تأتي مسألة (علاقة الفكر باللغة) بتشعّباتها ضمن منطقة مشتركة بين اللسانيات وعلم النفس الإدراكي، ولا تخلو أيضا من ارتباطات بجوانب فلسفية. ما علاقة اللغة بالفكر؟ في أي اتجاه يمضي التأثير والتأثر؟ وما حدود ذلك التأثير؟ في هذا السياق اشتهرت (فرضية سابير- وورف) (Sapir-Whorf hypothesis)، وهي تُقرّر أن الإنسان يبقى أسيرا تحت رحمة لغته وأنه لا يستطيع رؤية العالم إلا من خلالها، وتسمّى لأجل ذلك: الحتمية اللغوية (Linguistic Determinism).
غير أن مُستجدات البحث اللساني قد تجاوزت هذه الفرضية،فلم تعد تحظى بالصدى الذي كان يحيط بها سالفا. قال جفري سامسون: «فكرة حظيت بشغف موسميّ في أوساط اللسانيين من شتى المدارس، كما حظيت فعلا باهتمام الكثيرين ممن لم يكونوا طلابا يدرسون اللغة بمعنى الكلمة»(1)، وقال ستيفن بنكر: «لا تبدو فكرة كون اللغات تقولب التفكير مُقنعة إلا حين كان العلماء يجهلون كيف يعمل التفكير أو كيف يمكن دراسة الفكر نفسه. أما الآن وقد استطاع علماء الإدراك معرفة كيفية التفكير عن الفكر، فإن احتمال كونهما شيئا واحدا قد تضاءل بشكل كبير»(2)، وقال ديفيد جستِس: «لكن التاريخ أثبت أن الفشل كان مصير محاولات المشغوفين التي تسعى إلى اكتشاف بعض الروابط بين اللغة والأعراق، وكان قصدهم الأول أن يستنتجوا البساطة العقلية من البنية البسيطة، لكن التعقيدات الصرفية التركيبية الشديدة للغات الأمريكية الأصلية أدت إلى إخفاق هذه الفكرة إخفاقا مُخجلا»(3)، وقال الدكتور حمزة المزيني –من اللسانيين العرب-: «لم يعدْ أحدٌ يحملها على محمل الجد، ومن الأفضل أن لا نناقش الأفكار المتطرّفة التي مضى زمنها»(4).
وفي كتابه (المرأة واللغة) ناقش الدكتور عبدالله الغذامي ظواهر لغوية رآها دالة على تحيّز العربية ضدّ المرأة، ومعنى ذلك أنه يثبت الظاهرة الاجتماعية متوسّلا بظواهر لغوية، وسأتجاوز عن الجانب الابستمولوجي للقضية؛ إذ الأمر طويل ومتفرّع وليس يصح فيه إطلاق الإثبات أو النفي، وسأكتفي في هذا البحث بالتناول المباشر للظواهر اللغوية التي انطلق منها الدكتور الغذامي ليثبت مدلولات ثقافية دالّة على تحيّز العربية –بوصفها لغة- ضدّ المرأة.
ومن المهم هنا أن نؤكّد أنه ليس مرادا لهذا البحث نفيُ وجود مظاهر لغمط قيمة الأنوثة في الثقافة العربية، فالتحيز ضد الأنثى سلوك شائع في الحضارات القديمة وعند كثير من الشعوب، وليست مظاهره التي نشاهدها اليوم إلا بقايا من ذلك التحيز، ولكني هنا أنفي أن تكون الشواهد اللغوية التي اعتمد عليها الدكتور الغذامي دليلا على التمييز ضد المرأة، وفيما يلي بيان ذلك:
أولا: جمع المذكر السالم قلعة حصينة
نقل الدكتور الغذامي عبارة أحد النحاة المعاصرين –وهو عباس حسن- إذ قال: «ليس المراد بالعاقل أن يكون عاقلا بالفعل، وإنما المراد أنه من جنس العاقل كالآدميين والملائكة، فيشمل المجنون الذي فقدَ عقله، والطفل الصغير الذي لم يظهر أثر عقله بعد. وقد يجمع غير العاقل تنزيلا له منزلة العاقل إذا صدر منه أمر لا يكون إلا من العقلاء فيكون جمع مذكر».
