تحتاج حاضرة الفاتيكان، كدولة ذات خاصيات دينية وروحية، إلى متابعة لمواقفها وسياساتها بشأن القضية الفلسطينية، لمعاينة الثوابت والتحوّلات، وهو ما يستدعي بالمثل، توقّفا عند طبيعة العلاقة مع إسرائيل أيضا. إذ يتداخل الديني بالسياسي في مناورة الفاتيكان، وهو ما يستلزم الإمساك بالتأويل النصّي القدسي في دلالته الكاثوليكية من ناحية، وبالمثل الوعي بموقع الفاتيكان في السياسة العالمية، كدولة منخرطة في المجتمع الدولي وشتى التحالفات والولاءات التي تتجاذبه. إذ التصور الديني لفضاء فلسطين، يتحدّد ويتعرّف لدى الفاتيكان بنصّ جامع مانع، الكتاب المقدّس بشقّيه القديم والجديد، ويردف بواقع حالي صنعه الإنتداب البريطاني، فصل فيه الفضاء الفلسطيني عن بنيته التاريخية والتراثية والدينية.
فالموقف الفاتيكاني من فضاء فلسطين، تنطلق مقوّمات وعيه من مدوّنة نصّ لا واقع نص، أي الأرضية الحضارية والتاريخية للمنطقة. ومن هنا عُدَّ المترسّب البشري على الرقعة الجغرافية الفلسطينية مهمَّشا، في حين كان النصّ المقدّس بشقّه القديم أساسا هو المرجع والفيصل، والخاضع لتأويلية وعي صنعتها الرؤية العزْراوية التي ختمت الصياغة النهائية للتوراة. مهتديا بذلك يؤسّس العقل الفاتيكاني وعيه بتراث المنطقة وشعوبها، عبر استلهام المنتوج الحبري -مدارس صياغة التوراة- ويلغي كافة المدوّنات الخارجة عن النصّ المقدّس، باعتبارها مرجعية أبوكريفية منتحلة، برغم الحجّية العلمية المعتبرة لها والتصحيحية أحيانا للنص التوراتي الرائج اليوم.
كان هذا المدخل ضروريا لمتابعة أسس وعي الكنيسة الكاثوليكية بالمنطقة، والذي بدأت تتجلّى ملامحه مع الأطماع الصهيونية المبكّرة في فلسطين، وما رافقها من ردود أفعال محلّية. يذكر الأستاذ علي المحافظة في كتابه: "الحركات الفكرية في عصر النهضة في فلسطين والأردن" أن أوّل من أشار إلى الأطماع الصهيونية في فلسطين الرهبان الكاثوليك، الذين كانوا يتابعون باهتمام وقلق النشاط الصهيوني، فقد نشر هنري لامنس اليسوعي مقالة في مجلّة "المشرق" عام 1899م بعنوان "اليهود في فلسطين ومستعمراتهم" تحدّث فيها عما ذكرته صحف الأستانة عن انتشار اليهود في فلسطين، وحثّها السلطات العثمانية على مواجهة النشاط الصهيوني. كان انتشار الرهبان والمبشّرين اليسوعيين الكاثوليك مكثّفا في تلك الفترة، وكانت مساعي الإستيطان الصهيوني في بداياتها، وبرغم ذلك مثّلت تناقضا حادا مع المخطّط الكنسي. فقد جاء ردّ البابا بي العاشر (1835-1914م)، في الخامس والعشرين من يناير 1904. على تيودور هرتزل برفض حاسم بشأن توطين اليهود في فلسطين بقوله: "إن اليهود لم يعترفوا بربّنا يسوع المسيح ولأجل ذلك ليس بوسعنا الإعتراف بالشعب اليهودي"، ومن هذا المنظور كان اليهودي أو المسلم، الذي يقيّم المسيح تقييما يتناقض مع الفهم الكاثوليكي، لا شرعية ولا حق له في "أرض المسيح"، ستبقى هذه العقدة متحكّمة في النظرة للقدس ولفلسطين عموما.
بدأ الوعي العربي بالطوارئ التي تزحف نحو المنطقة يجلو حثيثا بعد صدور وعد بلفور في الثاني من نوفمبر 1917، وما دعا له من إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، مما شجّع الفلسطينيين المسيحيين للتكاتف مع المسلمين في جبهة قومية داخل ما عرف بالمؤتمر الإسلامي المسيحي، والذي تطوّر إلى انتظام حزبي في الثلاثينيات. كانت أنشطة الوفود العربية مع روما تسعى أساسا للتعريف بالمخاطر المحدقة بالفضاء الفلسطيني، حيث استُقبلوا من طرف البابا بندِتّو الخامس عشر (1854-1922م) سنة 1921، الذي اقترح تدويل القدس وفلسطين، وهو ما لم يلاق ترحيبا لا من الطرف العربي ولا من سلطة الإنتداب البريطاني، التي كانت تتهيأ لإنشاء وطن قومي لليهود، ولم تشفع المشاركة المسيحية العربية للتأثير في مجريات الأمور بشأن فلسطين.
