باتت في السنوات الأخيرة لا تنقضي أشهر حتى نسمع لغطا عن "مسيحيي الشرق" على المنابر الغربية، الكنسية منها وغير الكنسية. والمقصود عادة هم مسيحيو البلاد العربية، وإن دأب الطمس المتعمَّد والمقصود لتلك الهوية. فليس التعاطي مع إشكاليات المسيحية العربية بريئا، بل يأتي مدفوعا برغبة تستهدف إفقادها ما تبقى من أصالتها، تنزع بعيدا عن مقصد التحرر الحقيقي لهذه المسيحية المستضعفَة.
فالمسيحي العربي لا ينعم برغد العيش، لا على المستوى الاجتماعي ولا على المستوى السياسي في جل الأقطار العربية، وهذا حقّ، وهو ليس وحيدا في درب الآلام الذي يشقه، بل مرفوقا بالمسلم الحزين أيضا. كان استغلال تلك الصورة المشطورة دائم الحضور في المشهد الإعلامي الغربي وعلى المنابر الغربية، بعيدا عن استكمال حقيقتها. إذ غالبا ما نعت ذلك الشق الموالي للكنيسة الغربية بـ"مسيحيي الشرق" وجرى التداول لقضاياه، وأما من لم يوال الكنيسة الغربية، فعادة ما غاب عن تلك اللوحة وكأنه ليس من حملة الصليب. فليس تلاعب الكنيسة الغربية مع المسلمين في تحميلهم الأوضاع السلبية التي يعيشها المسيحيون العرب فحسب، بل يمس أيضا إخوة الدين والإيمان لها، بفرز الماروني عن القبطي والكاثوليكي عن الأرثوذكسي، وهلم جرّا.
منذ سنين أتابع الحديث عن المسيحية العربية في الغرب، فكلما جرى تناول المسألة إلا وكان فصل المقال فيها توجيه الاتهام إلى ما يمتّ إلى الإسلام بصلة، وهي بالحقيقة خلاصة وعي مقلوب أدمن فكرة أن الخلاص خارجي والجحيم داخلي.
إن تحرر المسيحية العربية هو تحرّر بالأساس من براثن البؤس والفقر والحرمان والحيف التي تكبّلها. فهل الكنيسة الغربية قادرة على خوض معركة التحرّر الحقيقي معها على هذا الأساس، لا إلهائها بالقضايا المتولدة عن المشكلة الكبرى؟ فإن كان المسيح محرِّرا، على حد قول ليوناردو بوف، منظّر لاهوت التحرّر، فالكنيسة اليوم تكبّل المحرومين أكثر مما تحرّرهم.
حريّ بالمسيحية العربية أن تعي مقصدها، وتسدّد رميها، وإلا اختلطت عليها السبل. وهي وإن تحاول الاحتماء بالكنائس الغربية أحيانا، فلا بد أن تدرك أين تسير كبريات العائلات الكنسية: الكاثوليكية والأرثوذكسية والأنجليكانية والبروتستانتية.
فهل تسعى الكنيسة الكاثوليكية حقا للتحالف مع الفقراء والمعوزين والمقهورين؟ يضيق المجال عن تناول ذلك بالتفصيل في هذا المقال، ولكن نشير إلى ما كتبه سيرج لاتوش في جريدة "العالم الدبلوماسي" الفرنسية، في عدد سبتمبر 2010، وخلاصته أن النظرية الاقتصادية للكاثوليكية اليوم، المتجلية في رسالة البابا بندكتوس السادس عشر "كاريتاس إين فيرتا" (حقيقة الإحسان)، تتبنى فلسفة تحرير السوق وتناصر الليبرالية الجديدة، التي لم تزد الفقراء إلا فقرا والمترفين إلا غنى. فثمانين بالمئة من ثروات الكون يستنزفها عشرون بالمئة من أغنيائه. وهل يذرف هؤلاء الدمع على مسيحيي السودان البؤساء، أو مسيحيي فلسطين الحيارى، أو مسيحيي العراق الذين تقطّعت بهم السبل؟
ربما لم تعاني المسيحية العربية، في محاصرة رجالاتها، مثلما عانته مسيحية أمريكا اللاتينية، مع ليوناردو بوف وغوستافو غوتيراز، من عزل وحرمان وتخريس، عندما طالبت بقلب معادلة التعامل مع واقع أمريكا اللاتينية، من وهْم مطاردة شبح حرية الكنيسة واضطهادها إلى واقع المشاركة في تحرير الفقراء واجتثاث القهر، ورفعت شعار "الخيار من أجل الفقراء" في مؤتمر مادلين بكولومبيا عام 1968.
أساقفة البلاد العربية وكهنتها، يحزمون حقائبهم هذه الأيام للحجّ إلى حاضرة الفاتيكان للمشاركة في "سينودس كاثوليك الشرق الأوسط"، الذي سيعقد بين العاشر والرابع والعشرين من أكتوبر الحالي. نأمل أن يغادروا خطاب الشكوى المستهلَك ليتطارحوا أصل القهر، المتمثّل في الظلم الاجتماعي والحيف الاقتصادي، المفروض بفعل الاستعمار وبفعل الاستغلال، وهو أمّ الخطايا التي ينبغي التطهّر منها، والساحة العراقية الفلسطينية اللبنانية خير تجل لآثاره. فالكنيسة العربية منذ التافتها شطر الغرب لاستيراد لاهوتها، بدا وكأنها تناست أن المسيح (ع) تعمّد في نهر الأردن، حتى غدت قضاياها الحقيقية محكوما عليها بلزوم الصمت - silence obséquieux- لتُستبدل بخطاب الولاء. فأن يبقى الغرب حائط المبكى الذي تذرف عنده المسيحية العربية الدمع، مع كل موسم، ليس حلا، فلا خلاص لها إلا بالمثوبة إلى حاضنتها الحضارية، ولا سبيل إلى ذلك إلا بسلوك طريق التحرّر.