التطور الحضاري .. وإشكالية الفكر الديني
يمكن القول أن الكائن البشري لم يدخل دور الإنسانية إلاّ بعد إحساسه أنه كائن إجتماعي – أي ينتمي الى جماعة يحيى أفراحها ومسراتها ويتحمل ما تتحمله من أتراح وأوزار ويعاني ما تعانيه من مكاره وآلام - ، وكلما حصل خلل في هذه المعادلة .. أي إستبداد فرد أو فئة بالأمر ومصادرة حق الجماعة .. صار الإنسان يشق طريق الحرية من خلال رفضه وإنتفاضته وثورته .. وكان في كل مرة يدفع الثمن باهضاً من دمه ونفسه وجسمه وعائلته وماله ... الخ . وفي مرات قليلة كانت الحرية تنتصر ويتراجع الإستبداد ويتوارى الطغيان .. حتى إذا ما حلّ عصر النهضة وما تلاه من عصر الأنوار الذي يظن أنه إبتدأ بإنتصار الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789 .. ، رفرفت راية الحرية على شمال الكرة الأرضية ، فيما إستمرت أكثر أقاليم الجزء الجنوبي فيها ترسف في أغلال الإستبداد . ولابد من الإقرار بأن الظاهرة الإجتماعية تمتاز بالتحول والتغير وأنها من نتاج الجماعة بيد أنها تفرض نفسها على الفرد والمجتمع كأعراف وعادات وتقاليد .. تلزمه بها لابل وتقهره عليها ، غير أن حتمية ذلك ليست بالمطلقة ، إذ أن ثمة مرونة ذات بعد نسبي في ذلك الإلزام .. وإلاّ لما ظهر الثائرون والمفكرون المتحررون وطلاب الحرية والعدالة .. وفي الوقت نفسه لما كان مكان لشذاذ الآفاق من المارقين والمستبدين واللصوص والمنحرفين والمنافقين . وعلى هذا الأساس يوصف الإنسان – والجماعة الإنسانية – بالمتغيرات الإجتماعية .. التي تحصر ضمن إطار الفكر الحضاري .
أما عن علاقة الإنسان بالدين .. فهي علاقة تأسست منذ وجد الإنسان الإجتماعي ، إذا لم نقل منذ خلق البشر .. والدين قد يكون إلهياً وهو ما يمتاز بالثبات والوحي ، وثباته قد يكون مؤقتاً وقد يكون دائمياً وحسب المعتقدات الإسلامية فإن الأديان قد نسخت خلا الإسلام فإنه باقِ الى يوم القيامة .. (( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه )) – القرآن المجيد – لكن ربما هنا تثير النظريات الحديثة إشكالية ما ولاسيما نظرية اللامحدد في العلاقة بين النصوص :
(( فإذا إعتبرنا أن التوراة والإنجيل والقرآن خطابات مختلفة بشكل أو بآخر ، فإنه من غير المحدد موضوعياً ما إذا كان القرآن قد أتى ليحل مكان الإنجيل والتوراة أم أتى ليدعم مكانتهما . وبذلك العلاقة هنا بين القرآن من جهة والإنجيل والتوراة من جهة أخرى هي علاقة غير محددة فعلاً . فمن منطلق ما ، نجد أن القرآن يعتبر أن الإنجيل والتوراة محرفان ، ونجده يقول أن الدين عند الله هو الإسلام . ومن منطلق آخر ، نجد القرآن يعتبر أن أتباع الإنجيل والتوراة من المؤمنين )) كما يقول حسن عجمي في كتابه (( السوبر حداثة )) .
الوحي والعقل
المقصود بالوحي .. أن الدين الإلهي قد أوحى الله به .. من خلال روح القدس الى أحد أنبيائه وليس للنبي فيه سوى دور المبلغ والموجه ، فالدين هنا بعقائده الأساسية منزّل من الله وثابت – لأن عقائده صالحة لكل زمان وفي كل مكان – طبعاً في مجالات مخصوصة مثل العبادات .
منذ ظهور الإسلام .. وتشكل النصوص – النص هو فعل وحي – والنبي يقوم بترجمة النص الموحى به الى فعل أرضي – في مجالات مخصوصة – بينما المجالات الأخرى تخضع (( لفاعلية العقل البشري والخبرة الإنسانية )) .. والمتتبع الى أقوال النبي وأفعاله فإنه يرى أن النبي كان يصدر عن أمرين .. الأول يحكمه الوحي .. فيما كان الثاني حراً متروكاً لأعمال العقل والإستفادة من الخبرة البشرية تتجسد فيه التعددية ويقبل بالرأي الآخر ويرضى من الناس مايرونه بديلاً أفضل .. وقد تعامل النبي مع الجانب العقلي بكل إرتياح وقبول بل راح يفعّله ويغذيه بأسباب الديمومة وحض الناس على الأخذ به بقوله : (( أنتم أعلم بشؤون دنياكم )) .