إذ تَبيَّن أن دعم حاضرة الفاتيكان للمسيحيين العرب في المنظّمات والأحزاب العربية في المنطقة ما كان لنصرة قضاياهم، وإنما كان يهدف لإبراز الحضور الغربي في المشرق، لاستغلال الأمر لتكثيف الشوق المسيحي لمهد المسيح عامة، وفي الوجدان الكاثوليكي خاصة، ولدعم الإرساليات التبشيرية لا غير. ولأجل ذلك تابع الفاتيكان بعين الريبة الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939)، التي كانت تحت إمرة قيادات دينية إسلامية، وكذلك تصاعد المدّ القومي الذي طالب بدولة عربية موحّدة وموسّعة في الشرق الأوسط. فالدولة العربية الواحدة التي تحمل في مكوّناتها الأساسية الخاصيات والأبعاد الإسلامية، كانت تشكّل في تقدير الفاتيكان، خطرا على أطماعه في المناورة لإخراج فلسطين من التوحّد العربي. كلّ ذلك ينبع من كون الفاتيكان ما كان يرى أصالة الحق العربي في المنطقة، ولذلك جاءت نداءاته بالتدويل لإخراج فلسطين من القبضة العربية.
فما أظهره البابا بي الثاني عشر (1876- 1958) من غضب على أعمال الشغب، ومناداته بالعدالة والسلام والحماية الدولية لفلسطين في تصريحه يوم 24 أكتوبر 1948، يأتي ضمن توجه سياسي نابع من فهم ديني ينتهجه الفاتيكان، والذي تقنّن بوضوح في رسالة -Redemptoris Nostris- في الخامس عشر من أبريل 1949، التي تضمّنت حق اللاّجئين في العودة، مع عدم التصريح أو التلميح بوجود شعب أغتُصبت أرضه وإنما التعرّض لمجرّد لاجئين ينبغي التنبّه لحقوقهم. كذلك أشارت نفس الرسالة إلى عدم الاعتراف بدولة الأردن ما لم تسوّ مسألة المدينة المقدّسة، كما ترتئيها حاضرة الفاتيكان، فقد كان البابا يخشى استحواذ الأردن على القدس، وهو ما لا يرضى به.
بعد الإعلان عن تأسيس الدولة الإسرائيلية ستشهد سياسة الفاتيكان تحوّلا جذريا هائلا، على المستوى اللاّهوتي والسياسي، وستكون له نتاجات خطيرة على المنظور الديني المسيحي عامة. فمع حلول عشرية 1950-1960 بدأ الحديث داخل المؤسّسات البابوية، التبشيرية والتعليمية، عن طرح مستجدّ يتلخّص في الحديث عن التراث اليهودي المسيحي المشترك، باعتبار إسرائيل هي "الجذر" والكنيسة هي "الشجرة"، يمثل فيها المسيح "التوراة المجسّدة". إضافة إلى التأكيد على الأصل اليهودي للمسيح وإبراز ذلك والإلحاح عليه، فأنتجت المسألة تأويلية جديدة للعهدين القديم والجديد، توزّعت الرؤى فيها بين اللاهوتيين ج. دانيلو وهـ. دي لوباك وفون بالتزار من ناحية، وك. راهنر وهـ. رشلاتي من ناحية أخرى، والتي ستتجلّى مؤثّراتها لاحقا في رسالة -Nostra Aetate- 1965، التي ستلغي مقولة الشعب قاتل الإله (أي المسيح)، وما سيتبعها من مساع لتنقية التراث المسيحي وتصفيته من أي نفس معاد لليهود، اشتغل به رهبان مهتدون من أصل يهودي أساسا.
داخل هذا الجدل الديني السياسي، يطرح في الأثناء تساؤل مركزي بشأن الفواعل المتحكّمة بالعقل الفاتيكاني وتجلّياته السياسية، فأي قاعدة لاهوتية أساسية تتحكّم بوعيه الديني وتوجّهاته السياسية؟ فالمتابع لتاريخ اللاهوت المسيحي الأوروبي يدرك بيسر الخط الإتباعي للمنطلقات الربّانية اليهودية الكبرى: الشعب المختار، المسيا، العهد، الأرض المقدّسة، جغرافية التوراة، ولم تشفع التأويلات اللاّهوتية الثانية لهذه المنطلقات لإيجاد تحرّر أو تصحيح للبيئة المعرفية ودلالاتها.
