مقدمة :
تعرف هذه الزاوية منذ عهد الشيخ أحمد ابن القاسم الصومعي (ت1013هـ/ 1904م) إلى اليوم باسم الصومعة، والاسم ينطق بحسب المصادر القديمة مثل دوحة الناشر[1] بالصُّومعة بضم الصاد المشددة بعدها واو فميم ساكنة وعين وهاء، وهو النطق المعروف عنها في مدينة بني ملال : الصُّمعة وينسبون إليها بقولهم : الصُّمعي. وتشير الصّومعة المذكورة إلى آثار متبقية من صومعة المسجد بحي أسردون التي تعود إلى عهد الموحدين، كما وضح المستشرقGautier [2] بالنظر إلى تشابه هندستها بهندسة صومعة الكتبيين وصومعة حسان.
تقع زاوية الصومعة بدير جبل الأطلس المتوسط، في المرتفعات الأولى المشرفة على سهول بني معدان، على مقربة من عين أسردون الشهيرة. ومن الأهمية بمكان أن نثير الانتباه إلى أهمية هذا الموقع الذي كان له أثره الفعال في تقوية النفوذ الروحي والاجتماعي لهذه الزاوية؛ فموقع الدير كما هو معلوم يتوفر على إمكانيات طبيعية مهمة، تتجلى في كثرة العيون والمجاري المائية والأراضي ذات التربة الغنية، ثم الغطاء النباتي الكثيف. كما أنه ذو أبعاد إستراتيجية واجتماعية؛ فمنطقة الدير تمثل نقطة اتصال بين سكان الجبال الأمازيغ وسكان السهول العرب، وبالتالي فهي مجال لاتصال وتفاعل نمطين اقتصاديين مختلفين : نمط سهلي ونمط جبلي. ومن هنا تكتسي هذه الزاوية وباقي زوايا الدير المجاورة لها، أهميتها على المستوى الاجتماعي، وخصوصا في تهدئة الأوضاع، وإقامة نوع من التوازن الاجتماعي بين الرحل والمستقرين[3].
كما أن قربها من بني ملال أهم مركز تجاري بين مراكش وفاس أعطى للزاوية موقعا متميزا عن باقي زوايا تادلا الأخرى، بالإضافة إلى سهولة الوصول إليها بخلاف الزوايا الأخرى التي تأسس معظمها داخل الجبال مثل زاوية أكرض، وفشتالة، وتامدجت، وزاوية الدلاء، باستثناء زاوية الشرقاويين التي تأسست في السهل.
يعود تاريخ تأسيس هذه الزاوية إلى النصف الأول من القرن 10هـ/16م، إذ إن مؤسسها سعيد أمسنا والصومعي توفي في سنة940هـ/1533م[4]. إلا أن شهرتها ومكانتها بين الزوايا لم تترسخ إلا مع تلميذه وخلفه أحمد بن أبي القاسم الصومعي، ويرتبط ذلك بعدة أسباب نذكر منها : تأليف الشيخ للعديد من المؤلفات واتساع شهرته بسبب ذلك. فأصبحت الزاوية قِبلة للأنظار يؤمها عامَة الناس من أجل التلمذة والتلقين، ويقصدها المتصوفة للاستزادة من المدد الصوفي، ومن جهة أخرى كان الصومعي يسعى إلى الهيمنة الروحية على المنطقة بالعلم والتصوف والدعوة إلى التعلم وآعتماد العقل منطلقا للتحليل الصوفي. فكان بذلك داعيا إصلاحيا، ولم تكن دعوته بالكلام أو القلم فقط، بل تجسد ذلك في مواقف حيّة من حياته.