الدين والفكر الديني
أما الفكر الديني فهو غير الدين وليس ثمة تماهي بينهما .. فالفروقات بينهما تصل أحياناً حد التناقض .. فالدين هو نص إلهي ثابت ، والفكر الديني هو كل ماورد حول ذلك النص من تفسير أو تأويل أو معنى أو قراءة وبالتالي هو صناعة بشرية عرضة للتغير والتحول بتقادم الأزمان وإختلاف البلدان والمجتمعات والمفكرين . وللتمثيل والتبسيط فإننا لو قلنا بأن الإسلام كلمة / نص .. فالدين لفظها - وهو ثابت - والفكر الديني معناها - وهو متغير - ، ولكن أخطر ما يمكن أن يواجه أي مجتمع هو أن ينسحب ثبات الدين وقدسيته على الفكر الديني وبالتالي يتم إنزال الفكر الديني منزلة الدين .. أي يقومون - بشكل آلي - بعملية توحيد بين النص وفهمه وقراءته - طبعاً قراءته في الوقت الحاضر - ، ويتم بقصدية إختلالية (( إهدار البعد التاريخي للنص )) ، إذ تجري المماهاة بين الفهم الإنساني الآني والنص الإلهي ، مما يفضي بالفكر الديني الى إدعاء خطير ألا وهو (( الحديث بإسم الله )) .. الأمر الذي يشير الى عدم القبول بالآخر - التعددية - بخلاف الصدر الأول للإسلام ، والإعلان عن إسلامٍ واحدٍ نصاً وفكراً (( أن للإسلام معنىً واحداً ثابتاً لاتؤثر فيه حركة التاريخ ولايتأثر بإختلاف المجتمعات .. )) وهذا يؤدي الى جمود وتكلس فكر المجتمع وعقم عمله .. وبالتالي ينتهي به الأمر الى التخلف عن الركب الحضاري فكراً وتطوراً خاصة وأن المحدد للمعنى الواحد الثابت هم رجال الدين حصراً وهذا يعني إستبعاد كل العقول خلا العقل اللاهوتي (( ان هذا المعنى الثابت يمتلكه جماعة من البشر - هم علماء الدين قطعاً - وأن أعضاء هذه الجماعة مبرؤون من الاهواء والتحيزات الانسانية الطبيعية )) .. أظن أن العلم الحديث لايمكنه ان يبرىء اي جماعة من الاهواء الانسانية الطبيعية . إننا وإن سلمنا بقدرة النص على مخاطبة العصور اللاحقة والمجتمعات المختلفة ، من خلال إعادة إنتاج دلالاتها .. بيد أن ذلك يجب أن لايقود الى إهدار تاريخية النصوص ، فقراءة النصوص التي تتم - في أي زمان ومكان - تقوم كما يقول نصر حامد أبو زيد على آليتين متكاملتين هما :
١ – الإخفاء - لما ليس جوهرياً - وهذا مايفرضه التاريخ والجغرافية .
٢ – الكشف عن ماهو جوهري بالتأويل - ليس ثمة عناصر جوهرية قارة في النصوص - وبالنتيجة يكون لكل قراءة - بالمعنى التاريخي الإجتماعي - جوهرها الذي تكشفه في النص (( أن النصوص دينية كانت أم بشرية محكومة بقوانين ثابتة ، والمصدر الإلهي للنصوص الدينية لايخرجها عن هذه القوانين لأنها ( تأنسنت ) منذ تجسدت في التاريخ واللغة وتوجهت بمنطوقها ومدلولها الى البشر في واقع تاريخي محدد . إنها محكومة بجدلية الثبات والتغير ، فالنصوص ثابتة في ( المنطوق ) متحركة متغيرة في ( المفهوم ) ، وفي مقابل النصوص تقف القراءة محكومة أيضاً بجدلية الإخفاء والكشف )) .. وبالتالي يتم إنتاج دلالة النص من خلال فهم لغته ، طبعاً هناك الكثير من المؤثرات الفكرية والثقافية والبيئية والعقلية التي تساهم في تشكيل ذلك الفهم .. وهذا يعني تعدد القراءات بحسب التاريخ والجغرافية وإختلاف أذواق المنتجين لدلالات النصوص .. هذا الفهم التعددي له ملهماً مضيئاً من التاريخ الأول للإسلام كما في أقوال الإمام علي : (( القرآن حمّال أوجه )) .. (( القرآن خط مسطور بين دفتين لاينطق ، إنما يتكلم به الرجال )) .. لكن الفكر السلفي يهدر هذا الجانب المضيء من التراث في فهم طبيعة النص .. (( وهو الفهم الذي سمح بالتعددية ومنح الثقافة الإسلامية طابعها الحيوي الذي ظل مستمراً حتى توارى هذا الفهم مفسحاً المجال لفهم آخر يجمد دلالة النصوص في قوالب جامدة )) .