كانت المدرسة النقدية للتوراة، مع كارل ستادت وجون أستروك ويوليوس فلهاوزن ولودز، قد أشارت إلى حقائق علمية، أصبحت بمثابة البديهيات لدى المنشغلين بعلم التوراة، حول الدور البشري في صنع الوعي الديني اليوم، المفتقد لأي دعامة أو مصدرية إلهية أو غيبية، كما تروّج ذلك الكنيسة وطوائف الأحبار اليهودية، ناهيك عما قام به المؤرّخ كمال سليمان الصليبي من زعزعة للوعي المترسّب والسائد بين اليهود والمسيحيين والمسلمين حول جغرافية التوراة الشائعة، معتمدا على قراءة التوراة في بكارتها اللغوية والهجائية قبل عملية الضبط الماصوريتي، التي تمت حوالي القرن السابع الميلادي، والتي شكلت الفهم السائد اليوم.
فالفاتيكان في إرثه السالف العائد لحقبة الآباء، وخصوصا أثناء الهيمنة الرومانية، شهد أخطر التحويرات اللاهوتية، بما خلّفته من غياب هوية لاهوتية مستقلّة للكنيسة متحرّرة عن السلط الزمنية. نجد نفس العامل يحضر مجدّدا لديه مع حقبة التأوْرب الحديثة، فالكنيسة الفارّة من مطحنتي الثورتين الفرنسية والبلشفية، اللتين اعتبرتاها أخطر المؤسّسات الدغمائية على الكينونة البشرية، وفّقت في العودة الثانية للوعي الأوروبي، ليس بفعل تحوير طروحاتها أو تهذيبها ولكن بفعل خارج عنها، يستند على الدور التوظيفي لها داخل الكتلة الرأسمالية، لمواجهة المد الشيوعي الزاحف حينئذ. كانت ذرائعية الرأسمالية لا تتوانى عن توظيف اللاّمعقول والأسطورة والغيبية لرصّ الصفوف ضدّ المناوئ الشيوعي الشرس. ولعل تنصيب البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، ذي الأصل البولوني، إحدى العلامات التي باتت جلية في استراتيجية الرأسمالية لمواجهة الكتلة الإشتراكية سابقا، ومحاولة تفتيتها من داخلها. والذي استدعى صهر المؤسّسة الكنسيّة ضمن الجهاز الإيديولوجي الرأسمالي، ونزع كل الألبسة التقليدية والبالية عنها للإنخراط في الحداثة ومابعدها، والتي استلزمت إنتاج خطاب لاهوتي محدث مع "الأعداء الأبديين، قاتلي الرب، اليهود" والإبداع لتأويلية العفو والصفح والخلاص للجميع. فالكنيسة المرسملة مستعدّة لإنتاج أي خطاب، تجاه أي قضية أو إيديولوجيا، بحسب متطلّبات قوى النفوذ المتحكّمة بالساحة. فما عاد للخطاب اللاّهوتي الفاتيكاني استقلاله عن الواقع السياسي والاقتصادي، ولذلك كان مصير اللهاويت التحرّرية، والثورية، والنقدية التي تواجدت في الأطراف، العزل والتهميش، والتأثيم والحرمان لقادتها، ذلك كان مصير فرناندو كردينال وغوستافو غوتيراز وإيمانويل سفيرينو وسلفاتوري ناطولي وأشباههم. داخل هذ المناخ تولّد الخطاب الفاتيكاني الحداثي مع اليهودية وإسرائيل، والذي اتخذ ثلاث محطات لبلوغ الإصلاح والتطبيع النهائي:
الإنتقاد للاّسامية والتحزّب ضدّها من داخل رجال الدين.
الدعوة لحوار الأديان والتأكيد على محورية الطرف اليهودي فيه.
تأثيم المسيحية لذاتها.
يمكن متابعة هذه المراحل بجلاء من خلال أعمال المؤتمرات والمجامع المنعقدة بعد الحرب العالمية الثانية، والتي ضبطها المؤلّفان الإيطاليان جوفاني شيريتي وليا سستياري، والتي سنعود لتفاصيل مضامينها عند حديثنا عن الإستراتيجية الإسرائيلية في علاقاتها مع حاضرة الفاتيكان.