بعد الصومعي لا نجد إسما واضحا من أسرة آل أمسنا والصومعيين، سوى عبد الرحمان بن إسماعيل (ت بعد 1090هـ)، وهو مؤلف كتاب التشوف في رجال السادات أهل التصوف أو ما يعرف بالتشوف الصغير[5]. بعد ذلك ظهر سيدي محمد بن عبد الرحمان الصومعي (ت1123هـ/1711م) ظهورا كبيرا. وكان قد قضى وقتا طويلا من حياته بالزاوية الدلائية، حيث كان يدرس إلى جانب أحمد الولالي-صاحب مباحث الأنوار- وسيدي محمد العكاري وعلي العكاري على يد الشيخ الحسن اليوسي. ثم ذهب إلى مراكش حيث التقى بشيخه محمد بن عبد الله السوسي، وفي مدينة فاس صحب الشيخين أحمد اليمني وأحمد بن عبد الله معن[6]. ثم عاد إلى مسقط رأسه ليشتغل بنشر العلم وتعليمه. وبذلك أعطى بشخصيته استمرارا لشهرة زاوية الصومعة على المستوى المحلي والوطني. وبعده لم تنجب الزاوية إلى اليوم شخصية يمكنها أن تحتل المكانة المرموقة التي احتلها الجد أحمد الصومعي أو أحد أحفاده، أمثال عبد الرحمان بن إسماعيل أو محمد بن إسماعيل، أو محمد بن عبد الرحمان.
أما عن طريقة هذه الزاوية، فهي جزولية-تباعية، فقد ورد في كل من ممتع الأسماع ودوحة الناشر، والبدور الضاوية، أن سعيد أمسنا وأخذ مباشرة عن الشيخ عبد العزيز التباع أشهر تلامذة الشيخ الجزولي[7]. وتبنى بعض شيوخها خلال القرن 11هـ/17م الطريقة الناصرية التي عرفت آنذاك انتشارا منقطع النظير بتادلا[8]، ونذكر منهم الشيخ محمد بن عبد الرحمان الصومعي، أخذها عن الشيخ إبراهيم التاملي المراكشي والحسن اليوسي[9].
هذه، إذن، لمحة موجزة للتعريف بهذه الزاوية، وقد ارتأينا تقديمها كنموذج على النشاط العلمي والتعليمي بزوايا تادلا وهي الأقل شهرة بينهن مثل الزاوية الشرقاوية أو الزاوية الدلائية، لاعتبار وحيد وأساسي وهو أن أدوارها الصوفية والعلمية كانت هي الباعث الوحيد على شهرتها.
ولعل أبرز المؤهلات التي شجعت على إنعاش الحركة العلمية بهذه الزاوية، نذكر :
1-استقرار الأوضاع العامة داخل الزاوية.
2- استفادتها من علاقتها الجيدة بالمخزن، فقد وقفنا على رسائل وظهائر مخزنية عديدة لدى أبناء هذه الزاوية تؤكد ذلك[10]. بعضها يَنُصّ على إعفاء أبناء هذه الزاوية من الكلف المخزنية، وينص بعضها الآخر على منحهم هبات أو إنعامات...كالسماح لهم بالتصرف في زكوات وأعشار خدام الزاوية، أو إقطاع بعض الأراضي. ويرتبط هذا بشكل أساسي بسياسة "المصانعة" أو "المماراة" التي نهجها المخزن مع زوايا دير تادلا قصد استغلال نفوذها الروحي والاجتماعي، من أجل ضبط تحركات قبائل الجبل نحو السهول، أو من أجل الضغط على القبائل وإرغامها على طاعة المخزن[11].
3-استفادتها من لجوء عدد كبير من العلماء الذين وفدوا إليها من الزاوية الدلائية بعد تخريبها وتغريب علمائها. قدم لنا صاحب البدور الضاوية صورة عن فرار عالم من هؤلاء إلى الزاوية الصومعية، يدعى أحمد بن عبد القادر الحسني، حيث جاء على لسانه: «كنت ممن لفظته يد الاكتئاب ورمت به قوس المحن والاغتراب، خرجت حينئذ منها (الزاوية الدلائية) لما شاهدت من تغيير الأحوال وكثرة الأحزان والأهوال (...) فلما وصلت الصومعة ولقيت الصالح سيدي عبد الرحمان بن إسماعيل وسألني عن خبر الزاوية المذكورة لم أملك عيني من البكاء»[12].كما جاء ضمن تراجم مباحث الأنوار، اسم شيخ يدعى محمد بن مسعود المراكشي قدم من مراكش إلى الزاوية الدلائية ومكث بها طويلا، وبعد تهديمها ظل يتنقل بين زوايا المنطقة إلى أن وافته المنية ودفن بالصومعة[13]. ولا شك أن الزاوية الصومعية ستستفيد من كفاءة مثل هؤلاء العلماء الذين فروا إليها في إغناء مجالسها العلمية.
