة المغربية لساناً ومضموناً عربياً قومياً يستمد عناصره من الجوانب العقلانية الأصلية والتقدمية في التراث، وينبع من صلب المشاكل اللغوية، ويُعبر عن مشاغل المغاربة واختياراتهم. ويتم التعريب من هذا النوع بشيئين اثنين:9
مستوى اللغة: ويكون بالعربية الفصحى ولا شيء غير العربية الفصحى، ويتم ذلك ب:تصفية اللغة الأجنبية لغة حضارة وثقافة وتخاطب وتعامل؛ وإماتة اللهجات المحلية: الأمازيغية والعربية الدارجة؛ وتحريم استعمال لغة أو لهجة غير العربية الفصيحة في كل مرافق الحياة.
التربية الشعبية، وتكون ب: تخصيص برامج متنوعة مخططة للتربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تستمد مضمونها من آفاق الهدف الوطني العام (البناء الاشتراكي)، وتُعنى بإعادة التكوين الدورية المستمرة المخططة.
ويكون التعريب بهذه الشروط تاماً وشاملاً، لأن استعمال العربية الفصحى سيُبسط الفصحى، ويرفع من مستوى الدارجة، ويخلصها من الهجانة والمزجية والتشويه الذي يأتيها من الكلمات العربية والأجنبية، وسيجعلها لغة شعبية تعكس أحاسيس الناس وتطلعاتهم. ويضمن الاهتمام بالتربية الشعبية مجتمعاً مغربياً عربياً تقدمياً لا يُخشى من عودة أطفاله إلى الأمية، إذا ما غادروا المدرسة. ثم إن التعريب بهذا المعنى يُمكن أن يُنجز في ظرف زمني قصير.بضمان الثورة الثقافية الشاملة.
4.2.4. مشكل التعريب مشكل تاريخي وحله ثورة ثقافية شاملة
يُعرف عبد الله العروي التعريب بنشر ثقافة عصرية علمية جماهيرية في وقت وجيز بإصلاح اللسان العربي في إطار وحدوي قومي يوفر الإمكانات التعبيرية المرنة والدقيقة والموجزة.
تقوم مقاربة التعريب من هذا النوع على تحليل مُقارن يُميز فيه بين اللسان كمنظومة مكتوبة دورها أن يُصب فيها غيرها من اللهجات واللغات العلمية والاصطلاحية التي يجب أن تتحول إليه من مجالها الضيق فتخلق معه علاقة تتيح له بدوره التغير والتجدد. وعليه، فإن الوضع الطبيعي الذي ينبغي أن يكون عليه اللسان وضع لغة تتفاعل وتنفعل مع ما حولها من اللهجات واللغات. فهل هذا وضع العربية؟ الجواب لا. والسبب سببان يتمظهران من خلال مشكلين أساسيين: مشكل اجتماعي وآخر حضاري/ثقافي.10
لقد بدأ مشكل التعريب في مظهره الاجتماعي حين وقف اللسان العربي عن أداء وظيفته، فدخل بذلك مرحلة الجمود والاستقرار والتمام والكمال واللاتجدد الذي تُتيح للسان آخر دخيل إمكان القيام بدور الوسيط بدله. وإذا كان السؤال المطروح: بماذا نفسر محاولات الإصلاح اللغوي المترجم بوضع المصطلحات والتراجم، وإنجاز عدد من الأعمال (اللغوية وغير اللغوية)، فإن الجواب: إن عمليات الإصلاح من هذا النوع لا تصب في اللسان المقعد، ولا تغيره، وهنا يكمن الحجر العثرة المعترض للتعريب: إنه المشكل الثاني في مظهره الثقافي/الحضاري: يبدأ هذا المشكل منذ اللحظة التي يتوقف فيها إصلاح اللسان، فيدخل مرحلة الإيمان الميتافزيقي والماورائي بأنه مطلق، وغير عرضي في شكليه: اللغوي والإعرابي، ويصير كل عمل صناعة، ليس إلا! بل يصبح هو نفسه صناعة (لغة أو لهجة خاصة بمجموعة من الناس في قطاع معين علمي معين، علمي أو فني أو لغوي أو غير ذلك).
