يعتبر كتاب ميلاد العالم الحديث1780-1914 "للمؤرخ البريطاني كريستوفر آلان بايلي، وهو أستاذ التاريخ الامبريالي والبحري بجامعة كامبريدج متخصص في الهند . من الكتب التاريخية القليلة التي تناولت التاريخ الفوري في مجال التوسع السريع للتاريخ العالمي. مما جعل المؤرخ البريطاني إريك هوبسباون المختص في نفس الفترة الزمنية التي تناولها الكتاب يقول عنه "ليس من المبالغة القول أنه منذ ظهوره بالنسخة الانجليزية سنة 2003 حول طبيعة الفترة التي تناولها والتي امتدت ما بين ثورات القرن18 واندلاع الحرب العالمية الأولى، مما جعل موضوع الكتاب نقطة انطلاق لجميع الدراسات الجادة حول تاريخ العالم الحديث " .
لقد حاول الكاتب من خلال هذا العمل تحليل الخاصيات المتسارعة للتغيرات السياسية والاقتصادية في العقدين اللذين سبقا قيام الحرب العالمية الأولى، من خلال مقارنة وجهات نظر مختلفة حاولت تحليل الجذور الحقيقية لهذه الحرب. حيث كان لينين و معاصروه الثوريون وكذلك المتخصصون في التاريخ العمالي، يرون التغيرات الاقتصادية بمثابة إعلان عن دخول المجتمع الرأسمالي في مرحلته النهائية، وأن الحرب تعود إلى انتشار الإضرابات وقوتها وتطور الحركة النقابية، وأن قيام الحرب هو علامة على زيادة قوة الطبقة العاملة.
أما المتخصصون في التاريخ الدبلوماسي فقد رأوا من وجهة نظر محافظة وليبرالية أن القران بين قوى النظام والمطامع التجارية في المستعمرات أدى إلى تشويه الدساتير الأوروبية وانقسام العالم إلى كتل كبرى كان المصعد الرئيسي الذي قاد إلى الأزمة وكشف عن نوايا الحرب.
وقد وصل الكاتب إلى استنتاج استوحاه من نظرية أرنو ماير، الذي انطلق من النقاط المشتركة بين النظريات والآراء السابقة للرد على نظرية لينين "الامبريالية درجة عليا من الرأسمالية" ، حيث تبنى رأيا يعتبر أن قيام الحرب العالمية الأولى كان مجرد صدفة نتيجة التعامل الخاطئ لرجال الدولة مع الأزمات المحلية. مؤكدا أن النظام القديم تواصل بأوروبا إلى حدود 1914نظرا لنجاح النخب القديمة في الحفاظ على وجودها وكذلك لرغبة العواصم الامبريالية في الحفاظ على وضعها الدولي دون تغيير، معززا رأيه بأطروحات وآراء مفكرين هنود وصينيين ويابانيين وعرب وكذلك أوروبيين يرون فيها أن القوميات الاستعمارية لما قبل الحرب العالمية الأولى لم تكن قد تطورت بشكل يسمح لها بإثارة الحرب ولا حتى التدخل فيها بأي شكل من الأشكال، كما يرون أن حركة التصنيع لم يكن لها أثر حقيقي في الحرب العالمية الأولى التي كانت في نظرهم قائمة على موارد في أغلبها ذات طابع فلاحي.
هذا المنعطف الذي وصل إليه الكاتب يقود المؤرخين إلى التوقف عن الحديث عن التغيرات الحادة ليتساءلوا على العكس من ذلك عن وجود ثبات نسبي إلى حدود 1870 رغم بروز بعض ملامح التغيير (بناء اقتصاد جديد-دساتير وتنظيمات متشابهة-مهن جديدة-انتشار التعمير-انتشار فكرة حقوق المواطنة والحق في الحكم الذاتي...) .
