لقد كان المجتمع المغربي قبل الحماية يعتمد في معاملاته اليومية و في تدبير شؤونه المختلفة على نصوص دينية مقدسة، وكانت هي النصوص المسموح بدارستها إلى جانب النحو والبلاغة، وكانت العلوم العقلية من تاريخ وفلسفة وكيمياء وفلك لا تجد مكانا ضمن اهتمامات علماء وطلبة القرن التاسع عشر، وشكلت هزيمة ايسلي وما تبعها من اتفاقيات ومعاهدات صدمة للمغاربة أدركوا معها مقدار البون بينهم وبين الأوربيين ، فكان ذلك مدعاة للتساؤل من طرف نخبة ذلك العصر .
في هذا السياق التاريخي بدأت مجموعة من الأفكار تتسرب إلى المجتمع المغربي مثل فكرة الحرية التي واجهت نقدا من طرف شخصيتين هامتين آنذاك أبو عبد الله السليماني و أحمد بن خالد الناصري لأنها ارتبطت بضغوط الدول الأوربية ومطالبها الكثيرة المتعلقة بضمان حرية التجارة والقيام بإصلاحات الهدف منها ضمان تغلغل القوى الأوربية وتفكيك الحدود التي يقيمها الشرع وإلى القضاء على القيم السائدة آنذاك [1].
وهكذا نجد الناصري يقول : " واعلم أن الحرية التي أحدثها الفرنج في هذه السنين هي من وضع الزنادقة قطعا ، لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية رأسا ... واعلم أن الحرية الشرعية هي التي ذكرها الله في كتابه وبينها رسول الله لأمته وحررها الفقهاء في باب الحجر من كتبهم "[2].
أما محمد بن جعفر الكتاني فقد وصف الحرية عند الفرنجة بأنهم يدينون بأي دين شأوا ويتمذهبون بما أحبوا من المذاهب ويزنون ويتعاطون الربى والمساواة بين المسلم واليهودي والمجوسي " ولا يخفى ما في هذا من النسخ للشريعة المحمدية "[3].
فالحرية عندهما مرتبطة بالإساءة إلى الدين وهي من صنع الكفار لذا يجب رفضها والاكتفاء بما جاء في الشرع .
أما محمد بن عبد الله الصفار في رحلته الى باريز فقد أبدى اعجابه بمظاهر الحضارة الأوربية ونوه بحرية الأفراد في التفكير وإبداء الرأي والمشورة ونشره في الكوازيط (الصحافة )، فلا حجر لأحد على الأخرين في أفكارهم، وأشار إلى أن سلطة ملكهم لوي فيليب مقيدة بالقانون ولا يستقل وحده بحكم من الأحكام كما أشار الى النظام الانتخابي المتبع عندهم ، ويستشف من هذا بوادر التغيير في تقبل الحداثة الأوربية [4]، ولعل هذه الرحلة وباقي الرحلات الأخرى قد ساهمت في نشر أفكار عن الحرية الأوربية المرتبطة بمسألة الإصلاح السياسي مما جعلها تساهم في ظهور عدة وثائق يمكن اعتبارها دستورية في مغرب ما قبل الحماية : مذكرة عبد الله بن سعيد ، مشروع علي زنيبر ، مشروع عبد الكريم مراد السوري ، مشروع دستور لسان المغرب .
وباستثناء مشروع زنيبر ومشروع لسان المغرب فإن النصوص الأخرى لم تورد لفظ حرية، وحتى مشروع زنيبر فإنه تحدث عن الحرية بتحفظ [5].
فدستور لسان المغرب جاء في ثلاث وتسعين مادة، ونص على حرية المعتقد الديني مقترنا بالتنصيص على الدين الرسمي للدولة، كما نص على حق المغربي في أن يتمتع بحريته الشخصية معرفا إياها بأنها تقوم على أن يعمل كل واحد ما يشاء ويتكلم بما شاء، مع مراعاة الآداب كما جرم التعذيب والجلد والسخرة وقطع رؤوس العصاة وتعليقها على الأسوار وتجريم نهب القبائل إثر هزيمتها أمام جيش المخزن [6] ، لكن السلطان رفض هذا الدستور وأوقف جريدة لسان المغرب [7].
بعد الاستعمار أخد مفهوم الحرية بعدا أخر ارتبط بالمناداة باستقلال المغرب عن فرنسا واسبانيا ، وأصبحت شعارا يرفع من قبل الحركة الوطنية حيث عبر روادها عن ما أسماه أحدهم ب"حاجتنا إلى الحرية" والتي قسمها إلى حرية الأمة من المستعمر وحرية سياسية واجتماعية للأفراد والتي اعتبرها من دعائم الحياة العصرية وأساس نجاح الأمة [8] .
أما علال الفاسي ففي كتابه النقد الذاتي الذي نشر سنة 1952 فنجده يقول " إن الحرية وحدها هي السلوى الصادقة لكل نكبة، والغذاء اللذيذ لكل بلوى فيجب أن تشبع روح الشعب بالتطلع لهذه الغاية الجميلة، والعمل على نيل وصالها حتى يستمتع بلذاتها هو وإخوانه ويصبح له من عالمها مثل سليم ينير له السبل ويفتح أمامه الأفاق. إن الكفاح من أجل الحرية هو الذي يجب أن يعمل لها الجمهور وأن على العقلاء أن يوجهوا من بعيد الفكر المغربي في هذا الاتجاه الصحيح "[9]، وجعل لهذه الحرية شرطا أساسيا وهو أن يعرف الشعب " حقيقة نفسه ويدرك مرامي الحرية، ثم يكون له آنذاك أن يختار من بين التجارب الانسانية ما يساعده على الاحتفاظ بنجاح تجربته هو ككائن مستقل وليس صورة مكررة لغيره "[10] .
هكذا نستخلص أن فكرة الحرية دخلت غلى المغرب متأخرة وجوبهت برفض الفقهاء ، لكن مع الاحتلال أصبحت سلاحا- من بيئة المستعمر- استعمل ضده .
________________________________________
[1] محمد سبيلا ، في تحولات المجتمع المغربي ،ص 19 20 .
[2] أحمد بن خالد الناصري ، الاستقصاء في أخبار المغرب الأقصى ، دار الكتاب الدار البيضاء 1956 ، ج 9 ص 114 115 .
[3] مححد بن جعفر الكتاني ، نصيحة أهل الاسلام ، الرباط ، ص 191 .
[4] عبد السلام حيمر ، المغرب الاسلام الحداثة ، منشورات الزمن سلسلة شرفات 2005 ، ص 208 212 .
[5] محمد سبيلا ، م س ، ص 24
[6] عبد السلام حيمر ، إشكالية التحديث في الفكر الاجتماعي المغربي 1844 1912 ، بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا في علم الاجتماع ، جامعة محمد الخامس كلية الاداب والعلوم الانسانية 1990 1991 ، ص 468
[7] عبد السلام حيمر ، م ن ، ص 471
[8] محمد سبيلا ، م س ، ص 25
[9] علال الفاسي ، النقد الذاتي، لجنة إحياء تراث زعيم التحرير علال الفاسي، مطبعة الرسالة، الطبعة الخامسة،الرباط 1979 ، ص 82
[10] علال الفاسي ، نفسه ، ص 104 105