يظن البعض أننا كعرب ومسلمين من ها هنا أوتينا ، فإذا فكرنا الديني صار ديناً ، وإذا بتراثنا يتلفع بعباءة القداسة بعجره وبجره .. وإذا بتاريخنا عبارة عن سلسلة من الأبطال وخلفاؤنا مجموعة الحكماء .. وإذا بنا لم نرَ في ذلك الماضي غير العظمة والبطولة والإقتدار في الوقت الذي نعيش فيه الضعة والجبن والضعف .. وهذا يعني أننا لم نحسن قراءة ماضينا وبالتالي لم نحر جواباً على تحديات العصر الحديث ، إلا أن ننظر الى الوراء لذلك لم نجد جواباً وسوف لن نجد مالم نعيد دراسة تراثنا على ضوء العقل والعلم ونرفع عنه غطاء القداسة المتهريء .. وأن نتحول من نظرية ( معرفة الحق بالرجال ) الى نظرية ( معرفة الرجال بالحق ) .. وأن ننظر الى واقعنا بعلمية والى تحديات العصر بجدية ونمتلك إرادة تتعامل مع العصر من خلال قوانينه وآلياته وأفكاره مع التأكيد على خصوصيتنا من خلال تفعيلها تفعيلاً خلاقاً حتى يذوب التعارض مع العالمية الإنسانية من خلال تنشيط المشتركات الإنسانية المنتجة .
الدين الكهنوتي
أن الفكر الديني في البلاد العربية - وهو غير الدين كما أوضحنا - يشبه الى حدما الدين الكهنوتي الذي هيمنت عليه الكنيسة في اوربا إبان العصور الوسطى وإمتد الى عصر النهضة ، وقد بني الدين الكهنوتي على مقولة (( قيادة الضرورة الدينية للضرورة الإجتماعية )) وهذه الضرورة الدينية تشكل (( مجموعة مزيجها فلسفة مشوهة وإجتهادات كهنوتية في مجموعها تخدم أغراض الكهنة وأطماعهم الدنيوية ، ولما كان دينهم هو هذا المزيج الفكري الذي يخالف دين التوراة والإنجيل ثار عليهم قديس ألماني - مارتن لوثر )) . ولعل من نافلة القول بأن الإسلام سبق لوثر في توجيه النقد الى الدين الكنسي وأبان ما يعتوره من تشويه وتحريف فضلاً عن عدم صلاحيته للتطبيق الإجتماعي . وكان من نتائج الحركة العقلية في أوربا أن قادت المجتمع الأوربي الى نبذ أفكار الكنيسة التي وجدوا فيها مثالاً سيئاً حين تصدت لقيادة المجتمع . وثمة مجال للقول بأن الدين الكنسي والفكر الديني الكنسي قد تداخلا تداخلاً عظيماً حتى ذاب الدين في الفكر الديني ، هذا بالإضافة الى أن الدين الكنسي ( كنص إلهي ) لايمكن التسليم له بذلك فعلماء الإجتماع الغربيين قد تشككوا في ذلك ورموا الكتاب المقدس بالصناعة البشرية .. لذلك أطاحت النهضة الأوربية بالكنيسة وبكل عناصر قوتها المعيقة للتطور دون أن تفرق بين الدين والفكر الديني . وساد الفكر الحضاري ليقود دفة الحياة في الغرب وينقله الى عالم الفكر الصناعي والحداثي الذي سير الإنسان بكل عناصر القدرة والقوة من علم ومعرفة وحرية وأداتية صارمة ، لكي يمتلك زمام إموره بنفسه ويصنع مستقبله الباهر ، فأذعن الفكر الكنسي للفكر الحضاري وإستجاب لمقولاته وعرف حدوده وصار جزءاً منه ولفظ ضروراته ومعيقاته وصار يعمل في ميدانه دونما تعارض مع الفكر الحضاري . وذات التهمة يمكن أن تنسب الى الديانة اليهودية فهي ديانة مغلقة وأتباعها قلّة حيث بات واضحاً كون التوراة من صناعة البشر في الأسر البابلي .. وضعت بعدما يقارب الثمانية قرون من عصر موسى النبي .
أما الإسلام فهو الوحيد بين الأديان الذي مازال يحتفظ بالدين - النص - الإلهي المنزل من الله سبحانه وتعالى والمتمثل بالكتاب العزيز (( القرآن )) وقد ساق مريدوه الأدلة العقلية والسمعية ليثبتوا إستحالته على الصناعة البشرية .. ولم يكن للإنسان فيه دور سوى التبليغ والإرشاد الى مضامينه .. والإسلام بهذا الإطار لايتعارض مع الفكر الحضاري طالما أن القرآن (( حمال أوجه )) كما وصفه الإمام علي بن أبي طالب (ع) .. والوجه / المعنى يمكن تكييفه حسب المكان والزمان .. وبذلك ينتهي التعارض بين النص / الثابت والمعنى / المتغير وبين الفكر الحضاري المتطور والمتجدد . بينما يتعارض الفكر الديني السلفي في التاريخ الإسلامي مع الفكر الحضاري .. بما بني عليه من نظريات ومقولات دوغائية حسبت على الدين – والدين منها براء – بمعنى أن حملة راية هذا الفكر جادون في أحكام المماهاة بين الدين والفكر الديني .. والأمر لاينتهي الى هذا الحد بل وصل الأمر الى أن تضع الحركات التكفيرية السيوف في رقاب العباد لتغرق بالدم كل البلاد وتلغي الآخر من الحياة .
