مع الثورة المعلوماتية أخذ أفراد مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يحسون بالانغلاق الثقافي لبلدانهم، إذ أصبحوا يتواصلون مباشرة مع الخارج. ورغم ذلك ستظل أغلبيتهم غير مدركة لخطورة الثقافة المتجذرة في عقولهم والتي رسَّخت فيهم التقليد الحاجب للواقع، حيث تسلَّلَت إلى أذهانهم منذ صغرهم، وتشبَّعوا بها قبل أن يمتلكوا القدرة على فحصها وتمحيصها... لذلك، توجد في ذهننا عوائق يجب اختراقها وممارسة القطيعة معها للانفتاح على ثقافة العصر القائمة على العقل، ما يفرض علينا مراجعة فكرية جذرية لنتمكن من الانخراط في ثقافة الاختلاف والأخذ بأسباب العقل والتطور...
ومن المؤسف أننا نلاحظ اليوم أن أغلبية عقولنا تخضع لاحتلال أخطبوط الثقافة التقليدية، حيثُ تنظر لمن يختلف معها بعداء كبير يبلغ أحيانا حدَّ الاعتداء الجسدي.
الثقافات عبارة عن كيانات متمايزة ومتنافرة، لكن الثقافة الغربية تتميز عن غيرها بالتقدم والإنجاز... والمجتمعات التي انفتحت على الغرب، كاليابان والصين وغيرها، كلُّها تقدمت إلى أن صارت اليومَ تنافسه... فلو اكتفت البلدان الأسيوية بثقافاتها المحلية لبقيت غارقة في التخلف.
نحنُ نستفيد من منجزات الغرب التي لم نبدعها، لكننا لا نسعى لفهم ثقافته التي هي أساس نهضته، وبالتالي سنظل عاجزين عن فهم إنجازاته وكيفية تحقيقها.
وفي ارتباط بذلك، أغرب ما ألاحظه هو نظرة أغلبيتنا للغرب باعتباره فاقدا للأخلاق، وذلك بسبب خطإ تصورنا للأخلاق، وحصرها في دائرة علاقة الرجل بالمرأة، إذ يتوهَّمُ أغلبنا أن المجتمعات الغربية تعيشُ في حرية جنسية مطلقة. وهذه رؤية مبتورة للأخلاق، لأن الأخلاق هي الأمانة والصدق والإخلاص والعمل والإنجاز واحترام الآخر. إنها إجمالا الديمقراطية وحقوق الإنسان... ولو كان مواطنو الغرب غير متخلقين لما تقدموا، ما يعني أن الغرب متفوُّق علينا بفضل قيمه.
تختزل أغلبيتنا الساحقة الأخلاق في العلاقة بين الجنسين دون إدراك أن مفهوم الأخلاق أشمل وأوسع، حيث لا تهتم هذه الأغلبية بحقوق الإنسان عندنا، ولا تُسائل نفسها عن قيامها بترسيخ دونية المرأة وتعنيفها حتى أن أحدهم انقض على زوجته وأشبعها لكما ورفسا، وأرغمها على أكل فضلاته...!!
نحنُ لا نعير أي اهتمام للتربية على القيم، ولا ندرك أنها تُبْنَى ببناء الفرد لمعرفته، وتشكيل ذاته وقيمه بشكل عقلاني يجعله يتصرف على أساسها تلقائيا.
مفهوم الأخلاق في بلدان منطقتنا جدُّ مُختزَل، إذ تتصرف أغلبيتنا كالمرء الذي يفتقر لأية قيَّم جمالية، ثم يدخل إلى فضاء جميل وساحر، فتحجب عنه ثقافته جماله، فلا يبصر حوله سوى أشياء لا قيمة لها.
نتناسى أن الإنسان في الغرب شفاف لا يمارس النفاق، ولا يخشى قناعته، فيظهرُ مَا يُبطنُ، على عكس الكائن البشري في مجتمعنا المنغلق الذي يمارس النفاق فيُخفي ما يُبطن، ويزيّف الواقع...
ثم إنَّ المواطن في الغرب يهرع فورا إلى التضامن مع المجتمعات التي تصاب بكوارث طبيعية، فيقدم أضعاف ما نقوم به، رغم أننا ندَّعي بأننا "خيِّرين بالفطرة". نحن نتوهَّم أننا مكتملون، وأن الأخلاق تولد معنا وأننا نعيش بها، وهذا غلو في المكابَرَة، لأنَّ الإنسان مشروعٌ يُنجز وليس منتجا جاهزا.
نحن نرفض الاعتراف بتخلفنا، وهذا يعوق خلاصنا منه، لأن من يرفض الاعتراف بجموده سيلازم حاله، كما أننا ضحايا ثقافتنا التقليدية التي لا يُمكننا تطوير أيّ مشروع بدون ممارسة القطيعة معها. فالثقافة التي أوجدت الاستبداد لازالت قائمة حتى في البلدان التي تخلصت من زعاماتها، بل استفحلت أوضاع بعضها.
للخروج من تخلفنا ينبغي أن نستفيد من مختلف التجارب الغربية، لأنَّ البلدان التي قامت بذلك كلها تقدمت، فنبحث، مثلا، في سبب تطور ماليزيا وتركيا وغيرهما، وتخلصِ سنغفورة من براثن التخلف في وقت قياسي... كما يجب علينا دراسة التاريخ الأوروبي لمعرفة مسيرة حياة العقل في المجتمع الأوروبي إلى أن فرض نفسه على العالم....
لقد أصبحت عوامل الازدهار معروفة لمن يريد الأخذ بها، لكن ما يُعوز مجتمعاتنا هو القدرة على الأخذ بأسبابها. إن ما نجهله هو وجوب الاستثمار في العقل باعتباره الثروة الحقيقية.
لقد سافر طلابنا للدراسة في الجامعات الغربية، لكن تأكد أن أغلبهم راكموا معلومات يطبقونها بشكل آلي دون إدراك الثقافة والعقل اللذين تنهض عليهما، ما حال دون الفهم العميق لمفاهيم حقولهم المعرفية والقدرة على إنتاج معرفة بها ومعرفة حدودها وتجاوزها، مما يفسر عجز مجتمعاتنا عن الإسهام في تطوير الحضارة الإنسانية...
تعتقد المجتمعات المنغلقة أن البلدان المتطورة ماديا فقيرة روحيا. وأظنُّ أن هذا الاعتقاد مغلوط وأصحابه لا يفهمون أن النهضة الغربية قامت على نهضة روحية وعقلية، وأن الغرب يعرف دياناته أكثر بكثير مما نعرف ديننا، وأنه يبدع سنويا آلاف المنتجات الروحية في مختلف المجالات والحقول، على عكس بلدان منطقتنا التي لا يتجاوز إنتاجها بضعة أعمال في السنة. وهذا ما يفسر نهضة الغرب، حيث لا تقدم مادي بدون نهضة فكرية وروحية...
وبالجملة، فمعضلتنا ثقافية أساسا. وبدون حلِّها، سيظل الكائن البشري في منطقتنا ضد ذاته وضد الآخر والطبيعة والوطن.