كما تناول الكاتب الدور الكبير الذي لعبته الأزمة الفلاحية الكبرى التي عرفها العالم مابين 1870-1880 في تحلل الأنظمة القديمة ودخول العالم مرحلة متسارعة من التغيير . فقد أدى تطور الإنتاج الفلاحي العالمي في منتصف القرن 18إلى انهيار كبير لأثمان الحبوب والمنتجات الفلاحية الأخرى، الأمر الذي انعكس على مستوى النظام الطبقي في العالم بأسره، حيث تراجعت مداخيل الأسر الكبرى التي كانت تمتلك العقارات مما اضطرها للتحالف مع الأغنياء الجدد الذين يعود الفضل في غناهم للاستثمارات الصناعية. وبدأ ينصب الاهتمام بشكل كبير نحو تطوير التقنية بتشجيع الاختراعات والبحث العلمي من طرف المؤسسات الاقتصادية التي غيرت قاعدة معارفها ووظفت البحث العلمي في مجال الأعمال لفتح إمكانيات جديدة للتجديد خاصة في ألمانيا وأمريكا. وهكذا تطورت المؤسسات الصناعية بشكل سريع مكونة نخبا جديدة سيشكلون إلى جانب وسطاء المواد الفلاحية والأولية الذين كونوا ثروات هائلة نسبة كبيرة من أغنياء العالم في القرن 20، كما ستتشكل في هذه المرحلة مجموعات من المعارضين للرأسماليين الكبار،هدفها إعطاء دور نشيط في الحياة السياسية لجميع الفئات.
وهكذا ساهمت الأزمة الفلاحية في التسريع الكبير لطبيعة القوة والسلطة التجارية مابين 1870و1914. فالنشاط التجاري والاكتشافات الصناعية وحالة الأمن والسلم كلها عوامل أسهمت في ظهور مراكز قوى جديدة أهمها ألمانيا التي أصبحت سياستها الخارجية في عهد القيصر كيوم الثاني أكثر طموحا ورغبة في تعويض الامبرياليات الانكلوساكسونية المتوحشة والولايات المتحدة الأمريكية التي خرجت من سياسة الانغلاق وبدأت التدخل في الأحداث الدولية بعد انتصارها في الحرب الأمريكية الاسبانية.
أما في آسيا فقد حافظ الملاكون الهنود الكبار على مصالحهم بإنشاء شركات نسيج كبرى وقفت في وجه الهيمنة البريطانية. ويبقى صعود اليابان وانتصاراتها العسكرية المتوالية ودخولها في طابور القوى الاستعمارية من أهم العوامل التي هزت النظام القديم وخلفت أثرا سيكولوجيا على الغربيين الذين بدؤوا يدركون أن هيمنتهم ليست أبدية، كما أن النصر الياباني فتح الأمل أمام الدول المستعمرة بأن هناك إمكانية للحاق بأوروبا.
تزامنت الأزمة الفلاحية وما تبعها من تطورات مع طفرة هائلة على المستوى الثقافي، أسهمت فيها ثورة الاتصالات خاصة بعد اختراع التلغراف، حيث أصبح بإمكان الدول والمجموعات ذات المصلحة والثوريين التنسيق على المستوى الدولي. كما تطورت الصحافة وظهرت المنشورات الجماهيرية المتلاعبة بأفكار العوام وترسخ الإحساس بالتغيير والأزمات وأصبح الخطاب الطاغي على الاهتمام الدولي مابين 1900-1910 يتحدث عن صراع الأجناس والثورات المحلية. فعرفت المشاعر القومية التي بدأت تتطور منذ 1860 أوجها خلال هذه الفترة خاصة في المناطق الأكثر تطورا اقتصاديا(بروسيا-النمسا-هنغاريا). و كذلك في المناطق ذات التعليم الكاثوليكي. غير أن المد القومي في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة اقتصر على فئات مثقفة نخبوية إلى حدود الحرب العالمية الأولى، إلا أن قمع هذه الحركات وفقدان نبلاء المستعمرات لوجاهتهم وتأثيرهم سيؤدي إلى ظهور حركات احتجاجية أخذت أشكالا عنيفة. و كانت الثورتان التركية 1908 و الصينية 1911 من بين أهم الأحداث خلال هذه المرحلة حيث شكلتا ردة فعل لتأثير السياسية الاقتصادية الأوروبية في العالم. كما كانت لهما رمزية كبيرة حيث أن خلافة الحكم الجمهوري لأثنين من أعرق الأسر الملكية في العالم كان بالنسبة للملاحظين من الداخل والخارج انتصارا للحداثة و تبين أن المسلمين بإمكانهم التصرف كحداثيين.