الحاكمية والجبرية
أن يكون للكون علة أولى .. فهذا ما تدعو له سائر الأديان .. وفي الإسلام فأن الله سبحانه هو المبدأ والعلة الأولى .. وهي عقيدة راسخة لدى المسلمين قاطبة . لكن الفكر السلفي ينظر للأمور بمنظور إحالي أي انه يعمد الى إحالة الظواهر الطبيعية والإجتماعية بالمباشر الى العلة الأولى ، وبذلك يتم إحلال الله في الواقع وذلك يقود الى نفي الإنسان وتعطيل القوانين ومصادرة المعرفة التي لاتمت الى الفكر الديني بصلة . (( هذا التصور إمتداد للموقف ( الاشعري ) القديم ، الذي ينكر قوانين السببية في الطبيعة والعالم لحساب ( جبرية ) شاملة تمثل غطاءً آيديولوجياً للجبرية الإجتماعية والسياسية في الواقع )) . والنتيجة إضمحلال فاعلية الإنسان وتلاشي حاكميته التي بُني عليها الفكر الحداثي الذي يقود دفة الحضارة الإنسانية الحالية ، ويسوغ الفكر الديني ذلك بان الحاكمية البشرية تتقاطع مع الحاكمية الإلهية .. لكن عجبنا لاينقضي عندما نعرف ان الحاكمية الإلهية المراد إقامتها في المجتمع ، من الذي يقوم ببنائها ؟ أهو الإنسان ؟ إذا كان الجواب بالإيجاب إذاً صار الأمر حاكمية بشرية .. أم أن الله يقيم حاكميته بدون البشر ؟ وهذا مخالف للقانون الإلهي : (( إن الله لايغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )) – الكتاب العزيز – وهذا الجانب هو مايجب أن نوجه له النقد الواعي ونفند مقولاته القهرية التي صارت معيقة للتقدم والتطور والإنسجام مع الفكر الحضاري . فلا زال الفكر الديني السلفي عندنا يؤمن بنظرية الجبر التي تشل إرادة الإنسان والتي كان من نتائجها أن يواجه العرب العدوان الإسرائيلي بالتوكل وحسب من دون عزم .. الأمر الذي يناقض قوله تعالى (( فإذا عزمت فتوكل على الله )) وقوله تعالى (( وأعدّوا لهم ماإستطعتم من قوة )) . أن مقولة (( الجبر )) تعد صناعة أمويّة صميمية لتنسجم مع مبدأ الحاكمية الذي قال به الأمويون في واقعة صفين ووظفوه آيديولوجياً وسياسياً . وفي واحدة من أكبر عمليات التاريخ لتزييف الوعي العربي والتي مارسها الأمويون بحكم إفتقادهم الى الشرعية التي يتطلبها كل نظام سياسي وذلك حين (( إستجاب معاوية لنصيحة إبن العاص وأمر رجاله برفع المصاحف على أسنة السيوف داعين الى الإحتكام الى كتاب الله )) في عملية تظليل رهيبة لما تزل تحيى بين ظهرانينا وهي لاغيرها المسؤولة عن هزيمة العقل العربي . لأنها صارت سنة لكل أنظمة الحكم التالية في العالم الإسلامي ..
تصفية العقل ومحاصرة الفلسفة
كما يقول الفكر السلفي بنظرية سد باب الإجتهاد التي تقمع الإبداع وتنفي العقل وتدعو الى الإتباع والتقليد .. وهكذا ينتهي هذا الفكر الى التعارض مع أهم قواعد الإسلام القائمة على العقل .. لأن الإسلام أصلاً هو دعوة لتأسيس العقل في ميدان الفكر كنقيض للجهل .. فضلاً عن أن النقل لايثبت إلا بالعقل كما عليه علماء المسلمين .. وهكذا تمكن الفكر السلفي من الحيلة الآيديولوجية التي بنيت عليها محاولات إلغاء العقل لحساب النص التي كان ابطالها الأمويين في حادثة التحكيم الشهيرة في التاريخ .. أن يؤسس للتقليد ويتم القضاء على العقل لاحقاً من خلال تصفية فكر المعتزلة ثم محاصرة العقل الفلسفي في نقاط مسيطر عليها ومحدودة التأثير ، رغم أن العقل / الإجتهاد (( هو الوجه الآخر للنص ، الوجه الذي بدونه يتوقف عن أن يكون نصاً لغوياً دالاً ويتحول الى آيقونة للزينة والتبرك )) . فضلاً عن ذلك يعلن الفكر السلفي عن عدم إيمانه بالحسن والقبح العقليين حتى أركسنا بالخرافات واللامعقول فحدث ولاحرج وقد بينا من قبل عدم قبوله بمبدأ العلية وقانونه – من أسباب ومسببات – الذي تقوم عليه كل العلوم وبهدمه لايمكن أن تقوم لأي علم قائمة .