4-العنصر الرابع، وهو عنصر مهم جدا، ويتمثل في نمط التربية والسلوك الصوفي لشيوخ الزاوية الصومعية، حيث يمكن تصنيفهم ضمن من يصطلح عليهم بأهل "التصوف الظاهر"[14]. والمقصود بهذا التيار الصوفي كما يُستقى من اسمه، ذاك التيار الذي تميز أهله بالوقوف عند حدود ظاهر الشرع أقوالا وأفعالا وأحوالا، ويستحضرون في تربيتهم الصوفية الخوف من الحساب والعقاب يوم البعث. وهو ما جعل سليمان الحوات أشهر كتاب سير الصالحين يسميهم بـ"أهل التربية بالجلال" لأنهم يستحضرون في تربيتهم جلال الله وعظمته مع الخوف والرهبة، ومن ثمة فقد أعطوا الأولوية لتعاليم الشريعة على المعرفة الصوفية، وحظي التعليم عندهم بمنزلة عالية تماثل مجاهدة النفس. على نقيض ما يصطلح عليهم بأهل" التصوف الباطن" أو أهل "التربية بالجمال"، الذين قللوا من شأن علوم الظاهر-العلوم الشرعية- في الوصول إلى الحقيقة الصوفية، انسجاما مع منحى هذا التيار الصوفي القائم على الغلو في محبة الله وعدم الاهتمام بما دون ذلك من المخلوقات، وهذا ما يعني عندهم بالفصل بين الشريعة والحقيقة، وتغليب الحقيقة على الشريعة، بل لقد بلغ الحد ببعض الشيوخ أحيانا درجة إهمال علوم الظاهر إهمالا مطلقا[15].
وهكذا فإن جلّ نصوص المناقب التي تناولت شيوخ زاوية الصومعة بالترجمة، تكاد تتفق على غلوهم في إتباع طريقة السنة وأسلوبهم المتشدّد في السلوك والتربية الصوفية، مع تضلعهم الواسع في علمي الشريعة والحقيقة، وإيلائهم عملية التعليم عناية خاصة.
فقد وصف محمد المهدي الفاسي سعيد أمسناو : مؤسس هذه الزاوية وقدوة شيوخها بأنه: «كان فاضلا زاهدا(...) وكان أتباعه غاية في أتباع السنة.كما أن أتباع سيدي محمد بن عيسى الفهدي المكناسي آية في المحبّة، حتى قيل المحبة عيساوية والسنة مسناوية، وكان كثير الأتباع منهم نحو الثمانمائة أو عشر مائة. متجردين يأكلون من طعام زاويته، وكانوا إذا مشوا عرضوا عليه ما كان منهم بالنهار، من قول أو فعل أو نية (...) وإن وجد عند أحدهم ما لا يصلح عاقبه بالقول، أو بالضرب بعصا كانت بيده أو بغير ذلك مما يراه رادعا وكفارة»[16]. تلقن عنه تلميذه أحمد بن أبي القاسم نفس النهج الصوفي، أورد عنه اليفرني أنه «كان من مشاهير الأولياء وأحد المشمرين للعبادة، وأنه كان يصوم الدهر ويفطر كل يوم على ثمرة حتى كان يسمع لمفاصله كصوت السطل المنقور»[17].
إن تبني الشيخ الصومعي لهذا السلوك الزاهد والمعتمد على المجاهدة الجسدية للوصول إلى معرفة الله، يتماشى مع منطلقه العام في السلوك الصوفي الذي ينبني أساسا على مبدأ الخوف من عقاب الله وشدة عذابه-كما سبقت الإشارة- وعدم الاغترار بحسن الحال مع الله. كان يقول ويكرر : «لا ترى عارفا محققا إلا غريبا، لا يساكن كائنا ما كان (...) حتى أنه لو كانت الجنة بيده، والأمور موقوفة عليه لخشي أن يكون ممكورا به، وأن ذلك اختبار من سيده هل يلتفت إلى غيره»[18].
