مقدمة:
مازالت منطقة الحماية الاسبانية تعاني من نقص الدراسات التاريخية بالمقارنة مع المنطقة الفرنسية، وهو ما ينعكس سلبا على أية دراسة تتوخى دراسة النخب بالمنطقة الخليفية. سنحاول في هذه الورقة ملامسة موضوع النخبة السياسية بالمنطقة الخليفية محاولين الإجابة عن التساؤلات التالية : ماهي جذور وامتدادات النخبة الشمالية ؟ ما هي آليات ثأتيرها و ماهي أبرز خصائصها ؟المحور الأول : الجذور والامتدادات :
يعتبر العلم مدخلا مهما يمكن صاحبه من الولوج إلى دائرة النخبة ، لكون العلماء كان لهم ومازال وجود قوي في الساحة ، ويمتلكون صوتا مسموعا لدى الخاصة والعامة ، وفي غالب الأحيان يكون العلم مجرد عامل إضافي لا يكون له دور مهم إلا إذا اقترن بعوامل عائلية ، فالعلم والنسب يشكلان جواز مرور إلى النخبة .
لقد كان الجمع بين العلم والاشتغال في بعض الوظائف أو ممارسة أنشطة اقتصادية من الأمور المعروفة في القرن التاسع عشر ، وكمثال على ذلك نجد في المنطقة الشمالية لللمغرب عائلة الطريس التي أنجبت العديد من الفقهاء الذين زاولوا مهام متعددة داخل المخزن ، بداية بالفقيه المهدي بن محمد الطريس الذي عين في سلك أمناء الديوانة زمن السلطان سيدي محمد بن عبد الله ، مرورا بابنه محمد الذي زاول منصب أمين الديوانة في كل من تطوان وطنجة والصويرة والدارالبضاء ، وخلفه ابنه عبد الخالق بن محمد في نفس المنصب ، وهو نفس المنصب الذي ورثه لابنه العربي بن عب الخالق ، ومن أهم المناصب التي تقلدها فرد من هذه العائلة نجد منصب النائب السلطاني في لشؤون الخارجية الذي تقلده محمد بن العربي الطريس في عهد السلطان الحسن الأول ، وورثه ابنه الحاج احمد بن محمد الطريس أيام السلطان مولاي عبد العزيز ، والذي تولى في عهد الحماية منصب باشا مدينة تطوان ، مما مكن ابنه عبد الخالق الطريس من ايجاد ظروف جيدة لتحصيل العلم ، حيث التخق بأول مدرسة أنشأتها الحماية الاسبانية بالمنطقة واستطاع متابعة دراسته بالقاهرة ، ثم سافر إلى باريس ليكمل دراسته للفلسفة في جامعة السوربون التي قضى بها سنتين ، انتقل بعدها إلى سويسرا . وفي باريس تعرف على العديد من قادة جمعية طلبة شمال افريقيا المسلمين ، ولما عاد إلى تطوان انضم إلى الكتلة الوطنية ، وأصبح جزءا من النخبة السياسية بالمنطقة الخليفية [1].
لكن هذا لم يمنع من تواجد أسر لم تكن تتوفر على معيار العلم، لكنها استطاعت أن تجد لنفسها موطئ قدم داخل النخبة السياسية ، وذلك راجع كما يقول مصطفى الشابي في كتابه النخبة المخزنية في القرن التاسع عشر إلى خدمتهم المتفانية للمخزن خصوصا خلال حركاته ، وبالتالي تمكنوا من الحصول على موقع اجتماعي وسياسي متميز [2] ، وهذا ينطبق على أسرة أشعاش التي احتكر أفرادها لمدة طويلة منصب قائد تطوان كما أشار إلى ذلك عبد العزيز السعود [3] ، ومن وجوه هذه الأسرة نجد عبد الرحمان بن عبد القادر أشعاش الذي تولى ولاية تطوان على عهد مولاي اليزيد ومولاي سليمان ثم ابنه محمد بن عبد الرحمان أشعاش الذي خلف والده في نفس المنصب ، وهو نفس المنصب الذي تولاه محمد بن عبد القادر أشعاش، واستطاع محمد بن محمد أشعاش أن يتولى منصب باشا تطوان من سنة 1937 إلى 1951 .