وعلّق الدكتور الغذامي على ذلك بأنه سُمح للجميع بالاقتراب من جمع المذكر إلا المؤنث، فقال: «هنا يحق للمجنون والطفل وكذا الحيوان الذكي أن يدخل قلعة (المذكر السالم). أما الأنثى فلا يجوز لها الاقتراب من هذا الحق الذكوري الخالص (السالم)»(5).
إن تصوير (جمع المذكر السالم) بأنه قلعة حصينة حكمٌ لم ينبنِ على الملاحظة العلمية الدقيقة لتفاصيل كثيرة مرتبطة بهذه الصيغة الصرفية؛ فكل ما في الأمر أنها شروط لغوية قائمة على أهم خاصية بنيوية للغة- الاعتباطية، وقد صار هذا من المسلمّات البديهية في البحث اللساني الحديث.
حُجّةهذا الحكم السالف هذا أن من المذكّر نفسه ما لا يجوز جمعه بصيغة جمع المذكر السالم، وأهم ما نذكره هنا كلمة (رجل)، وهي أخص كلمة بالمفرد المذكر العاقل؛ إذ لا يجوز أن تُجمع على (رجلون)، وسيكون حكما هزليا لو قلنا: إن الرجل مُنع من الاقتراب من قلعة المذكر السالم؟!
والعرب تقول (رسول) وتجمعه على (رُسُل)، وتقول (نبيّ) وتجمعه على (أنبياء)، وكذلك (قائد) و(قادة)، ونحوه (عظيم) و(عظماء)، فاختارت لكل ما سلف -مما هو مفرد مذكر- جمعَ التكسير لا جمع المذكر السالم؛ فهل لنا أن نستنتج الآن أن العرب تُقصي الرسل والأنبياء والقادة والعظماء عن قلعة المذكر السالم الحصينة؟! لو قلنا ذلك فأظن أننا سنقع في نتائج مُغرقة في الغرابة وبعيدة كل البعد عن البحث العلمي.
فالخلاصةأن جمع المذكر السالم قضية نحوية لها شروطها وأحكامها اللغوية التي لا ينبغي أن نربطها بما لا تحتمله من الدلالات الثقافية.
ثانيا: الأصلية والفرعية في النحو العربي
انتقد الدكتور الغذامي في كتابه (المرأة واللغة) تحت عنوان (الأصل التذكير)(6) عبارات للنحاة لكونها تحمل مضامين التحيّز الذكوري، ومن مثل مقولة ابن جني «تذكير المؤنث واسع جدا لأنه ردٌّ إلى الأصل».
ولنتنبه هنا إلى قضيتين:
القضية الأولى: لا يمكن الذهاب إلى أن تلك المقولة النحوية تحيزٌا ضد الأنثى، لأنها مقولات يُراد منها بيان اعتبارات نحوية وتقريب بعض الأحكام اللغوية؛ فالأصلية والفرعية هنا بُنيتا على أساس لغويّ بحت، ولا صلة لها بالقيمة الاجتماعية وإن أوهم كلام بعض النحاة خلاف ذلك؛ فتحديد الأصل والفرع مرجعيتُه لغوية بحتة، وأحد المعايير في هذا السياق أن الأصل لا يحتاج إلى علامة والفرع يحتاج إلى علامة، فالمذكر لا يحتاج إلى علامة والمؤنث يحتاج إلى علامة.
ومما يدل على أن النحاة بنوا كلامهم في قضية الأصلية والفرعية على أسس لا صلة لها بالقيم الاجتماعية أنهم ذهبوا أيضا إلى أن المفرد أصل للمثنى والجمع، لأن الأخيرين يحتاجان إلى علامة، والمفرد لا يحتاج إليها، ومن أمثله ذلك أيضا قول النحاة «النكرة أصل والمعرفة فرع»، و«الأصل في المبتدأ أن يكون معرفة»، وقولهم «المصروف أصل والممنوع من الصرف فرع»، وقولهم «الأصل في الحال أن يكون نكرة» و«الأصل في صاحب الحال أن يكون معرفة»، وقولهم «الأصل في الأسماء الإعراب»، و«الأصل في الأفعال البناء».