لقد كان للتغيرات التي عرفها العالم منذ1870إلىى قيام الحرب العالمية الأولى أثرا كبيرا على المستوى الاجتماعي حيث تراجع دور الليبراليين الذين كانوا يسيرون أغلب الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية لصالح المحافظين الحضريين والشعبيين واليسار الراديكالي.ونشطت الحركة النقابية كما ظهرت حركات تقدمية اجتماعية تسعى إلى فرض معايير الحماية الاجتماعية ووضع حدود لتصرفات الشركات الكبرى.
امتد تراجع الليبرالية إلى المستعمرات وإلى هوامش أوروبا التي عرفت نشاط الأحزاب المسيحية والمتطرفين المحافظين كما راجع التيار الثوري توجهاته بعد فشل الثورة الروسية لسنة1905.
وقد كان لتراجع التيار الليبرالي انعكاسات على الجانب الثقافي حيث نمت الأفكار الإثنية والدينية والقومية على حساب الأفكار اليسارية. وتنمى الوعي بين الشعوب غير الأوروبية باستغلالهم من طرف النظام الاقتصادي الدولي وبرز مثقفون منددون بالليبرالية داخل أوروبا(زولا-فاكنر- تولتسوي...) وخارجها(تاغور-اوبيندو غوش- محمد عبده...).
بعد هذا التحليل على مستوى كوني للتحولات التاريخية التي سبقت الحرب العالمية الاولى، خلد بايلي إلى استنتاج يرى فيه أن رأي الماركسيين القائل بأن الأزمات الاجتماعية تسبب في الحرب العالمية الأولى يغلب عليه الدافع الإيديولوجي أكثر من كونه واقع تاريخي، لأن هناك عدة مؤشرات تؤكد أن الوضعية الدولية كانت تميل إلى الاستقرار سنة1908 وأن المواجهة النهائية لسنة1914 لم تكن إلا نتيجة مجموعة من الحسابات الخاطئة للقوى العظمى. ومما يؤكد أنه من الخطأ أن التقدم اليساري الاشتراكي كان من مسببات الحرب هو كون التيارات القومية كانت بعيدة عن الحكم في هذه المرحلة .
وجوابا عن السؤال الذي جاء في مقدمة كتابه حول الجدوى من تحليل التحولات التاريخية على مستوى كوني، وكذلك حول الدوافع التي أدت إلى الاهتمام بكتابة تاريخ عالمي. بين الكاتب أن من فوائد كتابة تاريخ عالمي توقف الدراسات الغربية عموما والبريطانية خصوصا عن التمركز حول ذاتها من أجل استكشاف الأمور التي تم بناؤها من خلال التأثيرات الدولية و الجهوية. و محاولة المؤرخين المختصين في التاريخ غير الأوروبي إخراج التاريخ من " مخالب الأمة" كما قال "ديورا براسجيت" للتركيز على وجود روابط على مستوى الكوكب خلال المرحلة التي سبقت ولادة العالم الحديث. وإعادة كتابة التاريخ الأوروبي باستعمال أطروحات قادمة من العالم غير الأوروبي (الصين والعالم الإسلامي..).
أما بالنسبة لأهداف كتابة تاريخ عالمي يرى الكاتب أنها تساعدنا على التوضيح والتساؤل حول العلاقات والتطابقات الموجودة في تاريخ أجزاء مختلفة من العالم والاستفادة من نتائج التاريخ المقارن. كما تمكننا من الابتعاد عن التمركز حول أوروبا، وتصحيح التواريخ الجهوية والوطنية متجاوزين حسابات المؤرخين بالنسبة للعلاقات الدولية أو البعد الكوني وكذلك من رصد العلاقات المتقاطعة بين دول العالم.
لقد انخرط الكاتب ضد فكرة الخصوصية الغربية وفي نفس الوقت ضد فكرة الإهمال المطلق لهذه الخصوصية، ليصل إلى الاستنتاج التالي وهو أن أوروبا كانت في نهاية القرن 19 أكثر دينامية من باقي العالم على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وأن الفجوة الكبيرة بين أوروبا وباقي العالم لا تعود فقط إلى نتائج الثورة الصناعية واكتشاف أمريكا، ولا إلى فشل الآخرين، وإنما إلى قدرة أوروبا الكبيرة على تدمير الشعوب الأخرى. كما استنتج الكاتب أن الأحداث التي عرفها العالم مترابطة فيما بينها من حيث أصولها وأنها كانت تؤثر في بعضها البعض. وأن العولمة عند ميلاد العالم الحديث كانت ذات طبيعة متعددة الأقطاب.