من الأسر العريقة كذلك التي وجدت لها مكانا داخل النخبة السياسية بالمنطقة الخليفية نجد أسرة بنونة، حيث كان الحاج العربي بنونة أب عبد السلام بنونة من كبار موظفي الدولة في عهد السلطان مولاي الحسن الأول ومولاي عبد العزيز، مثلما كان أيضا حفيدا لأحد كبار الدبلوماسيين المغاربة السفير الحاج عبد الكريم بريشة جده من أمه [4] ، وترجع أصولها البعيدة الى الأندلس في حين أن أصولها القريبة المعروفة ترجع إلى جدهم الفقيه المحدث الحاج محمد بن عبد الواحد والذي قدم من فاس إلى تطوان آوائل القرن الثامن عشر [5] ، واستطاعت هذه الأسرة المصاهرة مع أسرة تطوانية عريقة هي أسرة بريشة حيث لم يترك عبد الكريم بريشة خلفا ، غير أنه أصهر احدى بناته للعربي بن المهدي بنونة ، ونتج عن هذا الزواج الحاج عبد السلام بنونة [6] الملقب بأبي الحركة الوطنية وهو والد الطيب بن عبد السلام بنونة الذي كان من ضمن البعثات الأولى التي أرسلت إلى المشرق خلال فترة الحماية [7].
وبالطبع هناك أسر لم يكن لها ماض عريق لكنها أصبحت خلال عهد الحماية تحتل مكانة سياسية مهمة، وعلى رأسها في المنطقة الخليفية نجد أسرة داوود ، وشخصيتها البارزة محمد داود الذي ولد بتطوان سنة 1901 من أم من عائلة داود أيضا، وحفظ القرآن وما تيسر من المتون العلمية، لينتقل سنة 1920 إلى فاس فأتم على علمائها دراسته، ليعود إلى مسقط رأسه ويزاول التدريس والعدالة والكتابة في عدة صحف مثل صحيفة الأهرام المصرية التي كان مراسلا لها [8] ، كما درس العديد من رواد الحركة الوطنية أمثال عبد الخالق الطريس .
المحور الثاني : آليات التأثير :
إن ما يميز هذه النخبة هو اقتناعها بلا جدوى العمل المسلح في الوقت الراهن، بعد اندحار مقاومة محمد بن عبد الكريم الخطابي ، واقتنعت بأن لا سبيل لمواجهة الاسبان إلا بنهج طريق العلم وتطويره ليواكب مسيرة المجتمع المعاصر، وربطت التقدم بنشر العلم والوعي بأسباب التخلف الفكري والاجتماعي والاقتصادي ، فكانت ضد الجمود والتقليد ، وأدركت أن نشر التعليم هو أساس كل إصلاح ، وهذا ما يؤكده الأستاذ المهدي بنونة في مذكراته حيث يقول : " اعتقد والدي أن احتلال المغرب نتج عن تدهور اقتصادي وعلمي وثقافي ، وكان يرى أن المغرب لن يساير التطور العلمي إلا بنهضة اقتصادية وعلمية وثقافية ، لذلك ارتأى ضرورة مقاومة السيطرة والاحتلال الأجنبي بمكافحة الأسباب التي قادت إلى تلك السيطرة ، ولم يكن ذلك متاحا إلا بوضع الأسس السليمة لاقتصاد مغربي وطني وبتلقي المغاربة العلوم الحديثة " [9] .
وهكذا فكر رواد النخبة السياسية الشمالية في النهوض بأوضاع التعليم بإنشاء مدارس حديثة ، وهكذا ساهم عبد السلام بنونة في تأسيس المدرسة الأهلية ورعايتها ، وساهم ماليا لتغطية مصاريف إنشائها وتطوع للتدريس بها وحرص على جعل اللغة الاسبانية ضمن المواد المدرسة بها ، وفكر كذلك في طبع كتب مدرسية عصرية على منوال تلك المعتمدة في المدارس الابتدائية المصرية ، وأمام الخصاص الذي كانت تعانيه المنطقة الخليفية أرسل ابنه الطيب رفقة محمد المصطفى أفيلال إلى مدرسة النجاح بنابلس ، وشجع أصدقائه على إيفاد أبنائهم الى هذه المدرسة . كما تقدم بمقترحات متتالية إلى السلطات الاسبانية للمطالبة بحق المغرب في التوفر على مؤسسات تعليمية بمختلف مستوياتها ، ودعى سنة 1928 الى انشاء كلية عربية جامعة بتطوان ، وصاغ في ذلك تقريرا مفصلا حول التخصصات الدراسية والمواد وهيأة التدريس ، لكنه بقس حبرا على ورق ، كما صاغ تقريرا لإصلاح المدارس القرآنية ، لكن السلطات الاسبانية لم تستجب لطلباته [10] ، بالمقابل استطاع فتح المدرسة الأهلية بتطوان سنة 1924 وكانت أول مدرسة ابتدائية عصرية عربية حرة بشمال المغرب بادارة الفقيه محمد داود[11].