يقول الفكر الديني بسلطة النص ويرفض سلطة العقل .. في حين أن النص منذ أنسنته عندما أوحي به الى النبي (( ص )) فكانت قراءة النبي له إيذاناً بتحوله من وحي (( نص إلهي )) بالتنزيل الى فهم ( نص إنساني ) بالتأويل وهذا يعني أن الأصل سلطة العقل (( التي يتأسس عليها الوحي ذاته – العقل لابما هو آلية ذهنية صورية جدلية ، بل بما هو فعالية إجتماعية تاريخية متحركة . هذه السلطة قابلة للخطأ ، لكنها بنفس الدرجة قادرة على تصويب أخطائها ، والأهم من ذلك أنها وسيلتنا الوحيدة للفهم ، فهم العالم والواقع وأنفسنا والنصوص ، ولأنها سلطة إجتماعية تاريخية فإنها ضد الأحكام النهائية والقطعية اليقينية الحاسمة . إنها تتعامل مع العالم والواقع ( الإجتماعي والطبيعي ) والنصوص بوصفها مشروعات مفتوحة متجددة قابلة دائماً للإكتشاف والفحص والتأويل . ومن خلال هذا التجدد والحركة يتجدد العقل ذاته وتتطور آلياته وتنضج في جدل لانهائي مثمر خلاق )) . وبما أن الفكر الأصولي لايحتكم الى سلطة العقل لأن أسلحته لاتشتغل ضمن ميادين العقل الأمر الذي يجعله موارباً لباب الحوار في هذه الميادين .. فيلجأ الى التضليل الآيديولوجي وتزييف وعي العامة الدهماء لتعثر محاولاته في تاسيس ثقافة حضارية مبنية على العقل والتعددية .. نقول يلجأ الى مبدأ التكفير .. الذي يلقى صدى طيباً في المجتمعات المتخلفة التي تتفشى فيها الأمية التعليمية بله الأمية الثقافية . والأمّر من ذلك إستسلام رجال الثقافة والفكر خوفاً ومجاراة للفكر التكفيري (( وهو موقف خطير في مغزاه وفي النتائج التي يؤدي إليها )) .
الوحي والعقل
المقصود بالوحي .. أن الدين الإلهي قد أوحى الله به .. من خلال روح القدس الى أحد أنبيائه وليس للنبي فيه سوى دور المبلغ والموجه ، فالدين هنا بعقائده الأساسية منزّل من الله وثابت – لأن عقائده صالحة لكل زمان وفي كل مكان – طبعاً في مجالات مخصوصة مثل العبادات .
منذ ظهور الإسلام .. وتشكل النصوص – النص هو فعل وحي – والنبي يقوم بترجمة النص الموحى به الى فعل أرضي – في مجالات مخصوصة – بينما المجالات الأخرى تخضع (( لفاعلية العقل البشري والخبرة الإنسانية )) .. والمتتبع الى أقوال النبي وأفعاله فإنه يرى أن النبي كان يصدر عن أمرين .. الأول يحكمه الوحي .. فيما كان الثاني حراً متروكاً لأعمال العقل والإستفادة من الخبرة البشرية تتجسد فيه التعددية ويقبل بالرأي الآخر ويرضى من الناس مايرونه بديلاً أفضل .. وقد تعامل النبي مع الجانب العقلي بكل إرتياح وقبول بل راح يفعّله ويغذيه بأسباب الديمومة وحض الناس على الأخذ به بقوله : (( أنتم أعلم بشؤون دنياكم )) .
الدين والفكر الديني
أما الفكر الديني فهو غير الدين وليس ثمة تماهي بينهما .. فالفروقات بينهما تصل أحياناً حد التناقض .. فالدين هو نص إلهي ثابت ، والفكر الديني هو كل ماورد حول ذلك النص من تفسير أو تأويل أو معنى أو قراءة وبالتالي هو صناعة بشرية عرضة للتغير والتحول بتقادم الأزمان وإختلاف البلدان والمجتمعات والمفكرين . وللتمثيل والتبسيط فإننا لو قلنا بأن الإسلام كلمة / نص .. فالدين لفظها - وهو ثابت - والفكر الديني معناها - وهو متغير - ، ولكن أخطر ما يمكن أن يواجه أي مجتمع هو أن ينسحب ثبات الدين وقدسيته على الفكر الديني وبالتالي يتم إنزال الفكر الديني منزلة الدين .. أي يقومون - بشكل آلي - بعملية توحيد بين النص وفهمه وقراءته - طبعاً قراءته في الوقت الحاضر - ، ويتم بقصدية إختلالية (( إهدار البعد التاريخي للنص )) ، إذ تجري المماهاة بين الفهم الإنساني الآني والنص الإلهي ، مما يفضي بالفكر الديني الى إدعاء خطير ألا وهو (( الحديث بإسم الله )) .. الأمر الذي يشير الى عدم القبول بالآخر - التعددية - بخلاف الصدر الأول للإسلام ، والإعلان عن إسلامٍ واحدٍ نصاً وفكراً (( أن للإسلام معنىً واحداً ثابتاً لاتؤثر فيه حركة التاريخ ولايتأثر بإختلاف المجتمعات .. )) وهذا يؤدي الى جمود وتكلس فكر المجتمع وعقم عمله .. وبالتالي ينتهي به الأمر الى التخلف عن الركب الحضاري فكراً وتطوراً خاصة وأن المحدد للمعنى الواحد الثابت هم رجال الدين حصراً وهذا يعني إستبعاد كل العقول خلا العقل اللاهوتي (( ان هذا المعنى الثابت يمتلكه جماعة من البشر - هم علماء الدين قطعاً - وأن أعضاء هذه الجماعة مبرؤون من الاهواء والتحيزات الانسانية الطبيعية )) .. أظن أن العلم الحديث لايمكنه ان يبرىء اي جماعة من الاهواء الانسانية الطبيعية . إننا وإن سلمنا بقدرة النص على مخاطبة العصور اللاحقة والمجتمعات المختلفة ، من خلال إعادة إنتاج دلالاتها .. بيد أن ذلك يجب أن لايقود الى إهدار تاريخية النصوص ، فقراءة النصوص التي تتم - في أي زمان ومكان - تقوم كما يقول نصر حامد أبو زيد على آليتين متكاملتين هما :
١ – الإخفاء - لما ليس جوهرياً - وهذا مايفرضه التاريخ والجغرافية .
