تعتبر زيارة الصديقين وأولياء اليهود ظاهرة اجتماعية تميزت بها الطائفة اليهودية المغربية التي خصت هؤلاء بهالة من التبجيل والتقديس [1]، ويرجع تاريخ هذه الظاهرة منذ الفتح "الأموي" لشمال إفريقيا، ونشر الإسلام في ربوعها حيث وجد أن البربر كانوا يؤمنون بمعتقدات وثنية وهي تقديس والتبرك بقبور الموتى، وأخذ عنهم اليهود في هذا الجانب وصار كل صديق يسمى ولي "البلاد"[2] ، كما تشير بعض المؤلفات اليهودية التي ترجع إلى القرون الوسطى إلى أن الجلوس على قبور الصديقين مخصص لقراءة التوراة مرة في السنة فقط، وانتشرت الظاهرة لتهم كافة اليهود ويزورون طوال العام، كما أن ممارسات الزيارة بدأت من القرن الحادي عشر لكنها انتشرت بين العامة في حدود القرن السادس عشر، ولا زالت نشيطة حتى بعد الحماية الفرنسية للمغرب سنة 1912 م [3] .
وترجع لفظة "صديق" أولا إلى اللفظة العبرية "تساديق" ، ويجب أن يكون هذا الأخير إما ربيا أو أستاذا أو أنه يملك مكانة روحية عالية في المجتمع والدين، ولا يمارس تأثيره عبر التوراة بل عن طريق تأمله الصوفي، كما يجب أن يتمتع بخصال روحية وأن تكون له سمعة طيبة تؤهله ليقوم بدور الوساطة بين الخالق والمخلوق، وأهم نقطة يجب أن تظهر له معجزات أو قدرات خارقة سواء في حياته أو حتى بعد موته.[4]
ولقد حظي الصديقون ذوو الأصل الفلسطيني بنصيب الأسد من هذا التبجيل ، وكان لهم وضع خاص ومكانة متميزة نظرا لارتباط اليهود نفسيا بالأراضي المقدسة، ومن بين 12 وليا الذين نالوا قدرا كبيرا من الشهرة في المغرب، يوجد منهم ستة هم من أتوا من فلسطين ومن أشهرهم "إلياهو النبي" و "ربي شمعون بر يوحاي[5]" و"ربي مئير بعل هنيس"[6].
والملاحظ أن من بين هؤلاء الصديقين توجد تراتبية طبقية يمثلون كل مجموعة على حدة[7] ، ويأتي من بعد الأولياء ذو الأصل الفلسطيني في المرتبة الأولى كما ذكر سابقا، ويليه الصديقون الذين لعبوا دور مبعوثين إلى فلسطين لجمع التبرعات والصدقات في المغرب لصالح الأراضي المقدسة وباغتتهم الموت وأقيمت لهم قبور هناك، أما الطبقة الثالثة فهي تضم شخصيات جعلت منهم أحداث العنف والاغتيالات أبطالا في نظر اليهود، تبوءوا بذلك مكانة الصديق لأنه فقد حياته وهو يحمي أبناء جلدته، أما الطبقة الرابعة فهي تتميز بتنوع شخصياتها فهي تضم الحاخامات والقضاة وحتى النساء الذين لعبن دورا كبيرا في فترة من الفترات، والطبقة الخامسة فهي تتكون من أفراد نالوا هذه المرتبة لأنهم ينتمون إلى عائلات كبيرة وثرية كعائلة "ربي حاييم بنتو" بالصويرة، والذي عاش في القرن التاسع عشر ويقع قبره في المقبرة القديمة للصويرة حيث ظل أحفاد هذا الأخير يستفيدون من هذه القداسة إضافة إلى استفادتهم من الأموال التي تجنى من وراء الزيارات العديدة، وعائلة "الربي دافيد كوهين" في إقليم سوس المدفون في إحدى قرى بتارودانت، وعائلة "الربي يعقوب أبو حصيرة"[8] في تافيلالت، أما الطبقة الأخيرة تضم الصديقين الذين ظهروا في أحلام تلامذتهم ومريديهم أو لأشخاص عاديين، يطلبون منهم أن يبنوا لهم قبورا أو يرشدونهم إلى مكان وجود رفاتهم[9].
بلغ عدد الصديقين اليهود في المغرب إلى 652 صديقا من بينهم 25 امرأة [10]، ولا يثير العجب أن يدرجوا ضمن لائحة أوليائهم الأولياء المسلمين أيضا، ولن نبالغ إذا قلنا بأنهم حظوا بالتقديس أو أكثر بل كانوا محط نزاع بينهم وبين المسلمين .
