فمن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية ترانا
القطامي التغلبي (يفاخر ببداوته، ويهزأ بالحضارة)
المعلوم عن العرب أنّهم سريعو الغضب، وأنّهم على درجة عالية في فن اختلاق المشاكل التي قد تعرّض بلدانهم للخطر. وذلك لضحالة دور مؤسساتهم المدنيّة ولغياب رؤاهم الإستراتيجيّة، ولتفرّد حكّامهم بالسلطة بما يماهي ويعيد إلى الاذهان السلطة المطلقة لزعيم القبيلة في العرف البدوي. وقد حدث ذلك عندما غزا صدام حسين الكويت سنة 1990 بعد سنتين فقط من انتهاء الحرب العراقية الإيرانيىة التي أنهكت العراق ماديا وبشريّا بشكل كبير لا تزال آثاره ماثلة إلى اليوم في المجتمع العراقي العظيم الذي فقد وزنه العربي والإقليمي والدولي جرّاء مغامرات حكّامه وبداوة تفكيرهم وسذاجته رغم وطنيتهم المشهود لهم بها وذودهم عن قضايا العروبة. وهو يحدث اليوم في الحالة السورية التي يعتمد حكّامها على طائفتهم العلوية كشكل من أشكال إحياء العصبيّات القبليّة المتاصّلة في البادية. وهو ما يلحّ علينا بالسؤال التالي : هل العرب تخطّوا فعلا مرحلة البداوة في تفكيرهم وسلوكهم اليومي!! ؟ والجواب القاطع إنّما هو بالنفي لا بالإيجاب، لأنّ العرب لا يزالون يتصرّفون وفق منطق القبيلة و أعرافها البدويّة المتخلّفة، لا وفق منطق الدولة ومؤسسّساتها العصريّة.
أقول هذا، بمنأى عن المزايدات العروبيّة والقومجيّة ذات الشعارات الرنّانة الجوفاء، و بعيدا عن ترويج المشاعر الشعوبيّة وإشاعة اليأس من تقدّم العرب وتحضّرهم وإمكانية مساهمتهم الفاعلة في بناء مجتمع المعرفة و الحضارة الإنسانيّة. وذلك إعتبارا إلى أنّي عَرَبِيٌّ قُحٌّ حتّى النخاع و معتزّ بعروبتي، لا بل أزعم أنّي أكثر عروبة من القوميين أنفسهم. ولكنّي أختلف عنهم في قول الحقيقة عارية كما هي، وتوصيف ممارسات العرب بمثالبها و الواقع العربي بجلافته، دون تجميل ولا عنتريات أو بطولات دونكشوطية وهميّة /مزعومة. وذلك من منطلق الشعور بالمرارة والألم و الحسرة و الإستغراب ممّا أعايشه من الممارسات المتخلّفة للعرب التي لها جذورها البدويّة المتمكّنة في المخيال الاجتماعي/ اللا وعي الجمعي للعرب كتعبيرة من تعبيرات سطوة البداوة على الحضارة أو لعلّها سطوة الماضي البعيد، الثابت، الساكن والمحنّط، على الحاضر القريب، المتحرّك والحي.
تأسيسا على ما سبق، يمكن القول أنّه بالرغم من أنّ البادية كانت غالبا مهبط الأنبياء، وأنّ أهلها كما يقول ابن خلدون : «أقرب إلى الخير من أهل الحضر». وأنّهم يتوفّرون على خصال وعادات حميدة تميّزهم، ولا يختلف في شأنها إثنان، كالكرم والسخاء والوفاء والمروءة وإيواء عابر السبيل وحماية من يطلب اللجوء، فإنّ العادات السيّئة التي تطبع سلوك البدوي عموما، ولا تزال آثارها ماثلة أمامنا في طول الوطن العربي وعرضه، كثيرة وكثيرة جدّا ومنها الغلظة والفظاظة في التعامل مع الغير والتوحّش والغلوّ في الدّين ، و حبّ الغزو والنهب والسلب و كذا النظرة الدونية للمرأة وسوء معاملتها و التفاخر بالحسب والنسب وحبّ الذات وطلب الثأر، وتمجيد القتل والنزوع إلى الإقتتال . حتّى انّهم (أي البدو) إذا لم يجدوا عدوا من غيرهم قاتلوا أنفسهم كما يقول احمد امين، وهو تمام ما نراه اليوم في الائتلاف ضد الحوثيين في اليمن وفي ما يجري في سوريا والعراق و ليبيا، مع وجود الفارق بالتأكيد. اللّافت في الأمر، هو أنّ هذه المثالب التي ذكرنا، قد جعلت البادية و مجمل قيمها مثار جدل واسع عند المفكّرين، بين معجب بها كما هو حال جان جاك روسو مع بدو بلاده ومزدر لها كما هو حال عبد