كما أسسوا المعهد الحر بمبادرة من عبد الخالق الطريس وكان من أهدافه المباشرة إقامة مبادئ التعليم الحديث بالمغرب ، وسد الفراغ الحاصل فيما يتعلق ببعض النشاطات الثقافية ، أما أهدافه الغير المباشرة فتتمحور حول تكوين طبقة من الموظفين الممتازين وجمهور من المترجمين الذين يستفاد منهم عمليا وفكريا ويعطي للوطنية قسما مع الدعاة يعرفون تاريخ بلادهم وأحوالها ، ويجدون المقدرة التامة على التعبير عن آلامها وأحزانها ، ويخلف جماعة من الشباب تجمع بين ثقافتين [12].
كما عملت النخبة الشمالية على تكوين خير خلف لخير سلف بإرسال بعثات طلابية إلى المشرق أولها كما سبق الذكر تلك البعثة المكونة من الطيب بنونة ومحمد أفيلال ، ولحق بهم في السنة الموالية سبعة طلاب وساهم ذلك في تطوير معارف الطلبة وربط اتصالات بجمعيات الطلبة من الدول الشقيقة وبوطنيي الدول المجاورة ، وكذا بوطنيي المنطقة الفرنسية والمشاركة في بعض الجمعيات والعصب المناهضة للاستعمار [13].
كما انتبهوا إلى أهمية الجرائد في نشر الوعي الوطني والقومي، وهكذا كانوا يستقدمون الجرائد المشرقية عبر البريد الانجليزي، قبل أن يؤسسوا المطبعة المهدية التي لعبت دورا هاما في إصدار الصحف والنشرات باللغة العربية [14]، وهكذا أصدر محمد داود مجلة السلام سنة 1933 والتي منعتها السلطات الاستعمارية بعد صدور عشرة أعداد، ليعود سنة 1936 لينشئ جريدة الأخبار التي لقيت نفس المصير بعد صدور خمسة أعداد [15] ، وأصدر عبد الخالق الطريس سنة 1934 جريدة الحياة الأسبوعية التي أرهقت بالغرامات مما ساهم في توقيفها، ليعود سنة 1937 ليصدر جريدة الحرية .
ويشير الصحفي جان وولف في كتابه ملحمة عبد الخالق الطريس إلى أن جرائد الشمال كانت تقرأها الأوساط السياسية بشره ، في كل مكان يمكن العثور عليها ، وبما أن دخولها للمنطقة الشمالية كان سريا، فان أثمانها كانت تتضاعف عدة مرات، فالجريدة التي كانت تساوي بسيطة واحدة في الشمال كان يعاد بيعها ب 20 بسيطة في المنطقة الجنوبية [16].
وتبقى أهم آلية للتأثير نهجتها النخبة الشمالية هو تأسيسها لأحزاب سياسية، حيث كانت البداية بتأسيس حزب الإصلاح الوطني سنة 1936 والذي كان من أهدافه التي جاءت في قانونه الأساسي : إيصال الأمة المغربية إلى جميع حرياتها وكامل استقلال أراضيها ، تحقيق الوحدة المغربية سياسيا ولغويا ، إكتساب سائر الحقوق الضائعة لغويا وسياسيا، إبلاغ الأمة إلى مركز سام من الحضارة والقوة ، وفي 3 مارس 1938 أعد الحزب وثيقة مطالب الشعب المغربي [17]. كما أسس المكي الناصري حزب الوحدة المغربية في 3 فبراير 1937 ، وأصدر جريدة ناطقة باسمه وهي جريده الوحدة المغربية ، وهذان الحزبان دخلا في تنافس شديد إلى غاية سنة 1942 حيث اتحدا في الجبهة القومية الوطنية المغربية ورفعا يوم 14 فبراير 1943 وثيقة المطالبة بالاستقلال ووحدة المغرب الترابية مع وجوب اسقاط نظام الحماية [18].
المحور الثالث : خصائص النخبة الشمالية :
ما يلاحظ هو أن أغلب أعضاء هذه النخبة السياسية ينتمون إلى تطوان ، وهذا لم يمنع وجود أسر أخرى، لكنها لم تترك صدى مثلما كان للأسر التطوانية ، وربما يرجع هذا إلى الجاه والنسب الذي كان للأسر التطوانية والتي حافظت على أنسابها عن طريق علاقات تصاهرية منغلقة على ذاتها .
ما يميز أيضا هذه النخبة الشمالية هو تأثرها بشكل كبير بالأفكار السائدة في المشرق آنذاك وعلى رأسها أفكار السلفية والقومية العربية ، وهي أفكار كان يروجها أعلام مثل محمد عبده ، رشيد رضا وشكيب أرسلان الذي زار المنطقة الخليفية سنة 1930 ، ونقل هذه الأفكار إلى المغرب في مرحلة أولى كل من أبو شعيب الدكالي ومحمد بلعربي العلوي قبل أن يلتحق رواد هذه النخبة السياسية بأنفسهم إلى المشرق للدراسة .