يجب الإشارة إلى معجزات الصديقين أو ما يسمى بـ"الكرامة" في الحقل الصوفي المغربي والتي ترددت في الأوساط الشعبية اليهودية هي من ساهمت في شهرة هؤلاء الصديقين، ومن أهم هؤلاء نقدم بعض الأسماء التي ظهرت معهم معجزات: كـ"الربي رفائيل كوهين" و "الربي مخلوف بن يوسف أبو حصيرا" و "الربي دافيد موشيه" الملقب بسيدي مسعود و "الربي رفائيل انقاوه" و "الربي إيلي بن إسحاق" المشهور باسم علي بن إسحاق أو سيدي أبو الأنوار و "الربي يعقوب هليفي بن شبات" و "الربي يعقوب ناحمياس"، وكانت قدراتهم هي من جعلت اليهود يؤمنون بخوارقهم، كإرجاع البصر للمكفوفين، وقدرة العاقر على الإنجاب، والعاجز على المشي، وشفاء المرضى وغيرها كما كان لهم دور في الحفاظ على نظام المدينة وحمايتها[11].
تتمثل طقوس الزيارة في تجمع اليهود على قبر الصديق في يوم تخليد ذكراه أو ما يسمى بـ"الهيلولا"، أيام الخميس والإثنين بالإضافة إلى أيام الأعياد كـ"روش هاشانا" (رأس السنة) وكبور (الغفران) ، وتستمر الزيارة العادية سبعة أيام تقام فيها صلوات وأدعية، وتشعل الشموع وتوضع أكواب الزيت على قبره أو زجاجات الماء لكي تحل بركته عليها، كما يقوم الزائرون بالاغتسال في بعض "العيون" الموجودة في الجبال كما هو الحال في مدينة صفرو، كما يتم قص شعر الطفل للمرة الأولى هناك تيمنا بطول العمر وازدهار مستقبله، وتقوم النساء العاقرات بالمبيت بجوار الأولياء لمدة ثلاثة إلى سبعة أيام متتالية يصلن ويتوسلن لقضاء حوائجهن في غرف مخصصة لمثل هذه الطقوس[12].
ويتم الإحتفال في جو من الفرح والإخاء في أكل اللحوم المشوية الشهية التي كانت ذبائح للصديق، وتستمر أوقات شرب الخمر والماحيا والرقص والغناء وجميع أنواع الإحتفالات ليلة كاملة، كما يوزع الزائرون الصدقات للفقراء من أبناء جلدتهم، والغريب أن هؤلاء الفقراء يشاركون أيضا في هذه الزيارة حيث يعطون فديات مالية للصديق يباركونه ويطلبون من تحسين أحوالهم وصحتهم[13]
وبذلك تدفقت الأموال والتبرعات والهبات وحتى المعاملات التجارية التي كانت تتم في أثناء الطقوس، وهذا من جملة ما جعل هؤلاء الصديقين أن يكونوا ثروة ضخمة من وراء هذه الزيارات، وبذلك تم إنشاء لجان متخصصة في تنظيم هذه الموارد المالية، وتنظيم الزيارات وإعداد الموقع للإستقبال الوافدين[14].
وسنقدم على سبيل المثال لا للحصر نموذج لصديقين من وجدة في القرن التاسع عشر، وهم "الربي حاييم أمويال وخلوف دهان وعمران روس"، الذين ذيع صيتهم في المنطقة الشرقية من المملكة الشريفة، وكانوا محاطين بهالة من الاحترام والتبجيل بفضل ما ربطه السكان من أساطير ومعجزات بمخيلهم الاجتماعي وهم كالتالي:
*الربي حاييم أمويال: المعروف بالولي الوجدي ليتميز عن هؤلاء الثلاثة اللاحق ذكرهم، يتم الإحتفال بذكرى وفاته في 15 من فبراير في كل سنة، بني قبره بالزليج وعليه رخامة منقوش عليها إسمه بحروف عبرية واضحة، ولا تعرف عليه المصادر أي شيء إلا أنه كان معروفا باسم "حاخام السدرة" ، وذكر أيضا أن الحبر يحي أزولاي رأى حلما سنة 1880 م وهي نفس سنة وفاة هذا الولي، ومفاد الرؤية أن قبر الولي لا يوجد في مكانه بل في مكان قريب منه، وفي اليوم التالي روى على باقي أهل الطائفة حلمه، وذهبوا إلى الموقع الذي وصفه لهم ووجدوا شاهد قبر على عمق قليل يحمل اسم حاييم أمويال ، ومنذ ذلك الحين طارت شهرته وحسن قبره وهيأوا مكان الزيارة وانشئوا فيها بئرا ونقشت على البلاطة[15] :
«هذا هو قبرنا سيادته الحبر الأعظم نور إسرائيل المشع ولينا الأقدس محبتنا الموجودة على رؤوسنا المن العزيز النبتة الخضراء المزهرة باقة الورود الولي الربي حاييم أمويال فلتغمرنا بركته وأبناء جلدتنا لقد أتممنا عمل آبائنا ببنائنا قبرا بارزا أن الصخرة التي وضعت في البداية على قبره كانت صغيرة جدا ولا تليق بعظمته ودعونا للاجتماع يوم جمعة من سنة 636[16] فاجتمع عليه القوم ووضعوا له بلاطة أخرى تليق بمقامه جزأهم الله خيرا رحمة الله عليه ».