من خلال الاستنتاجات السابقة تتبين لنا أهمية الاختيار المنهجي للكاتب،لأن فرضية كتلك التي طرحها لا يمكن صياغتها إلا إذا وضعنا أوروبا في السياق الذي شكله لها"الآخرون" الأمر الذي لا يمكن إظهاره إلا بإعطاء الاهتمام اللازم لأشكال النقاش العمومي حول التجارة وحول الشعور القومي الذي كان قد انتشر بشكل كبير في إفريقيا وآسيا .هذا الشعور الذي تم توظيفه لإعطاء دينامكية لتعبئة الأمم الجديدة وتوجيهها نحو الحداثة. لقد حاول الكاتب كذلك الدفاع عن الأطروحة التي ترى أنه بالإمكان كتابة تاريخ الأفكار على المستوى الكوني والتي تؤكد على تعدد أماكن إنتاج الثقافة. فأولئك الذين كان لهم ظهور فعال في ثورات 1780-1820 كانوا يعطونها معنى مختلفا حسب السياق الذي تحدده عاداتهم وفلسفاتهم المختلفة. ورغم ذلك جمعتهم خواص وروابط مشتركة، فقد استعملوا جميعا على سبيل المثال خطاب حقوق الإنسان بمصطلحات مختلفة تندرج ضمن عادات تفكير مختلفة.
حاول الكاتب بعد هذا التوضيح المنهجي الجواب عن بعض الأسئلة المرتبطة بالتاريخ متعدد الأقطاب للعلاقات المتبادلة على المستوى الدولي والتي تسعى إلى تحليل الصعود القوي لموجة التغييرات الفوضوية، من خلال التساؤل عن ماهية أصول التغييرات؟ و ماهي أسبابها العميقة ؟ و من هم الأشخاص والفئات الذين سيطروا على السلطة في القرن19؟ وما هي تداعيات ذلك على الأشخاص العاديين؟.
من أجل الجواب على هذه الأسئلة عرض الكاتب أهم النظريات التي بدأت منذ نهاية القرن18 تناقش الأصول التي قادت في نظرهم إلى بناء الطريق نحو الحداثة(هيجل-غلنر-ماركس-هوبسباون..)
وكانت الفكرة الأساسية التي دافع عنها هي أن القوى نفسها التي دفعت نحو التغيير كانت تؤثر في بعضها البعض. ولكن ذلك لم يمنع من تطور الرأسمالية ، الدولة القومية، ولا حتى الإيديولوجية العقلانية. كما انه يرى أن التصنيع لم يصبح عاملا من عوامل التغيير إلا بعد 1850،رغم أن انتشار السكك الحديدية وتطور الملاحة ساهما في خلق تقارب اقتصادي على مستوى الكوكب قبل هذا التاريخ.
بصفة عامة فإن بايلي يدحض فكرة الثورة الصناعية الأطلنطية ودورها في إحداث التغييرات ويرى أن هناك أقطاب أخرى ساهمت في هذا التحول، لأنه كما نجد الثورات الصناعية في أوروبا فإننا نجدها في آسيا(الصين، اليابان،الهند) وكذلك في إفريقيا، الأمر الذي سمح له بحصر الدور الأوروبي وجعله يحذر من موقف أنصار التقليل من قيمة الآخر والتأكيد على الخصوصية الأوروبية، كما حذر من النظرة الجد متفائلة لمخالفيهم.
ومن النقاط التي أثارها الكاتب كذلك ، كون المستثمرين من الطبقات الوسطى الذين لم ينجحوا في تأمين السلطة المطلقة، هم الذين دفعوا وساهموا في تسريع وثيرة التصنيع في نهاية القرن19. وفي حديثه عن "الدولة والمجتمع في عصر الامبريالية" رأى أن أوروبا رغم فرضها لأفكارها الليبرالية بالقوة، إلا أن تأثير الليبرالية وكذلك الاشتراكية بقي محدودا، حيث أن القرن19 عرف إحياء وانتصار وتطور الأديان، كما شهد العقلنة البيروقراطية للديانات الكبرى وتفاعلاتها التي تسبب فيها الانتشار والتوسع.