المتأمّل في طبيعة السياسة التي ربطت الفاتيكان بالصراع العربي الإسرائيلي، يتبين أن الأطراف العربية بمسلميها ومسيحييها، قد أيقنت، على إثر محاولات الإتصال المبكّرة بالفاتيكان، من تخاذل المؤسّسة الكاثوليكية الممثّلة في الفاتيكان عن الحقّ العربي في استرجاع فلسطين. فبدأت الجموع العربية المسيحية، سواء داخل فلسطين أم خارجها، تدرِك يقينا لا ريب فيه، خضوع الكنيسة الكاثوليكية لهيمنة الكتلة الغربية وائتمارها بأمرها، والتي تتناقض مصالحها في تلك الفترة مع تواجد دولة فلسطينية عربية.
لم يبق المسيحيون العرب خارج دائرة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل بادروا بتشكيل تنظيمات فاعلة تحت قيادات مسيحية، وإن كانت ذات منحى إيديولوجي يساري، تجلّى ذلك مع الجبهتين الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين، وأردف هذا الجانب السياسي بجبهة دينية بزعامة المطران كابوتشي الكاثوليكي، والتي كان الفاتيكان القابض على زمام الكاثوليكية العالمية، ينظر إليها بعين الريبة والحذر، لانخراط رجل الدين في معركة القضية الفلسطينية بأدوات لاهوتية. وكان ما يمنع الفاتيكان من تأثيم الرجل أو حرمانه، خشيته الكبيرة من إحداث شرخ في الكاثوليكية العربية التي تراهن عليها وعلى مستقبلها، سواء أمام التشكيلات الكنسِية المغايرة الداعية لأطروحات لاهوتية غريمة، أو لما يتهدد هذه الطائفة عموما، بحسب تقديرها، من اجتياح وذوبان داخل الأغلبية المسلمة.
ساهمت تلك العوامل في دفع البابا للتصريح علنا بمسألة شعب فلسطين، في أبريل 1982، بعد أن كان يحضر في الرسائل البابوية تحت مسمّى لاجئين أو نعوت هلامية، والتي عقبها استقبال ياسر عرفات في منتصف سبتمبر من نفس العام. شراسة الحملة التي شنّتها الصحافة الإسرائيلية على البابا يوحنا بولس الثاني، كشفت عن عمق رهبة البابا من ملفّات الشرق الأوسط التي تمسك إسرائيل بأغلب أوراقها. وقد كانت الزيارة الرمزية للبابا يوحنا بولس الثاني لبيعة روما في 13 أفريل 1986 إحدى العلامات الرمزية للقطع مع مرحلة وتدشين أخرى، والتي اختتمت باعتراف الفاتيكان بدولة إسرائيل سنة 1993.
سنعرّج على المقدّمات التمهيدية التي سبقت إعلان الفاتيكان عن اتفاقيتي العلاقات الرسمية مع كلّ من إسرائيل في 30 ديسمبر 1993، ومنظّمة التحرير الفلسطينية في 15 فيفري 2000. إذ يبدو الخطاب اليهودي والإسرائيلي أوسع خطّة وأشمل رؤية في المناورة السياسية من الخطاب العربي والفلسطيني مع الفاتيكان. فهو يتقدّم ضمن خطّين متعاضدين: الأوّل، ذو صبغة دينية حضارية، والثاني، ذو صبغة سياسية قانونية. يهدف الإثنان معا لكسب حقوق وضغط إلزامي على الفاتيكان. فالمزج بين الديني والسياسي في الخطاب الإسرائيلي مع الفاتيكان، جعل تأثيره فاعلا ونافذا، واستبان أثر هذه السياسة الإسرائيلية جليا في أعقاب زيارة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني للولايات المتّحدة الأمريكية سنة 1987، إذ تمخّضت عن عقد لقاءات مع الزعماء اليهود الأمريكان، انتهت إلى إلزام الفاتيكان والضغط عليه للإعتراف الرسمي بالمسؤولية واللائمة، لما لحق باليهود في المجتمعات الأوروبية، والتي كانت أعمال مؤتمر المصالحة اليهودي المسيحي في السادس عشر من مارس 1998 تتويجا لها بإصدار نص اعتراف فاتيكاني رسمي تحت عنوان: "لنتذكّر تأمّلات في المحرقة" - We remember a reflection on the holocost- ، والمشفوع برسالة من البابا يوحنا بولس الثاني للكردينال كاسيدي، معبّرا له فيها عن مراجيه من هذه الوثيقة.
ليست تلك الوثيقة هيّنة، إذ تطلّبت سنوات من التشاور والتداول والتحضير بين كافة رجالات الكنائس، بلغ حد تشريك باحثيها وطلابها في المناقشات، إذ أنها تلزم الطرف الفاتيكاني بمسح الإتهام التاريخي بقتل اليهود للمسيح، إضافة إلى الإعتراف بالمسؤولية التامة التي لحقت اليهود خلال حقبة اللاسامية.