فهل يمكن أن يقال إن كل العبارات السابقة بُنيت على تحيّز اجتماعي؟ فهل النحاة متحيّزون للمعرفة ضد النكرة؟ وهل هم متحيّزون للمفرد ضد المثنى والجمع؟ وهل هم متحيّزون للمصروف ضد الممنوع من الصرف؟
القضية الثانية: أنه لا يبدو في كلام الدكتور الغذامي تمييز واضح بينَ اللغة واللغوي، فإنه إن أراد الاستدلال بتلك المصطلحات والعبارات على إظهار التحيز اللاواعي لدى النحاة فهذه قضية، وإن أراد بتلك المصطلحات والعبارات إظهار التحيز لدى اللغة العربية نفسها؛ فهذه قضية أخرى، والاحتمال الأخير هو ما يظهر لنا؛ إذ السياق الأكبر للكتاب -وهو عنوانه- (المرأة واللغة).
فيُؤخذ في هذا السياق أنه حمّل ما ينتقده من عبارات للنحاة على عاتق اللغة نفسها؛ فغاب عن كلامه التفريق بين اللغة واللغوي؛ بين اللغة أداةً للتواصل وبين اللغوي مُفسّرا للغة بأفكاره القابلة للأخذ والرد.
ثالثا: زوج وزوجة
قال الدكتور الغذامي: «وإذا كانت المرأة العربية تدخل مملكة الفصاحة إذا تخلت عن تاء التأنيث، كما في كلمة زوج...»(7)، واستنتج الدكتور الغذامي في موضع لاحق –بناء على قضية زوج وزوجة- أن تاء التأنيث مناقضة للفصاحة(8).
القضية المشار إليها هنا هي إطلاق كلمة (زوج) أو (زوجة) على المرأة ذات الزوج، وفي البدء نذكر أن مصطلح «الفصاحة» الذي بنى عليه الدكتور الغذامي حكمه من المصطلحات التي يأباها البحث اللساني الحديث، لأنه حكم ذوقي قائم علىالانطباع ولا يستند إلى معيار علمي.
أما الفكرة نفسها فنناقشها من وجهين:
الوجه الأول: أن القضية المشار إليها يرتبط بها بعد تاريخي وعامل زماني يجب الانتباه إليهما، لا سيما أن الحكم بالفصاحة الذي يستند إليه الدكتور الغذامي إنما صدر عن أحد اللغويين القدامى.
في البدء نقول: إن العربية القديمة استعملت كلا اللفظين (زوج) و(زوجة) للدلالة على المرأة المتزوجة، وفي لسان العرب نسبة لفظ (زوج) إلى الحجازيين، ونسبة لفظ (زوجة) إلى التميميين(9)، وجاء القرآن الكريم باستعمال لفظ (زوج) على المرأة، قال تعالى: (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة: 35]، وقال تعالى: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) [البقرة: 102]، وقال تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ) [النساء: 20].
والسائد الأعم في أمهات الحديث الستة استعمال كلمة (زوج) على المرأة، والأمثلة الواردة على خلاف السائد قليلة جدا (10)، من ذلك ما ورد في البخاري (باب كثرة النساء) قول ابن عباس حينما حضر في جنازة ميمونة –رضي الله عنها-: «هذه زوجة النبي صلى الله عليه وسلم فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوها ولا تزلزلوها وارفقوا»، وفي البخاري (باب سورة النور) قول ابن عباس لعائشة –رضي الله عنها- حين زارها في مرض موتها «فأنت بخير إن شاء الله زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكح بكرا غيرك ونزل عذرك من السماء».
واعتمادا على الاستعمال القرآني أطلق بعض اللغويين العرب حكم الفصاحة على (زوج)؛ فأسلوب القرآن أحد أسس اللغويين القدماء في إطلاق هذا الحكم المعياري «الفصاحة». أما اللسانيات الحديثة فأحكامها أدق من أحكام القِيمة، والحكم الذي ينبغي أن لا يُتجاوز هو أن يقال إن اللفظين مسموعان عن العرب وإطلاق (زوج) على ذات الزوج أكثر شيوعا من (زوجة)، ولم يرد في القرآن غيره، فهو «الاستعمال القرآني».
شاع من بعد في التصنيفات الفقهية تخصيصُ (زوج) بالذكر و(زوجة) بالأنثى(11)، لأن هذا التخصيص لا يوقع أي لبس بخلاف كلمة (زوج) المشتركة بين للذكر والأنثى، ولو جئنا للمقارنة مثلا بين (زوج) و(زوجة) عند إطلاقها على المؤنث في سياق علم الفرائض لوجدناها كلمة (زوجة) أنسب لهذا المقام العلمي، ولو اضطررنا إلى استعمال ذلك الحكم المعياري «الفصاحة»، لكان الأفصح في سياق الفرائض والمواريث استعمال (زوجة) بتاء التأنيث، لأن (زوج) لفظة مُلبسة بين الذكر والأنثى.