وفي تناول الكاتب لمسألة تداول السلطة يرى أن الصراع من أجل السلطة عامل أساسي من عوامل التغيير. ومن أجل ذلك اعتمد على المساهمات النقدية حول"ما بعد الاستعمار"و"ما بعد الحداثة" والدراسات حول التفاعلات الهامشية حيث يقول الكاتب عن عمله أنه" يدعم النظرية التي تقول أن كل تاريخ محلي أو وطني أو جهوي هو إلى حد كبير جزء من التاريخ العالمي" وبالتالي فإن كتابه "جاء ليبين كيف أنه من الممكن ،في إطار الأعمال حول التاريخ الوطني والإقليمي، التقريب بين التطورات التاريخية". لقد حاول الكاتب التفكير بطريقة مفاهيمية عن النخب المتحكمة في السلطة . إذ اعتبر أن النخب القديمة والمصالح الاقتصادية للنظام القديم الذي استطاع أن يحافظ على حيويته ووجوده في أوروبا، خاصة في الأوساط العسكرية التي كانت من وجهة نظر اجتماعية وفكرية وريثة له، كان له دور كبير في الأزمات والتغيرات التي عرفها العالم.
حيث أن التاريخ الدبلوماسي في القرن19 كان عبارة عن أفعال وردود أفعال ما بين الثورات والثورات المضادة، وقد فجرت هذه الصراعات حول السلطة موجة غضب لذا الطبقات المتوسطة والبرجوازيات الصغيرة والنخب المثقفة للشعوب المستعمرة والشبه المستعمرة، هذا الغضب الذي نزع الحدود المحيطة به، فاقترب العالم من الكارثة.
إضافة إلى تحليل جذور التغييرات التي حصلت بالعالم خلال القرن 19،وجد الكاتب نفسه مجبرا على إظهار كيف أن هذه التغييرات غيرت نمط الحياة والتنظيمات على المستوى العالمي ودفعت إلى اتخاذ شكل موحد للنظرة إلى الأشياء و كذلك كيف طورت المجتمعات الإنسانية نفسها من أجل الحفاظ على اختلافها ومقاومة الهيمنة خاصة الخارجية.
لقد أسهمت الدراسات الجديدة في علم الانتروبولوجيا مع بداية الثمانينات إلى جانب التاريخ في تاكيد التعدد ألهوياتي في البلدان المستعمرة والذي ترك أثره جليا في تحديث الإدارة وتحديث الدولة.
كما لعب الدين دورا مهما في معركة الحفاظ على الهوية حيث كان له خلال القرن 19 دور حاسم في بناء صيرورة مجتمعية وفي زرع مجموعة من التحولات بواسطة الإقناع عن طريق الحملات التبشيرية والمدارس الدينية. لكن بموازاة هذا ظهرت أفكار جديدة مناقضة لهذه المعتقدات إلا أنها، لم تلق أي دعم. وهكذا بنت العديد من الدول الإمبراطورية حكمها على التراتبية الدينية ، سواء كان داخليا أم خارجيا،كما ظهرت مجموعة من الدول تبني حكمها على أوصاف حساسة (الاجتماعية المسيحية- الراديكالية...).
و ظهرت العديد من الصراعات الدينية مع السلطة العلمانية في الدول التي ظهرت فيها مبادئ القومية وحاول نشطاؤها بناء دولة حديثة على أساس فصل الدين عن الدولة، لكن هذه المبادرات لم يكتب لها النجاح خاصة بألمانيا وروسيا.
ولتشجيع حركات المقاومة بالبلدان المستعمرة لجأ بعض المقاومين إلى تحريض السكان من أجل القتال انطلاقا من إيديولوجيات دينية محلية( الإسلام- البوذية- الهندوسية...)
إلى جانب الدين والقوميات ساهم الاقتصاد العالمي في تطور السيرورة الاجتماعية على مستوى أساليب الانتاج ومجتمع الفلاحين، فالتقارير المجتمعية حول بنية الحقول الزراعية تبرز تأجج الصراعات التي ستساهم في خلق التحولات الاجتماعية خاصة بأمريكا اللاتينية وآسيا ، وأمريكا، و ستدفع حاجيات المجتمع الصناعي والحضري إلى ظهور مهن ليبرالية جديدة من أجل تعزيز دور الساكنة الحضرية اقتصاديا، شكلت مع التجارة الجديدة مظهرا من مظاهر الاقتصاد المعولم، وبدأ الاهتمام بالتحول من القطاع الفلاحي إلى الصناعي. هذا التطور السريع للاقتصاد المعولم ورأس المال الدولي، فتح النقاش حول التعاريف المختلفة للدولة والتفسيرات المتناقضة لتشكل القوميات، أي أنه فتح النقاش حول الجدلية بين الدولة والأمة.