سوف لن نتناول الشكل البائس الذي تدخُل به الأطراف العربية والإسلامية الحوار الديني مع الفاتيكان، والذي يبدأ وينتهي بشرف الدخول والمشاركة في المؤتمرات. سنتناول المسألة مع فلسطين كشعب وكدولة باحثة عن الإعتراف المتبادل مع الفاتيكان، فالاتّفاقية الفلسطينية المذكورة سلفا مع الفاتيكان، تبدو إلزاما للطرف الفلسطيني للإقرار بحقوق وامتيازات مستقبلية للكنيسة الكاثوليكية على الفضاء الفلسطيني، ولا تتضمّن بالمثل حقوقا وامتيازات للفلسطيني، إن لم نقل للعربي، باعتبار فلسطين وما تحمله من دلالات قدسية وتراثية لدى الجميع. فهل إرساء الفلسطيني لمعاهدة مع الفاتيكان يختزل فحسب في حضور الفاتيكان معه على طاولة التعاهد، وأيا كانت الإملاءات والإلزامات، أم يهدف الأمر إلى إحداث التعارف بكل أبعاده الحضارية والدينية والسياسية بين مؤسّستين ودولتين؟
فالتمعّن في نصّي معاهدتي الفاتيكان مع كلّ من إسرائيل وفلسطين يكشف عن تغاير جذري في الصياغتين، ففي الورقة المتعلّقة بإسرائيل نجد في البند الثاني من الفقرة الأولى والثانية إلزاما للفاتيكان بالتصريح بإدانة كافة مظاهر التمييز واللاسامية والعنصرية واللاتسامح الممارسة في حق اليهود –لاحظ لا في حق الإسرائيليين- في أي حقبة وفي أي مكان ومن أي طرف. في المعاهدة المتعلّقة بفلسطين، نجد الأمر غائبا تماما، برغم أن المعاهدتين متباعدتان في الزمن، علاوة على ذلك، الثغرات في الصياغة القانونية والشكلية، مقارنة بمثيلتها الإسرائيلية، التي لم تهمل حتى التاريخ العبري لها، السادس عشر من شهر تافيت 5754.
لقد كان تناولنا رؤية الفاتيكان لمسألة الصراع العربي الإسرائيلي، يهدف بالأساس لتبيّن كيفيات اشتغال العقل الكاثوليكي الغربي، ولعلّ القضية الفلسطينية، قضية العرب والمسلمين، إحدى النقاط الجوهرية التي يتقاطع فيها جدل اللاهوتي بالسياسي، برغم ادعاءات الفصل بينهما.
إذ تَبيَّن أن دعم حاضرة الفاتيكان للمسيحيين العرب في المنظّمات والأحزاب العربية في المنطقة ما كان لنصرة قضاياهم، وإنما كان يهدف لإبراز الحضور الغربي في المشرق، لاستغلال الأمر لتكثيف الشوق المسيحي لمهد المسيح عامة، وفي الوجدان الكاثوليكي خاصة، ولدعم الإرساليات التبشيرية لا غير. ولأجل ذلك تابع الفاتيكان بعين الريبة الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939)، التي كانت تحت إمرة قيادات دينية إسلامية، وكذلك تصاعد المدّ القومي الذي طالب بدولة عربية موحّدة وموسّعة في الشرق الأوسط. فالدولة العربية الواحدة التي تحمل في مكوّناتها الأساسية الخاصيات والأبعاد الإسلامية، كانت تشكّل في تقدير الفاتيكان، خطرا على أطماعه في المناورة لإخراج فلسطين من التوحّد العربي. كلّ ذلك ينبع من كون الفاتيكان ما كان يرى أصالة الحق العربي في المنطقة، ولذلك جاءت نداءاته بالتدويل لإخراج فلسطين من القبضة العربية.
فما أظهره البابا بي الثاني عشر (1876- 1958) من غضب على أعمال الشغب، ومناداته بالعدالة والسلام والحماية الدولية لفلسطين في تصريحه يوم 24 أكتوبر 1948، يأتي ضمن توجه سياسي نابع من فهم ديني ينتهجه الفاتيكان، والذي تقنّن بوضوح في رسالة -Redemptoris Nostris- في الخامس عشر من أبريل 1949، التي تضمّنت حق اللاّجئين في العودة، مع عدم التصريح أو التلميح بوجود شعب أغتُصبت أرضه وإنما التعرّض لمجرّد لاجئين ينبغي التنبّه لحقوقهم. كذلك أشارت نفس الرسالة إلى عدم الاعتراف بدولة الأردن ما لم تسوّ مسألة المدينة المقدّسة، كما ترتئيها حاضرة الفاتيكان، فقد كان البابا يخشى استحواذ الأردن على القدس، وهو ما لا يرضى به.