واستمر تخصيصُ (زوج) بالذكر و(زوجة) بالأنثى في العربية المعاصرة؛ إذ يسود هذا الاستعمال في أكثر من مستوى لغوي (الصحافة المرئية والمكتوبة، المناهج الدراسية، القوانين الرسمية، العامية)، ولن يعدل –فيما أتوقع- عن هذا الاستعمال السائد إلا قلة من المحافظين المتأثرين بالثقافة التراثية.
وبعد ما مضى نقول: إن استخراج حكم ثقافي من مدلول اللغة مثل استعمال (زوج) و(زوجة) يجب أن يرتبط بالعصر الذي يسود فيه ذلك الاستعمال، ولا ينبغي أن ننظر إلى اللغة العربية على أنها كتلة واحدة أو ظاهرة ثابتة منذ عصور الإسلام الأولى إلى يومنا هذا؛ ولا يشترط أن يكون الحكم اللغوي في ذلك العصر صالحا إلى يومنا هذا وبعد 1400 سنة، إننا بذلك نهمل أحد أهم مظاهر اللغات الحيّة؛ أعني سمة التطور والتغير.
الوجه الثاني: يحار الباحث أمام هذه الأنماط من التحكّم؛ فحينما تُخصّص العربية صيغةً للمذكر وأخرى للمؤنث كضمير المخاطب؛ فللمذكّر (أنتَ) وللمؤنّث (أنتِ) تُوصمُ العربية بأنها تصرّ على التمييز والتفريق بين الذكر والأنثى، في حين تساوي بينهما لغات أخرى كالإنجليزية؛ فتضع صيغة واحدة مُشتركة لضمير المخاطب مذكرا ومؤنثا (you)، وحينما يكون الأمر في العربية أن الأفصح-لا الواجب- استعمالُصيغةٍ مشتركة للمذكر والمؤنث على السواء مثل كلمة (زوج)، يأتي هؤلاء ليقولوا إن العربية تشترط للصيغة الفصيحة أن تتنازل المرأة عن أنوثتها وصيغتها الخاصة بها!
ونظير ذلك أيضا قول الدكتور الغذامي «وإذا ما دخلت المرأة مجال العمل الوظيفي فإنها تدخل في سياق التذكير؛ فهي (عضو)، وهي (مدير)، وهي (رئيس الجلسة)، وهي (أستاذ مساعد)، وهي (محاضر)...»(12)، على الرغم من أن الدكتور الغذامي إنما ينقل عن المجمع القاهري (إجازة) وصف المؤنث بالمذكّر في هذه السياقات، وليس (وجوب) استعمال صيغة المذكر.
وثمة أبحاث في الغرب تتناول مثل هذه القضايا لتقترح تجنّب كل لفظة مختصة بالرجل لأنها تحمل تمييزا خفيّا؛ فمن ذلك اقتراح استبدال (police officer) ضابط شرطة بـ(policeman) رجل شرطة، واقتراح استبدال (person to person) شخصا لشخص بـ(man to man) رجلا لرجل، واقتراح استبدال (businessman) رجل أعمال بـبدائل عدة منها (business manager) مدير أعمال، واقتراح استبدال (fireman) رجل إطفاء بـبدائل عدة منها (firefighter) مكافح الحرائق، واقتراح استبدال (mankind) بـبدائل عدة منها (humankind)، واقتراح استبدال (chairman) بـبدائل عدة منها (chairperson)(13).
فهذه الآراء مضمونها اقتراح إلغاء مسميات الوظائف المميزة بين الذكر والأنثى، وعندما يُصدر المجمع اللغوي قرارا (بجواز) لا (بوجوب) استعمال صيغة مشتركة بين المذكر والمؤنث، نجد مَن يقرأ هذا القرار بأنه محو لشخصية المرأة، وهكذا نجد أنفسنا أمام آراء تفتقد صفة الضبط العملي وثبات المعيار.
رابعا: ضمير اللغة
تحت هذا العنوان ذكر الدكتور الغذامي الكاتبة نوال السعداوي، وذكر أنه يلاحظ في كتابها (الأنثى هي الأصل) «أن الضمير اللغوي عندها دائما ضمير المذكر مما يجعلها تحيل إلى ذكورية الأصل اللغوي دون أن تشعر»(14)، وذكر مثل ذلك أيضا عن الكاتبة مي زيادة فقال إنها تقف في محفل نسوي وتتحدث بوصفها امرأة وتخاطب النساء فيحلّ الضمير المذكر بينهن على الرغم من غيابه الحسي(15).