ومن بين الأساطير المتعلقة بهذا الولي، أن في سنة 1900 م رأى مسلمان في هذه المنطقة نورا يشع من قبره فطمعا ظنا منهم أنه كنز مخبئ ، فحفروا القبر ولم يجدا شيء غير التراب، وعاقبتهم لعنة الصديق بأن فقد الأول عقله وفقد الآخر حياته[17].
*مخلوف دهان: تعود جذور هذا الولي إلى مدينة صفرو أو ما كان يسمى "بني يزناسن" عاش في القرن التاسع عشر، وتعود حكايته أنه إختلف مع أحد المسلمين في عيدهم فشتم اليهودي المسلم، فشكاه هذا الأخير إلى قائد وجدة فقبض عليه وأحرقه حيا، إلا أن التمائم التي كانت تغطي جسمه أنقذته من ألسنة اللهب، وعندما رأى المسلمين ذلك إغتاضوا وأمر أحد أوليائهم أن يحرق جميع يهود المدينة، لكنه طلب العفو من المسلمين وضحا بنفسه من أجل أهل طائفته، فألقى بالتمائم ومات محروقا، وقد وصفو أن في تلك الأثناء قصف برق مصحوب برعد فرجت الأرض، وفر الجميع ولم يبقى غير اليهود الذين جمعوا ما تبقى من رماد عظامه، ليخلدوا ذكرى بطل أنقذ اليهود من إبادة جماعية، ويقع قبره في الجزء الغربي من المقبرة اليهودية لمدينة وجدة، لكن مع الزمن اختفى قبره بعد أشغال طريق "مغنية" ونقلت رفاته إلى قبر آخر في نفس المقبرة[18].
*عمران رواس: توفي سنة 1820م في نفس المقبرة التي دفن فيها مخلوف دهان من المكان الحالي لطريق مغنية، وأصله من وجدة، ذكر عنه أن نورا ينبعث من قبره ليلا، وأكد معظم اليهود الذين زاروا قبره، أنهم لم يخيبوا يوما في صلواتهم[19].
و لم تتراجع هذه الاحتفالات مع مرور السنين و تغير الطبائع و العقليات و بالرغم من من الترحيل إلى إسرائيل في منتصف الأربعنيات من القرن الماضي، بل أدرجت أيام تخليد ذكرى الصديقيين كعطل رسمية ليسافر اليهودي من كل قطب و جذب للمغرب لحضور الهيلولا، و عموما تبقى هذه الاحتفالات متعلقة بالذاكرة الجماعية لليهود، و يرتبط وفائهم لهؤلاء الصديقين بدرجة ايمانهم و التزامهم الديني.
[1] -للمزيد عن الصديقين في المغرب الرجوع إلى كتاب:
- يششكر بن عامي، زيارة قبور الصديقين في أوساط اليهود والمسلمين في المغرب، دراسات عبرية في بلاد الإسلام، إعداد: مناحم زهري وآخرون، إصدار الوكالة اليهودية، القدس 1981، ص 176.(بالعبرية).
[2] -عطا علي محمد شحاته ريه، اليهود في المغرب الأقصى، مرجع سابق.ص: 96.
[3] -شحاته هيكل، المكونات الثقافية ليهود المغرب وتطورها في إسرائيل، مرجع سابق.ص :32.
[4] -شحاته هيكل ، مرجع سابق.ص: 40.
[5] - يحتفل بذكراه في 18 ماي أي قبل 33 يوم من عيد الفصح وينسب إليه تأليف أهم كتاب في التصوف اليهودي "القبالي" ويسمى كتاب "الإشراق".
[6] - ويسمى صاحب المعجزات ويحتفل بذكرى موته في 14 ماي.
[7] - نفس المرجع، ص :32-33.
[8] -وهو من مواليد سنة 1807 بتافيلالت توفي عام 1880 بمنطقة دمتيوه بالقرب من مدينة دمنهور بمحافظة البحيرة في مصر . وتوجد دراسة حول هذا الصديق لمعرفة المزيد الرجوع إلى:
-سوزان السعيد، المعتقدات الشعبية حول الأضرحة اليهودية دراسة هن مولد أبو الحصيرة بمحافظة البحيرة منشورات عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية،1997، ص: 166.
[9] -شحاته هيكل، مرجع سابق.ص: 33.
[10] -نفسه، ص :32.
[11] - نفسه، ص: 34.
[12] -الزعفراني، ن.م.ص: 118.
[13] -عطا شحاته ريه، مرجع سابق.ص: 97.
[14] - هيكل شحاته، مرجع سابق، ص :33.
[15] - النقيب فواني، وجدة والعمالة، مرجع سابق.ص: 194.
[16] - ان سنة 636 هي اختصار لسنة 5636 يهودية لان يهود وجدة يهملون أرقام الألف ويسمون هذه الطريقة بـ"الحساب الصغير" وتوافق نهاية سنة 1910 م.
[17] -نفسه، ص: 195.
[18] -نفسه.ص :195-196.
[19] -نفسه.