بعد الإعلان عن تأسيس الدولة الإسرائيلية ستشهد سياسة الفاتيكان تحوّلا جذريا هائلا، على المستوى اللاّهوتي والسياسي، وستكون له نتاجات خطيرة على المنظور الديني المسيحي عامة. فمع حلول عشرية 1950-1960 بدأ الحديث داخل المؤسّسات البابوية، التبشيرية والتعليمية، عن طرح مستجدّ يتلخّص في الحديث عن التراث اليهودي المسيحي المشترك، باعتبار إسرائيل هي "الجذر" والكنيسة هي "الشجرة"، يمثل فيها المسيح "التوراة المجسّدة". إضافة إلى التأكيد على الأصل اليهودي للمسيح وإبراز ذلك والإلحاح عليه، فأنتجت المسألة تأويلية جديدة للعهدين القديم والجديد، توزّعت الرؤى فيها بين اللاهوتيين ج. دانيلو وهـ. دي لوباك وفون بالتزار من ناحية، وك. راهنر وهـ. رشلاتي من ناحية أخرى، والتي ستتجلّى مؤثّراتها لاحقا في رسالة -Nostra Aetate- 1965، التي ستلغي مقولة الشعب قاتل الإله (أي المسيح)، وما سيتبعها من مساع لتنقية التراث المسيحي وتصفيته من أي نفس معاد لليهود، اشتغل به رهبان مهتدون من أصل يهودي أساسا.
داخل هذا الجدل الديني السياسي، يطرح في الأثناء تساؤل مركزي بشأن الفواعل المتحكّمة بالعقل الفاتيكاني وتجلّياته السياسية، فأي قاعدة لاهوتية أساسية تتحكّم بوعيه الديني وتوجّهاته السياسية؟ فالمتابع لتاريخ اللاهوت المسيحي الأوروبي يدرك بيسر الخط الإتباعي للمنطلقات الربّانية اليهودية الكبرى: الشعب المختار، المسيا، العهد، الأرض المقدّسة، جغرافية التوراة، ولم تشفع التأويلات اللاّهوتية الثانية لهذه المنطلقات لإيجاد تحرّر أو تصحيح للبيئة المعرفية ودلالاتها.
كانت المدرسة النقدية للتوراة، مع كارل ستادت وجون أستروك ويوليوس فلهاوزن ولودز، قد أشارت إلى حقائق علمية، أصبحت بمثابة البديهيات لدى المنشغلين بعلم التوراة، حول الدور البشري في صنع الوعي الديني اليوم، المفتقد لأي دعامة أو مصدرية إلهية أو غيبية، كما تروّج ذلك الكنيسة وطوائف الأحبار اليهودية، ناهيك عما قام به المؤرّخ كمال سليمان الصليبي من زعزعة للوعي المترسّب والسائد بين اليهود والمسيحيين والمسلمين حول جغرافية التوراة الشائعة، معتمدا على قراءة التوراة في بكارتها اللغوية والهجائية قبل عملية الضبط الماصوريتي، التي تمت حوالي القرن السابع الميلادي، والتي شكلت الفهم السائد اليوم.
فالفاتيكان في إرثه السالف العائد لحقبة الآباء، وخصوصا أثناء الهيمنة الرومانية، شهد أخطر التحويرات اللاهوتية، بما خلّفته من غياب هوية لاهوتية مستقلّة للكنيسة متحرّرة عن السلط الزمنية. نجد نفس العامل يحضر مجدّدا لديه مع حقبة التأوْرب الحديثة، فالكنيسة الفارّة من مطحنتي الثورتين الفرنسية والبلشفية، اللتين اعتبرتاها أخطر المؤسّسات الدغمائية على الكينونة البشرية، وفّقت في العودة الثانية للوعي الأوروبي، ليس بفعل تحوير طروحاتها أو تهذيبها ولكن بفعل خارج عنها، يستند على الدور التوظيفي لها داخل الكتلة الرأسمالية، لمواجهة المد الشيوعي الزاحف حينئذ. كانت ذرائعية الرأسمالية لا تتوانى عن توظيف اللاّمعقول والأسطورة والغيبية لرصّ الصفوف ضدّ المناوئ الشيوعي الشرس. ولعل تنصيب البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، ذي الأصل البولوني، إحدى العلامات التي باتت جلية في استراتيجية الرأسمالية لمواجهة الكتلة الإشتراكية سابقا، ومحاولة تفتيتها من داخلها. والذي استدعى صهر المؤسّسة الكنسيّة ضمن الجهاز الإيديولوجي الرأسمالي، ونزع كل الألبسة التقليدية والبالية عنها للإنخراط في الحداثة ومابعدها، والتي استلزمت إنتاج خطاب لاهوتي محدث مع "الأعداء الأبديين، قاتلي الرب، اليهود" والإبداع لتأويلية العفو والصفح والخلاص للجميع. فالكنيسة المرسملة مستعدّة لإنتاج أي خطاب، تجاه أي قضية أو إيديولوجيا، بحسب متطلّبات قوى النفوذ المتحكّمة بالساحة. فما عاد للخطاب اللاّهوتي الفاتيكاني استقلاله عن الواقع السياسي والاقتصادي، ولذلك كان مصير اللهاويت التحرّرية، والثورية، والنقدية التي تواجدت في الأطراف، العزل والتهميش، والتأثيم والحرمان لقادتها، ذلك كان مصير فرناندو كردينال وغوستافو غوتيراز وإيمانويل سفيرينو وسلفاتوري ناطولي وأشباههم. داخل هذ المناخ تولّد الخطاب الفاتيكاني الحداثي مع اليهودية وإسرائيل، والذي اتخذ ثلاث محطات لبلوغ الإصلاح والتطبيع النهائي:
الإنتقاد للاّسامية والتحزّب ضدّها من داخل رجال الدين.