ما يثير الانتباه -وعلى سبيل المقارنة- أن الشيخ الصومعي كان على النقيض في منطلقه الصوفي هذا، من مجاوره ومعاصره الشيخ أبي عبيد الشرقي شيخ زاوية أبي الجعد .الذي ينبني مسلكه الصوفي العام على إيمانه بقوة الرجاء والاستغراق في صفة الرحمانية لمن يتهاون عن أوامر الله. فبينما يقول الصومعي : "إن الله شديد العقاب"، يقول الشرقاوي؛ "إن الله غفور رحيم". وبينما يتزيى الصومعي بلباس الزهد والفقر، كان لباس الشرقاوي لباسا ملوكيا، إذ من جملة ما أنكره عليه معاصروه لباسه الملوكي البعيد عن لباس الأولياء، كما أشارت إلى ذلك مناقب الشرقاويين. وفي الوقت الذي يستسلم فيه الشرقاوي للأحوال الصوفية ويخضع لشطحات اللسان. أي ما ينطلق على ألسنة المتصوفة في حال الغيبة-ويصرح ببعض الدعاوي من قبيل أنه من أقطاب وقته. كان الصومعي يدعو إلى إخفاء الأسرار، إذ لم يثبت عنه أنه ادعى القطبانية أو غيرَها[19].
وعلى عكس طريقة الشرقاوي التي تميزت بطغيان"علم الأذواق" على "علم الأوراق" في التربية الصوفية، فإن الشيخ الصومعي اشتهر باعتنائه بهما معا على حد سواء، وبإعطائه التعليم والتعلم مكانة متميزة، إذ أنزل عملية التعليم منزلة أفضل من السياحة والتجرد الصوفيين. نستشف ذلك من خلال حكاية طريفة يرويها الصومعي نفسه، قال : «كنت أولا أعلم الصبيان والطلبة الغرباء الواردين وأهل المنزل، فقالت لي النفس إن أردت الوصول إلى مقامات الأولياء فتجرد عن هذا وآلزم السواحل. فعزمت على ذلك وبعثت لزوجتي عدلين بطلاقها (...) فلما كان اليوم الذي عزمت على الخروج، أصابني كسل في بدني، فنمت فرأيت شخصين أسودين عظيمين وأنا كأني في وسط منار مع رجلين، فرفع الأسودان الرجلين ورمياهما، ثم أراد رميي أيضا، فجاء رجل ضخم البطن مثلهم فجعلني بين رجليه، وقال لهما دعاه فأنا جعلته هنا. فقال الذي أنقذني منهما : الرجلان هما أبو يعزى والشيخ عبد الله الكوشي وأنا عبد الله الغزواني، وأرادا إخراجك من تعليم الصبيان وأنت إجلس في موضعك. فقمت من نومي وقد غسلت عني تلك الخواطر»[20]. ولا غرابة في اتخاذه هذا القرار، فقد عرف الصومعي بتضَلُعه الواسع في علوم الظاهر والباطن، بل والتصنيف فيهما، وبشغفه بالتدريس كما سنرى.
بشكل مجمل، لقد ساهم هذا التوجه الصوفي لشيوخ الزاوية الصومعية بشكل واضح في التشديد على أهمية العلم والتعلم، شعارهم دائما المقولة الصوفية : "من تصوف ولم يتفقه فقد تفسق، ومن تصوف وتفقه فقد تحقق". إذن، كيف سيترجمون ذلك إلى واقع؛ وما هو الإسهام الفعلي لهذه الزاوية على مستوى التربية والتدريس.
بالفعل، لقد مارس أغلب شيوخ الزاوية الصومعية، إلى جانب تلقين المبادئ والأوراد الصوفية نشاطا تعليميا مميزا، وعلى رأسهم الشيخ أحمد بن أبي القاسم الصومعي الذي كان يدرس بزاويته ما يقارب الثمانين إلى المائة من الصبيان والطلبة والغرباء و أهل المنزل[21]. ورغبة منه في إرضاء طلبته ومريديه، ومساعدتهم على استيعاب مفاهيم وعبارات كتب التصوف وغيرها فإنه اشتهر باختصار المؤلفات ثم اختصار المختصر، وهي عملية تدل في حد ذاتها على سعة علمه وسعة صدره كأستاذ وشيخ زاوية في آن واحد[22]. ووصف صاحب يتيمة العقود الوسطى حفيده محمد بن عبد الرحمان الصومعي بـ"فريد عصره وأعجوبة دهره في تدريس العلوم الفقهية والنحوية واللغوية"[23]. تخرج على يده علماء كبار، من جملتهم على سبيل المثال، الشيخ العالم محمد الكبير السرغيني (ت1164هـ/1751م)[24]. وفي القرن 12هـ/18م اشتهرت الزاوية الصومعية بعالمها الشيخ العافية بن عبد الرحمان الصومعي، أخذ عنه الشيخ محمد المعطي الشرقاوي الحديث والتفسير والسير[25].