ويضيف الغذامي: «يحدث هذا عند كل الكاتبات، ولقد استعرضت أعمال غادة السمّان وسميرة المانع وآمال مختار ورضوى عاشور ورجاء عالم إضافة إلى مي زيادة وسحر خليفة، خصيصا لرصد إحالات الضمائر عندهن،فاتضحت سيطرة المذكر في كل حالة تجريد»(16).
وسنناقش هذه الفكرة من عدة وجوه:
الوجه الأول: ثمة إشكال جوهري في إصدار الدكتور الغذامي لحكم عام على أنه سمة أسلوبية لأولئكن الكاتبات جميعا، يتلخّص الإشكال في كونه لا يذكر في واقع البحث إلا ثلاثة أمثلة لثلاث كاتبات (السعداوي، زيادة، السمان)، وإصدار مثل هذا الحكم على كاتبة ما يستلزم الاستقصاء التام لأساليبها، أما الأمثلة المفردة فلا تقطع قولَ كلّ خطيب، ولا يؤمن من خضوعها للانتقائية.
ولو أضفنا إلى ما مضى تساؤلا آخر: أيُعقل أن الكاتبات المذكورات لا يستعملن أبدا عبارات بالضمير المؤنث؛ مثل «إذا كنتِ واثقة من نفسك أرغمتِ الآخر على احترامكِ»، «المرأة القوية تصنع جيلا لا يعرف الضعف»؟ لا أتصور أن تخلوكتاباتهن من أمثال العبارات السابقة؛ فإذا كان ذلك واردا، فما نسبة هذا إلى ما يذكره الدكتور الغذامي؟ولاجوابَ علميا على ذلك إلا بالاستقراءالمستوفي لشروطه. أما الأمثلة المنتقاة فلا يُستطاع الحكم بها على شيء.
الوجه الثاني: يرى الدكتور الغذامي أن القضية أو الحكم إذا كانا في حالة التجريد فإن الضمير (هو) ما يهيمن في كتاباتهن، ولنسلم أن الضمير (هو) يظهر في ذلك السياق، ولكن الإشكال الأكبر: لماذا نوجب أن يحيل (هو) على المفرد المذكر: أي الرجل، ولا نجيز أن يحيل مثل هذا الضمير (هو) في حالة التجريد على (الإنسان) الشامل لمفهوم الذكر والأنثى.
وسيتبين تماما هذا الوجه بنقل العبارات نفسها التي استشهد بها الدكتور الغذامي للتدليل على ما ذهب إليه.
عبارة نوال السعداوي: «إن القلق لا يحدث للإنسان إلا إذا أصبح واعيا بوجوده، وأن هذا الوجود يمكن أن يتحطّم، وأنه قد يفقد نفسه ويصبح لا شيء، وكلما كان الإنسان واعيا بوجوده زاد قلقه على هذا الوجود وزادت مقاومته للقوى التي تحاول تحطيمه»(17).
عبارة مي زيادة: «أيتها السيدات...(18) أنا المتكلمة، ولكنكن تعلمن أن ما يفوه به الفرد فنحسبه نتاج قريحته وابن سوانحه، إنما هو في الحقيقة خلاصة شعور الجماعة، تتجمهر في نفسه ويرغم على الإفصاح عنها»(19).
يتجلّى الأمر بعد نقل النصين أن المسألة ليست بصيغة الضمير المذكّر أصلا، بل إن السعداوي صرّحت بكلمة (الإنسان) مرتين، وإن زيادة صرّحت بكلمة (الفرد) مرة، وليس هناك ما يمنع أي كاتبة من إطلاق الحكم الإنساني العام الشامل للذكر والأنثى.
عبارة غادة السمان: «ما أروع وما أسوأ أن تكون امرأة»(20).
انتقد الدكتور الغذامي العبارة السابقة، ورأى أنها تقول كلمة الأنوثة بضمير الذكورة، وأن العبارة كُتبت تحت سطوة ذكورية خفية، وذهب أيضا إلى أن الأصل أن تقول «أن تكوني» غير أن التذكير جاء في غير محلّه وفي غير مقتضاه.