الدعوة لحوار الأديان والتأكيد على محورية الطرف اليهودي فيه.
تأثيم المسيحية لذاتها.
يمكن متابعة هذه المراحل بجلاء من خلال أعمال المؤتمرات والمجامع المنعقدة بعد الحرب العالمية الثانية، والتي ضبطها المؤلّفان الإيطاليان جوفاني شيريتي وليا سستياري، والتي سنعود لتفاصيل مضامينها عند حديثنا عن الإستراتيجية الإسرائيلية في علاقاتها مع حاضرة الفاتيكان.
المتأمّل في طبيعة السياسة التي ربطت الفاتيكان بالصراع العربي الإسرائيلي، يتبين أن الأطراف العربية بمسلميها ومسيحييها، قد أيقنت، على إثر محاولات الإتصال المبكّرة بالفاتيكان، من تخاذل المؤسّسة الكاثوليكية الممثّلة في الفاتيكان عن الحقّ العربي في استرجاع فلسطين. فبدأت الجموع العربية المسيحية، سواء داخل فلسطين أم خارجها، تدرِك يقينا لا ريب فيه، خضوع الكنيسة الكاثوليكية لهيمنة الكتلة الغربية وائتمارها بأمرها، والتي تتناقض مصالحها في تلك الفترة مع تواجد دولة فلسطينية عربية.
لم يبق المسيحيون العرب خارج دائرة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل بادروا بتشكيل تنظيمات فاعلة تحت قيادات مسيحية، وإن كانت ذات منحى إيديولوجي يساري، تجلّى ذلك مع الجبهتين الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين، وأردف هذا الجانب السياسي بجبهة دينية بزعامة المطران كابوتشي الكاثوليكي، والتي كان الفاتيكان القابض على زمام الكاثوليكية العالمية، ينظر إليها بعين الريبة والحذر، لانخراط رجل الدين في معركة القضية الفلسطينية بأدوات لاهوتية. وكان ما يمنع الفاتيكان من تأثيم الرجل أو حرمانه، خشيته الكبيرة من إحداث شرخ في الكاثوليكية العربية التي تراهن عليها وعلى مستقبلها، سواء أمام التشكيلات الكنسِية المغايرة الداعية لأطروحات لاهوتية غريمة، أو لما يتهدد هذه الطائفة عموما، بحسب تقديرها، من اجتياح وذوبان داخل الأغلبية المسلمة.
ساهمت تلك العوامل في دفع البابا للتصريح علنا بمسألة شعب فلسطين، في أبريل 1982، بعد أن كان يحضر في الرسائل البابوية تحت مسمّى لاجئين أو نعوت هلامية، والتي عقبها استقبال ياسر عرفات في منتصف سبتمبر من نفس العام. شراسة الحملة التي شنّتها الصحافة الإسرائيلية على البابا يوحنا بولس الثاني، كشفت عن عمق رهبة البابا من ملفّات الشرق الأوسط التي تمسك إسرائيل بأغلب أوراقها. وقد كانت الزيارة الرمزية للبابا يوحنا بولس الثاني لبيعة روما في 13 أفريل 1986 إحدى العلامات الرمزية للقطع مع مرحلة وتدشين أخرى، والتي اختتمت باعتراف الفاتيكان بدولة إسرائيل سنة 1993.