٢ – الكشف عن ماهو جوهري بالتأويل - ليس ثمة عناصر جوهرية قارة في النصوص - وبالنتيجة يكون لكل قراءة - بالمعنى التاريخي الإجتماعي - جوهرها الذي تكشفه في النص (( أن النصوص دينية كانت أم بشرية محكومة بقوانين ثابتة ، والمصدر الإلهي للنصوص الدينية لايخرجها عن هذه القوانين لأنها ( تأنسنت ) منذ تجسدت في التاريخ واللغة وتوجهت بمنطوقها ومدلولها الى البشر في واقع تاريخي محدد . إنها محكومة بجدلية الثبات والتغير ، فالنصوص ثابتة في ( المنطوق ) متحركة متغيرة في ( المفهوم ) ، وفي مقابل النصوص تقف القراءة محكومة أيضاً بجدلية الإخفاء والكشف )) .. وبالتالي يتم إنتاج دلالة النص من خلال فهم لغته ، طبعاً هناك الكثير من المؤثرات الفكرية والثقافية والبيئية والعقلية التي تساهم في تشكيل ذلك الفهم .. وهذا يعني تعدد القراءات بحسب التاريخ والجغرافية وإختلاف أذواق المنتجين لدلالات النصوص .. هذا الفهم التعددي له ملهماً مضيئاً من التاريخ الأول للإسلام كما في أقوال الإمام علي : (( القرآن حمّال أوجه )) .. (( القرآن خط مسطور بين دفتين لاينطق ، إنما يتكلم به الرجال )) .. لكن الفكر السلفي يهدر هذا الجانب المضيء من التراث في فهم طبيعة النص .. (( وهو الفهم الذي سمح بالتعددية ومنح الثقافة الإسلامية طابعها الحيوي الذي ظل مستمراً حتى توارى هذا الفهم مفسحاً المجال لفهم آخر يجمد دلالة النصوص في قوالب جامدة )) .
يظن البعض أننا كعرب ومسلمين من ها هنا أوتينا ، فإذا فكرنا الديني صار ديناً ، وإذا بتراثنا يتلفع بعباءة القداسة بعجره وبجره .. وإذا بتاريخنا عبارة عن سلسلة من الأبطال وخلفاؤنا مجموعة الحكماء .. وإذا بنا لم نرَ في ذلك الماضي غير العظمة والبطولة والإقتدار في الوقت الذي نعيش فيه الضعة والجبن والضعف .. وهذا يعني أننا لم نحسن قراءة ماضينا وبالتالي لم نحر جواباً على تحديات العصر الحديث ، إلا أن ننظر الى الوراء لذلك لم نجد جواباً وسوف لن نجد مالم نعيد دراسة تراثنا على ضوء العقل والعلم ونرفع عنه غطاء القداسة المتهريء .. وأن نتحول من نظرية ( معرفة الحق بالرجال ) الى نظرية ( معرفة الرجال بالحق ) .. وأن ننظر الى واقعنا بعلمية والى تحديات العصر بجدية ونمتلك إرادة تتعامل مع العصر من خلال قوانينه وآلياته وأفكاره مع التأكيد على خصوصيتنا من خلال تفعيلها تفعيلاً خلاقاً حتى يذوب التعارض مع العالمية الإنسانية من خلال تنشيط المشتركات الإنسانية المنتجة .