ويكون إصلاح اللسان العربي بوضع خطط وحدوية. ذلك أن مشكل التعريب في مظهره الاجتماعي سياسي آني عرضي، لكنه في مظهره الحضاري/الثقافي تاريخي خطير لا يُمكن أن يكون إلا في إطار ثورة قومية شاملة، يأتي فيها قرار الوحدة قرارا،ً أولا، والنمو الاقتصادي، ثانياً، والتنظيم الاجتماعي، ثالثاً، واللغوي رابعاً.
5. خلاصة
لقد رفضنا ضمنيا التصور الفرنسي الذي يحصر التعدد في العربية واللهجات والفرنسية، وتبنينا الرؤى العربية (المشرقية والمغربية) التي تعالج التعريب، باعتباره قضية قومية ومسألة تاريخية، ينبغي مقاربتها بالاستراتيجيات الثورية الكبرى، لا التجزيئية الصغرى.
الهوامش :
1 . نستقي ما نورده من معلومات من:
R.Gaudegoy Demombynes,.1928, Loeuvre Francaise en matiére d’ Enseignement au Maroc, Paris.
2 . أسسها الفرنسيون لمساعدة الإسرائيليين.
3 . من هذه الوثائق، انظر، على سبيل المثال لا الحصر:
قضايا التعليم الثانوي، 1980، ج1، تعريب التعليم، 1960، التعريب في مضمار التعليم، 1961، الخطابات الماكية 1974-1990، المغرب في المعرض الدولي للغات، 1983، باريس، الندوات الصُحفية التي كان يعقدها وزراء التعليم (منها، مثلاً، ندوة عز الدين العراقي بمناسبة الدخول المدرسي والجامعي 1985-1986)، توجيهات الملك الحسن الثاني لأعضاء الحكومة أثناء انعقاد مجلس وزاري مصغر لدراسة قضايا التعليم، 1987، واللائحة طويلة.
4 . انظر العرض الذي ألقاه الوزير محمد الديوري بكلية العلوم: إلى أين يسير التعريب
5 . يعود نظام نصف الحصة إلى قلة التجهيزات، بما في ذلك القاعات: المرجع نفسه.
6 . المرجع نفسه: جاء في أحد الدروس أن عريفاً سأل ثلميذاً بشؤال مصاغ على الشكل التالي:
أربعة حمير، وثلاثة جمال، كم؟ وعلى الرغم من سوء صياغة السؤال، أجاب التلميذ: سبعة، لكن العريف رد عليه بسؤال: سبعة ماذا؟ فهذا مثال يبين جهل المدرس لقاعدة الجمع الأساسية التي تقتضي ألا يُجمع إلا الأعداد من طبيعة واحدة.
7. انظر:
G.Grandguillaume, Arabisation Et Politique Linguistique au Maghreb, Editions Maisonneuve et Larose, 1983
8. الطاهر لبيب، البعد السياسي للتعريب وصلته بالوحدة والديمقراطية، ضمن:
التعريب ودوره في تدعيم الوجود العربي والوحدة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،1982.
9. مصطفى الفيلالي، تقويم تجربة التعريب في المشرق العربي، المرجع نفسه.
محمد عابد الجابري، أضواء على مشكل التعريب بالمغرب، دار النشر المغربية، البيضاء، د.ت.
10 . عبد الله العروي، التعريب وخصائص الوجود العربي والوحدة العربية، ضمن:
التعريب ودوره في تدعيم الوجود العربي والوحدة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1982.
ثريا خربوش
كلية الآداب-المحمدية
كلية الآداب-المحمدية