سنعرّج على المقدّمات التمهيدية التي سبقت إعلان الفاتيكان عن اتفاقيتي العلاقات الرسمية مع كلّ من إسرائيل في 30 ديسمبر 1993، ومنظّمة التحرير الفلسطينية في 15 فيفري 2000. إذ يبدو الخطاب اليهودي والإسرائيلي أوسع خطّة وأشمل رؤية في المناورة السياسية من الخطاب العربي والفلسطيني مع الفاتيكان. فهو يتقدّم ضمن خطّين متعاضدين: الأوّل، ذو صبغة دينية حضارية، والثاني، ذو صبغة سياسية قانونية. يهدف الإثنان معا لكسب حقوق وضغط إلزامي على الفاتيكان. فالمزج بين الديني والسياسي في الخطاب الإسرائيلي مع الفاتيكان، جعل تأثيره فاعلا ونافذا، واستبان أثر هذه السياسة الإسرائيلية جليا في أعقاب زيارة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني للولايات المتّحدة الأمريكية سنة 1987، إذ تمخّضت عن عقد لقاءات مع الزعماء اليهود الأمريكان، انتهت إلى إلزام الفاتيكان والضغط عليه للإعتراف الرسمي بالمسؤولية واللائمة، لما لحق باليهود في المجتمعات الأوروبية، والتي كانت أعمال مؤتمر المصالحة اليهودي المسيحي في السادس عشر من مارس 1998 تتويجا لها بإصدار نص اعتراف فاتيكاني رسمي تحت عنوان: "لنتذكّر تأمّلات في المحرقة" - We remember a reflection on the holocost- ، والمشفوع برسالة من البابا يوحنا بولس الثاني للكردينال كاسيدي، معبّرا له فيها عن مراجيه من هذه الوثيقة.
ليست تلك الوثيقة هيّنة، إذ تطلّبت سنوات من التشاور والتداول والتحضير بين كافة رجالات الكنائس، بلغ حد تشريك باحثيها وطلابها في المناقشات، إذ أنها تلزم الطرف الفاتيكاني بمسح الإتهام التاريخي بقتل اليهود للمسيح، إضافة إلى الإعتراف بالمسؤولية التامة التي لحقت اليهود خلال حقبة اللاسامية.
سوف لن نتناول الشكل البائس الذي تدخُل به الأطراف العربية والإسلامية الحوار الديني مع الفاتيكان، والذي يبدأ وينتهي بشرف الدخول والمشاركة في المؤتمرات. سنتناول المسألة مع فلسطين كشعب وكدولة باحثة عن الإعتراف المتبادل مع الفاتيكان، فالاتّفاقية الفلسطينية المذكورة سلفا مع الفاتيكان، تبدو إلزاما للطرف الفلسطيني للإقرار بحقوق وامتيازات مستقبلية للكنيسة الكاثوليكية على الفضاء الفلسطيني، ولا تتضمّن بالمثل حقوقا وامتيازات للفلسطيني، إن لم نقل للعربي، باعتبار فلسطين وما تحمله من دلالات قدسية وتراثية لدى الجميع. فهل إرساء الفلسطيني لمعاهدة مع الفاتيكان يختزل فحسب في حضور الفاتيكان معه على طاولة التعاهد، وأيا كانت الإملاءات والإلزامات، أم يهدف الأمر إلى إحداث التعارف بكل أبعاده الحضارية والدينية والسياسية بين مؤسّستين ودولتين؟
فالتمعّن في نصّي معاهدتي الفاتيكان مع كلّ من إسرائيل وفلسطين يكشف عن تغاير جذري في الصياغتين، ففي الورقة المتعلّقة بإسرائيل نجد في البند الثاني من الفقرة الأولى والثانية إلزاما للفاتيكان بالتصريح بإدانة كافة مظاهر التمييز واللاسامية والعنصرية واللاتسامح الممارسة في حق اليهود –لاحظ لا في حق الإسرائيليين- في أي حقبة وفي أي مكان ومن أي طرف. في المعاهدة المتعلّقة بفلسطين، نجد الأمر غائبا تماما، برغم أن المعاهدتين متباعدتان في الزمن، علاوة على ذلك، الثغرات في الصياغة القانونية والشكلية، مقارنة بمثيلتها الإسرائيلية، التي لم تهمل حتى التاريخ العبري لها، السادس عشر من شهر تافيت 5754.
لقد كان تناولنا رؤية الفاتيكان لمسألة الصراع العربي الإسرائيلي، يهدف بالأساس لتبيّن كيفيات اشتغال العقل الكاثوليكي الغربي، ولعلّ القضية الفلسطينية، قضية العرب والمسلمين، إحدى النقاط الجوهرية التي يتقاطع فيها جدل اللاهوتي بالسياسي، برغم ادعاءات الفصل بينهما.