إلى جانب مساهمة هؤلاء الشيوخ العلماء في التدريس داخل زاويتهم، لم يدخر الصومعيون جهدا في جلب علماء من الحواضر الكبرى مثل فاس ومراكش رغبة منهم في تقريب الشقة على طلبتها وإعفائهم من التنقل، خاصة أيام اضطراب البلاد واشتعال الفتنة.
وتسجل كتب المناقب مجهودات هذه الزاوية في توفير ظروف الاستقرار بالنسبة لطلبتها من مأوى مستقل ومطعم وملبس وغير ذلك. إذ كما هو معلوم، فإن السكنى في مدارس زوايا البوادي بشكل عام، لم يكن يتطلب غير إبداء الطالب رغبته في التعليم وملازمة دروس الشيخ الذي بيده مقاليد كل المرافق التعليمية بالزاوية، عكس مدارس الحواضر التي كانت تخضع لنظار يسيرونها وفق قوانين مقررة[26].
ولا شك أن طلبة هذه الزاوية قد استفادوا من خزانتها الضخمة التي ترددت أصداؤها في العديد من المصادر المعاصرة لها. سيما على عهد أحمد بن أبي القاسم ومحمد الإفراني حيث إن أسفارها ناهزت الألف في مختلف العلوم اللغوية والشرعية وخاصة كتب التصوف[27]. فقد عرف هذا الشيخ بشغفه الكبير بالتأليف وانتساخ الكتب واقتنائها. وقد وقفنا على رسالة وردت من إحدى الزوايا المجاورة للصومعيين تسمى زاوية فشتالة تفيد رغبة أحد أفرادها في استعارة بعض المؤلفات من الزاوية الصومعية، وهي إشارة قوية على أهمية هذه الخزانة وذيوع صيتها[28].
أما بالنسبة لمنهج التدريس داخل هذه الزاوية، فإنه لم يبتعد كثيرا عن الإطار العام الذي كان سائدا بباقي زوايا تادلا، إلا أن الزاوية الصومعية حظيت بتأطير بشري متميز، هذا دون تأثير وسطها القروي الذي فرض عليها إعطاء اهتمام خاص لبعض المواد دون أخرى، مع سيادة الطابع الديني، طبعا، لا باعتبار أن ذلك كان هو الطابع المميز للحياة الفكرية طيلة الفترة الحديثة من تاريخ المغرب، بل وأيضا بسبب هدف الزاوية العام، المتمثل في ترسيخ الثقافة الإسلامية، وبث تعاليمها في هذه المنطقة النائية عن مواطن الإشعاع التقليدية. وكذا من أجل تمكين الطلبة من قدر معين من الثقافة الإسلامية بعيدا عن البدع والانحرافات.
وهكذا، فقد ساد في هذه الزاوية مستويان من التعليم على الأقل :
- مستوى أولي : ويتم في"الحضّار" أو "المسيد المرفق بالزاوية"، يبدأ الصبيان فيه تعلم القراءة والكتابة، عن طريق الاستظهار أولا، ثم الكتابة تحت رعاية "طلبة الزاوية" في الغالب، الذين كانت الزاوية تضمن لهم المأوى والتغذية واللباس، وغيرها من متطلبات الحياة اليومية.
- مستوى متوسط أو نهائي : كانت هذه الزاوية مكانا لتعليم الكبار أيضا الذين تجاوزوا مرحلة الكتابة وحفظ القرآن عن ظهر قلب. فكانوا يقومون بحفظ "أمهات الكتب" في الفقه والحديث والتفسير والأصول، عن طريق الاستظهار والسرد في مرحلة أولى. وفي مرحلة ثانية ينتقل هؤلاء الطلبة إلى حضور شيوخ الزوايا وفقهائها الذين يعملون على تفسيرها والتعليق عليها.