وسنناقش ذلك بما يأتي:
أولا: ثمة قصور في التحليل اللغوي الذي ذهب إليه الدكتور الغذامي؛ إذ جعل صيغة (تكون / تفعل) للمخاطب، فأوجبَ أن يُقدّر المحذوف مذكّرا، والصواب أن صيغة المضارع (تفعل) تحتمل المذكر المخاطب (تفعل أنتَ) وتحتمل المؤنث الغائبة (تفعل هي)، وعلى الثاني يجوز أن يكون التقدير في العبارة «ما أروع وماأسوأ أن تكون [الأنثى] امرأة».
ثانيا: لو جعلنا أصلا صيغة (تفعل) للمخاطب فإنه لا يجب أن يكون المضمر في العبارة السابقة (أيها الرجل)، بل يمكن أن يكون (أيها الإنسان) –كما تقدّم-، والإنسان صيغة شاملة للمذكر وللمؤنث.
فيحتمل أن الكاتبة أرادت فعلا عموم الخطاب للجنسين، وقد تقدّم بيان هذا الوجه فيما سبق، وهذا يجعل للعبارة معنى بلاغيا لا يوجد في غيره؛ فعبارة «ما أروع وما أسوأ أن تكون [أيها الإنسان] امرأة» فيها ما ليس في عبارة «ما أروع وما أسوأ أن تكوني [أيتها الأنثى] امرأة»، فالخطاب الموجّه للإنسان ذكرا وأنثى يجعل المشكلةَ مشكلة إنسانية مُشتركة تعني الاثنين. أما حينما يكون الخطاب موجّها للأنثى، فإن العبارة تحصر المشكلة بكونها مشكلة أنثوية لا غير(21).
ومن الجيد أن نختم الحديث هنا بملاحظة قيّمة ذكرها الدكتور عيسى برهومة في كتابه (اللغة والجنس) «ويسلمنا هذا الملمح إلى أن اللغة في (هيوليتها) محايدة، إذ تمثل ظاهرة مجردة من المحمولات التي قد تلحق بها المؤثرات الخارجية، إذن ليس بالمكنة أن نسمَ العربي بالتحيز، ثم نهرع إلى تعديل نظامه اللغوي، فتلك مغالطة منطقية كالذي يضع العربة أمام الحصان، لأن تعينات التحيز تثوي في تضاعيف الثقافة والمجتمع، لا في جبلة اللغة، وبالتالي يتعين تعديل الثقافة وقيم المجتمع لينعكس ذلك على التحققات اللغوية»(22).
الهوامش:
1- مدارس اللسانيات: التسابق والتطور، جيفري سامسون، ترجمة: الدكتور محمد زيادة كبة، جامعة الملك سعود، الرياض، 1997م، ص 79.
2- الغريزة اللغوية، ستيفن بنكر، ترجمة: الدكتور حمزة المزيني، دار المريخ، الرياض، ط1، 2000م، ص 75.
3- دلالة الشكل في العربية في ضوء اللغات الأوروبية، ديفيد جستِس، ترجمة: الدكتور حمزة المزيني، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، ط1، 1425هـ، ص 383-384.
4- التحيّز اللغوي وقضايا أخرى، الدكتور: حمزة بن قبلان المزيني، نسخة إلكترونية منشورة على الانترنت في موقع المؤلف www.almozainy.com بتاريخ 2010م، ص 52.
5- المرأة واللغة، الدكتور عبد الله الغذامي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط3، 2006م، ص 25.
6- المرأة واللغة، ص 15.
7- المرأة واللغة، ص 22.
8- المرأة واللغة، ص 26.
9- ينظر لسان العرب: مادة (ز و ج).
10- توصلت إلى ذلك عبر البحث في المكتبة الإلكترونية (الشاملة).
11- توصلت إلى ذلك عبر البحث في المكتبة الإلكترونية (الشاملة).
12- المرأة واللغة، ص 21.
13- للمزيد من الأمثلة يمكن الاطلاع على بحث Sexism in LanguageلكاتبهXiaolan Lei.
14- المرأة واللغة، ص 18.
15- المرأة واللغة، ص 19.
16- المرأة واللغة، ص 19-20.
17- المرأة واللغة، ص 18-19.
18- الاختصار من الأصل المنقول عنه.
19- المرأة واللغة، ص 19.
20- المرأة واللغة، ص 20.
21- ومن محفوظاتي من كلام الكاتب اليوناني نيكوسكازنتزاكي «ما أقسى أن يولد الإنسان امرأة».
22- اللغة والجنس، ص 111.