الدين الكهنوتي
أن الفكر الديني في البلاد العربية - وهو غير الدين كما أوضحنا - يشبه الى حدما الدين الكهنوتي الذي هيمنت عليه الكنيسة في اوربا إبان العصور الوسطى وإمتد الى عصر النهضة ، وقد بني الدين الكهنوتي على مقولة (( قيادة الضرورة الدينية للضرورة الإجتماعية )) وهذه الضرورة الدينية تشكل (( مجموعة مزيجها فلسفة مشوهة وإجتهادات كهنوتية في مجموعها تخدم أغراض الكهنة وأطماعهم الدنيوية ، ولما كان دينهم هو هذا المزيج الفكري الذي يخالف دين التوراة والإنجيل ثار عليهم قديس ألماني - مارتن لوثر )) . ولعل من نافلة القول بأن الإسلام سبق لوثر في توجيه النقد الى الدين الكنسي وأبان ما يعتوره من تشويه وتحريف فضلاً عن عدم صلاحيته للتطبيق الإجتماعي . وكان من نتائج الحركة العقلية في أوربا أن قادت المجتمع الأوربي الى نبذ أفكار الكنيسة التي وجدوا فيها مثالاً سيئاً حين تصدت لقيادة المجتمع . وثمة مجال للقول بأن الدين الكنسي والفكر الديني الكنسي قد تداخلا تداخلاً عظيماً حتى ذاب الدين في الفكر الديني ، هذا بالإضافة الى أن الدين الكنسي ( كنص إلهي ) لايمكن التسليم له بذلك فعلماء الإجتماع الغربيين قد تشككوا في ذلك ورموا الكتاب المقدس بالصناعة البشرية .. لذلك أطاحت النهضة الأوربية بالكنيسة وبكل عناصر قوتها المعيقة للتطور دون أن تفرق بين الدين والفكر الديني . وساد الفكر الحضاري ليقود دفة الحياة في الغرب وينقله الى عالم الفكر الصناعي والحداثي الذي سير الإنسان بكل عناصر القدرة والقوة من علم ومعرفة وحرية وأداتية صارمة ، لكي يمتلك زمام إموره بنفسه ويصنع مستقبله الباهر ، فأذعن الفكر الكنسي للفكر الحضاري وإستجاب لمقولاته وعرف حدوده وصار جزءاً منه ولفظ ضروراته ومعيقاته وصار يعمل في ميدانه دونما تعارض مع الفكر الحضاري . وذات التهمة يمكن أن تنسب الى الديانة اليهودية فهي ديانة مغلقة وأتباعها قلّة حيث بات واضحاً كون التوراة من صناعة البشر في الأسر البابلي .. وضعت بعدما يقارب الثمانية قرون من عصر موسى النبي .
أما الإسلام فهو الوحيد بين الأديان الذي مازال يحتفظ بالدين - النص - الإلهي المنزل من الله سبحانه وتعالى والمتمثل بالكتاب العزيز (( القرآن )) وقد ساق مريدوه الأدلة العقلية والسمعية ليثبتوا إستحالته على الصناعة البشرية .. ولم يكن للإنسان فيه دور سوى التبليغ والإرشاد الى مضامينه .. والإسلام بهذا الإطار لايتعارض مع الفكر الحضاري طالما أن القرآن (( حمال أوجه )) كما وصفه الإمام علي بن أبي طالب (ع) .. والوجه / المعنى يمكن تكييفه حسب المكان والزمان .. وبذلك ينتهي التعارض بين النص / الثابت والمعنى / المتغير وبين الفكر الحضاري المتطور والمتجدد . بينما يتعارض الفكر الديني السلفي في التاريخ الإسلامي مع الفكر الحضاري .. بما بني عليه من نظريات ومقولات دوغائية حسبت على الدين – والدين منها براء – بمعنى أن حملة راية هذا الفكر جادون في أحكام المماهاة بين الدين والفكر الديني .. والأمر لاينتهي الى هذا الحد بل وصل الأمر الى أن تضع الحركات التكفيرية السيوف في رقاب العباد لتغرق بالدم كل البلاد وتلغي الآخر من الحياة .
الحاكمية والجبرية
أن يكون للكون علة أولى .. فهذا ما تدعو له سائر الأديان .. وفي الإسلام فأن الله سبحانه هو المبدأ والعلة الأولى .. وهي عقيدة راسخة لدى المسلمين قاطبة . لكن الفكر السلفي ينظر للأمور بمنظور إحالي أي انه يعمد الى إحالة الظواهر الطبيعية والإجتماعية بالمباشر الى العلة الأولى ، وبذلك يتم إحلال الله في الواقع وذلك يقود الى نفي الإنسان وتعطيل القوانين ومصادرة المعرفة التي لاتمت الى الفكر الديني بصلة . (( هذا التصور إمتداد للموقف ( الاشعري ) القديم ، الذي ينكر قوانين السببية في الطبيعة والعالم لحساب ( جبرية ) شاملة تمثل غطاءً آيديولوجياً للجبرية الإجتماعية والسياسية في الواقع )) . والنتيجة إضمحلال فاعلية الإنسان وتلاشي حاكميته التي بُني عليها الفكر الحداثي الذي يقود دفة الحضارة الإنسانية الحالية ، ويسوغ الفكر الديني ذلك بان الحاكمية البشرية تتقاطع مع الحاكمية الإلهية .. لكن عجبنا لاينقضي عندما نعرف ان الحاكمية الإلهية المراد إقامتها في المجتمع ، من الذي يقوم ببنائها ؟ أهو الإنسان ؟ إذا كان الجواب بالإيجاب إذاً صار الأمر حاكمية بشرية .. أم أن الله يقيم حاكميته بدون البشر ؟ وهذا مخالف للقانون الإلهي : (( إن الله لايغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )) – الكتاب العزيز – وهذا الجانب هو مايجب أن نوجه له النقد الواعي ونفند مقولاته القهرية التي صارت معيقة للتقدم والتطور والإنسجام مع الفكر الحضاري . فلا زال الفكر الديني السلفي عندنا يؤمن بنظرية الجبر التي تشل إرادة الإنسان والتي كان من نتائجها أن يواجه العرب العدوان الإسرائيلي بالتوكل وحسب من دون عزم .. الأمر الذي يناقض قوله تعالى (( فإذا عزمت فتوكل على الله )) وقوله تعالى (( وأعدّوا لهم ماإستطعتم من قوة )) . أن مقولة (( الجبر )) تعد صناعة أمويّة صميمية لتنسجم مع مبدأ الحاكمية الذي قال به الأمويون في واقعة صفين ووظفوه آيديولوجياً وسياسياً . وفي واحدة من أكبر عمليات التاريخ لتزييف الوعي العربي والتي مارسها الأمويون بحكم إفتقادهم الى الشرعية التي يتطلبها كل نظام سياسي وذلك حين (( إستجاب معاوية لنصيحة إبن العاص وأمر رجاله برفع المصاحف على أسنة السيوف داعين الى الإحتكام الى كتاب الله )) في عملية تظليل رهيبة لما تزل تحيى بين ظهرانينا وهي لاغيرها المسؤولة عن هزيمة العقل العربي . لأنها صارت سنة لكل أنظمة الحكم التالية في العالم الإسلامي ..