واعتمد شيوخ هذه الزاوية أسلوبا بيداغوجيا يقوم أساسا على الحفظ والاختصار، ويقدم الشيخ أحمد بن أبي القاسم أبرز نموذج في أسلوب الاختصار كما سبقت الإشارة.
كما اعتمدوا في عمليتهم التربوية على أسلوب يتراوح ما بين الترغيب والترهيب. فكان بعضهم يحض تلامذته ومريديه على العلم، مع توضيح فضائله قصد تحبيبه إلى نفوسهم. فقد خصص الشيخ أحمد بن أبي القاسم بابا كاملا من مؤلفه الضخم لباب اللباب في معاملة الملك الوهاب لهذا الغرض مستشهدا بالعديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأقوال المأثورة عن السلف الصالح[29].
في حين تجاوز شيوخ آخرون هذا الأسلوب الترغيبي ونهجوا أسلوب العقاب بشكليه الجسدي والمعنوي، إذ يوثر عن الشيخ سعيد أمسنا والصومعي- مؤسس هذه الزاوية- أنه كان يعاقب طلبته المنقطعين بزاويته، إما بالقول أو بالضرب، أو بمقاطعة الكلام[30].
كما وضع الشيخ أحمد بن أبي القاسم الصومعي مجموعة من الصفات والشروط التي يجب أن تتوافر في طالب العلم[31]، وهي على أية حال، شروط تمثل مجموعة من القيم الصوفية، انعكست آثارها في منهجه التربوي. من بينها :
1- أن يكون قصد الطالب من تعلمه وجه الله تعالى، دون التفاتة لأغراض الدنيا، هذا مع غض الطرف عن مصدر العلم : اختصر ذلك في بيتي شعر، كان كثيرا ما يرددهما على طلبته :
خذ العلوم ولا تعبأ بناقلها واقصد بذلك وجه الخالق الباري
إن الرجال كأشجار لها ثمر فآجن الثمار وخلِّ العود للنــار
2- احترام الطالب لمعلمه إلى درجة الاستسلام الكلي له، وهذه بطبيعة الحال هي نوع العلاقة التي تسود بين الشيخ والمريد. فهو بنفسه يقول غير ما مرة" لا يُشِيخُ المريدُ الشيخَ حتى يفهم سورة الكهف، إشارة إلى ذهاب الاعتراض، والاختيار لأنه يصير كالميت بين يدي الغاسل". فإرادة المتعلم يجب أن تكون أمام المعلم كإرادة الميت.
3- تريث الطالب في إصداره الأحكام وتوجيه الانتقاد قبل إتمامه المعرفة في علم من العلوم، يقول : "إن الخلق أعداءٌ ما جهلوا"، ثم يضيف مستشهدا بقوله عز وجل: « وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك عظيم». فالصومعي يخاف من جهل المتعلم ويخشى أن يطغى عليه الإنكار النابع من ادعائه المعرفة قبل تمامها.
4- رابعا وأخيرا : ترك الطالب كل الشواغل مما قد يلهيه أو يبعده عن دراسته والاستمرار فيها.
وفيما يتعلق بالمواد التي كانت تدرس داخل هذه الزاوية، يمكن تصنيفها إلى قسمين : علوم دينية، وتتضمن الفقه والأصول والحديث والتفسير والتصوف وتحتل مكانة الصدارة. وعلوم لغوية، إذ كما هو معلوم، فإن اللغة وسيلة وأداة لمعرفة الأحكام الشرعية المستنبطة من القرآن والحديث.
بشكل مجمل، فإن نتائج الإسهام العلمي والتربوي لهذه الزاوية، شأنها في ذلك شأن باقي زوايا تادلا. التي نشطت خلال القرن 17م، كانت هامة ومتنوعة إن على المستوى المحلي أو على المستوى العام. يمكن إجمالها في النقط التالية :
أ.على المستوى المحلي : ساهمت هذه الزاوية في تخريج طلبة علم أو "طلبة"، كانت لهم مشاركة فعالة في تعليم وتحفيظ القرآن في قرى وبوادي تادلا، من خلال التعاقد مع جماعات هذه القرى أو ما يصطلح عليه بعملية "المشارطة".كما ساهمت أيضا في تركيز التعاليم الإسلامية ونشر اللغة العربية لدى سكان الجبال الأمازيغيين المجاورين لهذه الزاوية.