وعلى اعتبار أنه كان للسلطان سلطة اسمية على رعاياه في المنطقة الخليفية، وكان الخليفة هو الذي يتولى السلطة الرسمية المباشرة بالنيابة عن السلطان ، فقد كانت النخبة السياسية بالشمال تتعامل مع الخليفة والسلطان معا، وتشبتها بسلطة السلطان هو في الوقت ذاته حسب رأيها تشبث بالعمل الوطني الموحد.
أما علاقتها بالحركة الوطنية في المنطقة الفرنسية فقد كانت النخبة السياسية في الشمال مستقلة عن الحركة الوطنية في المنطقة الجنوبية، وتتخذ قراراتها بناء على الظروف التي تمر منها المنطقة، كما كانت لها تنظيماتها المستقلة ولا يجمعها بالنخبة السياسية في المنطقة الفرنسية إلا وحدة الهدف، كما كانت متأثرة بالثقافة الاسبانية والجو اللاتيني الاسباني التقليدي المتمثل في سيطرة الجيش والكنيسة، لذلك غلب عليها التعريف بالهوية المغربية فأعطت للثقافة وتقويم الأخلاق والتعليم ومحاربة البدع اهتماما كبيرا .
واستطاعت في نفس الوقت أن تؤمن لنفسها تعايشا مع الأنظمة الاسبانية الأربعة التي تعاقبت على الحكم في مدريد خلال فترة الحماية ، ذلك التعايش كان يستمد مفهومه من سعي الأنظمة المذكورة لبسط سيطرتها على المنطقة الخليفية مقابل التفاهم مع الوطنيين على إدخال الإصلاحات المناسبة بالتعاون مع حكومة الخليفة .
ولكن هذا لا يعني أنها كانت نخبة إصلاحية فقط بل تحركت وفق ما تسمح به الظروف، كما إنها استطاعت تحقيق سبق وطني تجلى في إصدار الصحف والمجلات، والعمل العلني وتأسيس الأحزاب، وجاء تعاملها بنوع من المرونة مع الاسبان، في حين وجهوا سهام النقد لفرنسا نظرا لوعيهم بأن الاستعمار الفرنسي هو الأصل والاسباني هو الفرع، وإذا سقط الأصل سقط الفرع [19].
خاتمة :
إن موضوع النخب السياسية يعتبر مدخلا هاما لدراسة التاريخ السياسي والثقافي وحتى الاقتصادي، وهو موضوع ما زال مهملا في الدراسات التاريخية المغربية، وربما سيؤدي الاهتمام به إلى تسليط الأضواء على زوايا ما زالت مظلمة في التاريخ المغربي .
[1] أحمد زيادي ، موسوعة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير بالمغرب ، ج 2 المجلد 5 ، ص ص 588 589.
[2] مصطفى الشابي، النخبة المخزنية خلال القرن التاسع عشر، ص 109.
[3] عبد العزيز السعود ، تطوان خلال القرن التاسع عشر مساهمة في دراسة المجتمع المغربي ، ص 12.
[4] محمد زاد ، موسوعة الحركة الوطنية ، ج 2 المجلد 3 ، ص 218.
[5] محمد بن عزوز حكيم معلمة المغرب ، ص 1490 نقلا عن الطيب بنونة نضالنا القومي.
[6] مصطفى الشابي، م س ، ص 157.
[7] محمد بن عزوز حكيم ، معلمة المغرب ص 1491.
[8] محمد الأمين بوخبزة ، معلمة المغرب ، ج 12 ،ص 3947.
[9] عبد العزيز خلوق التمسماني ، تقويم سياسي عام لنظام الحماية الاسبانية على المغرب الشمالي ( 1912-1956) في مدخل إلى تاريخ المغرب الحديث تنسيق عبد الحق المريني ، ص ص 103 104.
[10] محمد زاد ، موسوعة الحركة الوطنية ج 2 م 3 ص 221.
[11] ابن عزوز حكيم ، معلمة المغرب ، ج 5 ، ص1493 .
[12] عثمان أشقرى ، الفكر الوطني من 1930 إلى سنوات الاستقلال الأولى ( مقاربة سوسيولوجية ) ، بحث لنيل الدكتوراه في علم الإجتماع ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط 2002-2003 ص ص 231 232.
[13] عبد الرحيم برادة ، إسبانيا والمنطقة الشمالية المغربية 1931 – 1956 ، ج 2 ،ص 232.
[14] عبد العزيز خلوق التمسماني ، م ن.
[15] حسناء داود ، موسوعة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير ج 2 م 4 ص 403.
[16] جان وولف ، ملحمة عبد الخالق الطريس ، ص 176.
[17] أشقرى ، م س ، ص 182.
[18] م ن ، ص 188.
[19] عبد الرحيم برادة ، م س ، ص ص 228 229 .