تصفية العقل ومحاصرة الفلسفة
كما يقول الفكر السلفي بنظرية سد باب الإجتهاد التي تقمع الإبداع وتنفي العقل وتدعو الى الإتباع والتقليد .. وهكذا ينتهي هذا الفكر الى التعارض مع أهم قواعد الإسلام القائمة على العقل .. لأن الإسلام أصلاً هو دعوة لتأسيس العقل في ميدان الفكر كنقيض للجهل .. فضلاً عن أن النقل لايثبت إلا بالعقل كما عليه علماء المسلمين .. وهكذا تمكن الفكر السلفي من الحيلة الآيديولوجية التي بنيت عليها محاولات إلغاء العقل لحساب النص التي كان ابطالها الأمويين في حادثة التحكيم الشهيرة في التاريخ .. أن يؤسس للتقليد ويتم القضاء على العقل لاحقاً من خلال تصفية فكر المعتزلة ثم محاصرة العقل الفلسفي في نقاط مسيطر عليها ومحدودة التأثير ، رغم أن العقل / الإجتهاد (( هو الوجه الآخر للنص ، الوجه الذي بدونه يتوقف عن أن يكون نصاً لغوياً دالاً ويتحول الى آيقونة للزينة والتبرك )) . فضلاً عن ذلك يعلن الفكر السلفي عن عدم إيمانه بالحسن والقبح العقليين حتى أركسنا بالخرافات واللامعقول فحدث ولاحرج وقد بينا من قبل عدم قبوله بمبدأ العلية وقانونه – من أسباب ومسببات – الذي تقوم عليه كل العلوم وبهدمه لايمكن أن تقوم لأي علم قائمة .
يقول الفكر الديني بسلطة النص ويرفض سلطة العقل .. في حين أن النص منذ أنسنته عندما أوحي به الى النبي (( ص )) فكانت قراءة النبي له إيذاناً بتحوله من وحي (( نص إلهي )) بالتنزيل الى فهم ( نص إنساني ) بالتأويل وهذا يعني أن الأصل سلطة العقل (( التي يتأسس عليها الوحي ذاته – العقل لابما هو آلية ذهنية صورية جدلية ، بل بما هو فعالية إجتماعية تاريخية متحركة . هذه السلطة قابلة للخطأ ، لكنها بنفس الدرجة قادرة على تصويب أخطائها ، والأهم من ذلك أنها وسيلتنا الوحيدة للفهم ، فهم العالم والواقع وأنفسنا والنصوص ، ولأنها سلطة إجتماعية تاريخية فإنها ضد الأحكام النهائية والقطعية اليقينية الحاسمة . إنها تتعامل مع العالم والواقع ( الإجتماعي والطبيعي ) والنصوص بوصفها مشروعات مفتوحة متجددة قابلة دائماً للإكتشاف والفحص والتأويل . ومن خلال هذا التجدد والحركة يتجدد العقل ذاته وتتطور آلياته وتنضج في جدل لانهائي مثمر خلاق )) . وبما أن الفكر الأصولي لايحتكم الى سلطة العقل لأن أسلحته لاتشتغل ضمن ميادين العقل الأمر الذي يجعله موارباً لباب الحوار في هذه الميادين .. فيلجأ الى التضليل الآيديولوجي وتزييف وعي العامة الدهماء لتعثر محاولاته في تاسيس ثقافة حضارية مبنية على العقل والتعددية .. نقول يلجأ الى مبدأ التكفير .. الذي يلقى صدى طيباً في المجتمعات المتخلفة التي تتفشى فيها الأمية التعليمية بله الأمية الثقافية . والأمّر من ذلك إستسلام رجال الثقافة والفكر خوفاً ومجاراة للفكر التكفيري (( وهو موقف خطير في مغزاه وفي النتائج التي يؤدي إليها )) .