ب.على المستوى العام : فقد ساهمت الزاوية الصومعية كباقي المراكز الصوفية العلمية لتادلا مثل زاوية فشتالة، ووزعت، تانغملت، تامدجت، الدلاء في الحفاظ على مقومات الحياة العلمية والثقافية، في زمن كادت أن تكسف فيه شمس المعرفة في المراكز الحضرية التقليدية الكبرى، إذ إن ما يكاد يتفق عليه أغلب المهتمين بتاريخ الثقافة والفكر بالمغرب أن زمن الفترة الذي أعقب وفاة المنصور، وبفعل التطاحن السياسي كان عاملا سلبيا في حقل الثقافة والعلم، لولا بعض المراكز الروحية والثقافية المنتشرة أغلبها في البوادي التي حافظت على مقومات الوجود العلمي والصوفي في آن واحد. وهكذا ينعقد الإجماع من طرف هؤلاء على صحة المقولة الشهيرة رغم اختلاف صيغها وألفاظها وهي أنه "لولا ثلاثة لانقطع العلم بالمغرب في القرن الحادي عشر لكثرة الفتن التي ظهرت فيه، وهم : سيدي محمد بن ناصر في درعة، وسيدي محمد بن أبي بكر الدلائي، وسيدي عبد القادر الفاسي"[32]. حيث إن الفتنة والأزمات التي عاشتها البلاد في هذا القرن كان وقعها أشد في المدن مقارنة مع البوادي. وهكذا فإن مدينة فاس التي ظلت في طليعة المراكز الثقافية لعدة قرون، لم يجد بها أحمد بن يعقوب الولالي-صاحب مباحث الأنوار- عندما زارها في الثلث الأخير من القرن17م سوى مجموعة من العلماء تجمعهم رابطة الدم والتلقي.كما أن أفراد الأسرة الفاسية والمعنية الذين شكلوا فئة علمية جديدة بهذه المدينة، كانت إسهاماتهم الفكرية محدودة، وظلّت أهم الإسهامات الفكرية لمدينة فاس خلال هذا القرن لأجيال ما قبل الفتنة[33].
ويشير جاك بيرك في كتابهAl youssi problèmes de la culture marocaine au 17 siècle إلى أن نفس التراجع شهدته مدينة مراكش، حيث يقول إنها دخلت في طي النسيان مع أواخر العهد السعدي[34]. كما أن محمد بن عبد الله السوسي عندما حلّ في أواسط القرن 17م بهذه المدينة وجد بها جماعة من العلماء وهم من أصل قروي. مثل محمد بن سعيد المرغيثي وأحمد بن سعيد أكنسوس اللذان كانا يعقدان حلقات دراسية بمساجد المدينة، لكن دون أن يكون لهما إشعاع كبير[35].
وهذه كلها قرائن قوية تدل على أن المراكز الصوفية والعلمية بالبوادي المغربية بما في ذلك بادية تادلا ساهمت بدور لا يستهان به في تنشيط الحركة العلمية والتعليمية خلال القرن17م.
ولإعطاء فكرة عن واقع الزاوية اليوم، نشير إلى أنه سبق لنا القيام بزيارة ميدانية لهذه الزاوية قبل خمس سنوات تقريبا. ولاحظنا أنها ما زالت تحتفظ ببعض التقاليد التعليمية. غير أنها متواضعة جدا. حيث يقوم إمام مسجد ضريح أحمد بن أبي القاسم بتحفيظ القرآن الكريم لعدد قليل من الطلبة، قدم بعضهم من القبائل المجاورة، كما وقفنا على غرف إيوائهم ومرافق أخرى.