و قد أشار الكاتب إلا أن تطور الدولة القومية على المستوى العالمي خلال القرن19.وكذلك تطور اقتصاد مترابط على مستوى كوني.نتج عنه تعقيدات كبيرة لأن التوافقات التي تولدت عنها كيانات سياسية مستقلة عبر العالم، أتت برجال طامحين إلى السلطة تم الحد من قدرتهم أو معارضتها، مما أرغم أغلبهم إلى الانضمام لحركات اليسار أو للنقابات.
ورغم استشعار الانتلجانسيا في نهاية القرن19 للخطر الذي يواجه العالم وقيامهم بعدة محاولات للحد منه من خلال تأسيس منظمات دولية وعقد مؤتمرات وندوات حول الموضوع.
لم يحل ذلك دون وقوع الفاجعة، لكون العلاقات الدولية - التي كان بإمكانها منع الوقوع في جحيم منافسة مدمرة تقود إلى اندلاع الحرب-. بدت جد ضعيفة في مقاومة التوقعات الكارثية لغشت 1914. عندما بدأت المدفعية الثقيلة دويها خلال هذا الشهر الذي كان بالنسبة للعديد من الدول بداية الفقر ، التجنيد، والموت. أنتجت هذه المذبحة إيديولوجيات وحشية عززت بشكل كبير التشابهات الموجودة على مستوى العالم فيما يخص النظرة إلى الطبقات، الأجناس، والدول القومية. مما ادى إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى التي سيكون لها أثر أكثر دراماتيكية على مرحلة ما بعد الحرب تجلت في :
- الدور الكبير للعنف المنظم في ربط العلاقات بين الدول على مستوى كوني.
- الجذور متعددة الأقطاب للتغيرات التي رسمت تاريخ العالم.
- التداخل الكبير والتأثير المتبادل بين الأزمات وطرق التعامل معها.
وكخاتمة لهذه القراءة لا يمكنني إلا أن أشيد بأهمية هذا الكتاب الذي حول طبيعة الفترة التي تناولها (القرن19الممتد) من خلال تصوره العالمي للتاريخ ،الذي اعتمد في كتابته على المنهجية فوق تاريخية معتمدا على المساهمات النقدية حول "مابعد الاستعمار" أو "مابعد الحداثة" و الدراسات حول "التفاعلات الهامشية" حيث جعل مرجعيته في ذلك المقاربة العالمية لفرناند بروديل ورواد مدرسة الحوليات.
لقد جاء الكتاب للقطع مع التصور الذي يقلص القرن19 في التوسع الأوربي أو الغربي. ذلك التصور الذي تهيمن عليه "المثالية" التي تمنح التفوق للعنصر الأوربي. و جمع تصميمه بين التسلسل الزمني والموضوعي الذي يمر عبر القرن19 الممتد معتمدا قراءة متعددة النطاقات تسير من المحلية إلى العالمية ومتعددة الثقافات تركز على وجهات نظر متعددة لتسليط الضوء على الروابط والتفاعلات والتقييمات وردود الأفعال التي كانت حتى لحظة تأليف الكتاب غير واضحة .
تعتبر المقاربة فوق التاريخية التي تم اعتمادها على طول فصول الكتاب (حيث تم الرجوع دائما للقراءات المختلفة من قبل التيارت التاريخية السابقة.) من الخصائص التي تخدم بشكل كبير التعلم.لذلك يجب أن يتخذ الكتاب كمصدر من النوع الموسوعي الذي يساعد على الإحاطة بنقطة معينة من خلال الانعكاسات العميقة لكل موضوع .
هذا الطابع الموسوعي للكتاب ونظرته المجددة من خلال التاريخ العالمي ومقارباته المتميزة تجعل منه نقطة لابد منها لتأثيث فضاء البحث التاريخي والجغرافي.