ولا نحتاج للمزيد من التدليل على أسباب هذا التراجع في النشاط العلمي لهذه الزوايا وباقي المؤسسات التعليمية التقليدية، فقد أفاضت بعض المداخلات السابقة في ذلك. وفي نظرنا، فإن الأمر يتعلق بكل بساطة بأن مجتمعنا يعيش تحولات كمية وكيفية في كل بنياته الاجتماعية والثقافية والذهنية. وهي تحولات تؤشر على سيرورة اجتماعية، لا يمكن فهمها إلا بالاستناد إلى مرجعية تاريخية، لأن هذه التحولات ليست وليدة الآن، إنما هي نتاج لمسلسل يؤرَخُ لمسار طويل ابتدأ على الأقل مع الظاهرة الكولونيالية، كما أشار إلى ذلك أحد الباحثين السوسيولوجيين[36].
الهوامش والإحالات :
[1]-محمد بن عسكر الشفشاوني، دوحة الناشر، ص95.
[2]-gautier, "medinat"-ou-dai, in : hesperiss-tanuda, vol6, 1926 p.9.
[3]-أنظر أطروحتنا "الحركة الصوفية في منطقة تادلا خلال القرنين 10 و11هـ/16 و17م. نوقشت بكلية الآداب بالرباط : سنة 2004.ص103-104.
[4]- ن.م.ص133.
[5]- عبد الرحمان بن إسماعيل الصومعي، التشوف في رجال السادات أهل التصوف، م خ،خ ع بالرباط.رقم1103د(ضمن مجموع).
[6]-أحمد بن يعقوب الولالي، مباحث الأنوار في أخبار بعض الأخيار، دراسة وتحقيق عبد العزيز بوعصاب، ص151.
[7]- أنظر أطروحتنا،"الحركة الصوفية..."، ص133.
[8]-ن.م،ص144-163.
[9]- العباس بن إبراهيم المراكشي، الإعلام، ج6، ص47.
[10]- أنظر الملحق الوثائقي الذي ذيلنا به أطروحتنا، ص ص397 -401.
[11]- أنظر أطروحتنا، ص316.
[12]- سليمان الحوات، البدور الضاوية، ج 2، ص421.
[13]- أحمد بن يعقوب الولالي، مباحث الأنوار، ص 222-223.
[14]- أنظر أطروحتنا، ص ص180-185.
[15]- ن، م، ص ص177-180.
[16]- محمد المهدي الفاسي، ممتع الأسماع، ص 69.
[17]- محمد الإفراني، صفوة من انتشر، ص29.
[18]- أحمد بن أبي القاسم الصومعي، أنوار المعارف، م خ ،خ ع بالرباط، رقم 931، و : 132- أ-
[19]- أنظر أطروحتنا، ص183.
[20]- أحمد الصومعي، كتاب المعزى في مناقب الشيخ أبي يعزى، ص114.
[21]- نفسه.
[22]- محمد بن الطيب القادري، نشر المثاني، ج1، ص:113.
[23]- محمد بن عبد الكريم العبدوني، يتيمة العقود الوسطى، م خ، خ ع بالرباط، رقم 283ك، ص177.
[24]- محمد القادري، نشر المثاني، ج3، ص211-212.
[25]- محمد بن عبد الكريم العبدوني، يتيمة العقود الوسطى، ص11.
[26]- محمد حجي، الحركة الفكرية، ج1، ص127.
[27]- أحمد المقري، روضة الآس، ص300؛ محمد الإفراني، صفوة من انتشر، ص23.
[28]- وثيقة بحوزتنا.
[29]- أحمد الصومعي، اللباب في معاملة الملك الوهاب، م خ ، خ ع بالرباط، رقم 2527ك،ص70.
[30]- محمد المهدي الفاسي، ممتع الأسماع، ص16.
[31]- أحمد الصومعي، أنوار المعارف، ص109.
[32]- أحمد الناصري، طلعة المشتري، ج1، ص15؛ محمد القادري، نشر المثاني، ج2، ص 174 – 275.
[33]- عبد العزيز بوعصاب، مقدمة مباحث الأنوار، ص117.
[34]- Al youssi problèmes de la culture marocaine au 17 siècle, paris-lahaye, 1958, p.76.
[35]- عبد العزيز بوعصاب،مقدمة مباحث الأنوار، ص117.
[36]-George Balandier : Sense et puissance, les dynamiqyues sociales, Paris, PUF 1971, P:219, 220, 225.