الرحمان إبن خلدون، لا فقط مع البدو العرب الذين يصفهم ب"أهل الوبر"، بل وأيضا مع الحضر الذين يصفهم ب"أهل المدر". ورغم أنّ البداوة، كنمط عيش وكنشاط اقتصادي، تدلّ إصطلاحا على أسلوب الحياة في البادية لا في المدينة ، وهو أسلوب عيش الرعاة الرحّل بأغنامهم وخيامهم، المتميّز بشظف العيش وكثرة التنقل والترحال، والعيش غالبا في عزلة وانكفاء على الذات وقطيعة مع الأنماط الحضارية الكبرى، ودون تواصل واحتكاك مع المجتمعات المتطوّرة. ورغم اختلاف البداوة عن البدائية التي تميّز المجتمعات التي لم تعرف
ثقافة الكتابة، ولم تسع بالتالي إلى تطوير نظمها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة فتخلّفت عن اللحاق بركب التقدّم والحضارة. رغم هذا وذاك، فإنّ الوضع المفارقي الصارخ، المبكي المضحك، تجلّى في أنّ العرب بعبقريّتهم الفذّة أو سذاجتهم اللّامحودة- لست أدري ولا متاكّد- قد جمعوا ما بين العيش في المدينة وليس البادية، وهو شئء طارئ عليهم، والحنين إلى ما هو متأصّل فيهم، وهو أسلوب عيش البدو والبدائيين الذي لا يزال حاضرا، بقوّة، في لا وعي الإنسان العربي الذي يعيش صراعا حادا بين ضرورتين، هما وجوب احترام قوانين الدولة المدنيّة والسلوك الحضاري الذي تستوجبه، ووجوب احترام قيم القبيلة، وأعرافها ومسلّماتها البدويّة التي لا تلتزم بالقانون بل هي قد تساهم في نشر الفوضى، ضرورة انّها تقوم في مجملها على ظاهر المبدأ الجاهلي: «أنصر اخاك ظالما أو مظلوما) 1) » السابق للحديث النبوي المعروف، في معنى الكفّ عن الظلم ، وهو مبدأ يؤدّي حتما إلى الخصومات وربّما إلى القتل، و الغدر والنهب و السلب بما يثير فينا الخجل الحضاري. ممّا يجيز لنا القول، ودون مؤاربة، أنّ العرب (وليس الأعراب فقط) "بدو وبدائيين أشباه متحضّرين" أو " متحضّرين أقرب إلى البدو والبدائيين ". وهو قول، رغم انّه واقعي يصيب كبد الحقيقة ونعايشه ونرى ترجمته على أرض الواقع بأم العين، بكرة وأصيلا وطول اليوم، في المجتمعات العربية دون استثناء، ولا سيما في بلدان الخليج و دول ما يسمّى تجاوزا بالربيع العربي، فإنّه قد لا يقبل به علماء الإجتماع الذين يفصلون بين البداوة والبدائية، وبين التحضّر بما هو الإستقرار الجغرافي والحضارة بما هي بلوغ مراحل متقدّمة من التطوّر الفكري والعلمي و الفنّي تفضي بالضرورة إلى الرقي والتقدّم في مختلف مجالات الحياة. ولكن بصرف النظر عن ضوابط و معايير علم لإجتماع ، فإنّي ساعرض في هذه الورقة، إلى نماذج من ممارساتنا اليومية التي تؤكّد وتكرّس هذا التوصيف الموضوعي للعرب، باعتباره مدار مبحثنا وهتمامنا.
ولكن، بداية وبالعودة إلى التاريخ، فقد نستكشف الأسباب الكامنة وراء تواصل بداوة العرب التي تتمظهر في العقول المنفعلة المتأثّرة لا الفاعلة والمؤثّرة، وفي السلوك الهمجي المتوحّش والفوضوي المنفلت عن كل ضابط أو قانون. وهو ما حدا بأحد قادة الفرس، كما يذكر أحمد امين في كتابه "فجر الإسلام"، وكان يشاهد العرب في عهد عمر بن الخطّاب، كيف يصلّون وهم في حالة إصطفاف منظّم، بأن يتساءل : « ليت شعري كيف علّم عمر هؤلاء المتوحّشين النظام ! ». ولعلّ من بين أهمّ الأسباب التاريخيّة التى يعود إليها ترسّخ ظاهرة البداوة، كما يذكر المؤرّخون ومصادرهم، أنّ العرب بصنفيهم، من العرب العاربة و العرب المستعربة - بأستثناء قبائل قليلة منهم باليمن و الحجاز كانت مستقرّة و تتعاطى التجارة والحرف- عندما استوطنوا و إستقرّوا زمن الفتوحات الاسلامية في البلدان التي فتحوها كان أغلبهم من البدو/ الأعراب باعتبارهم أكبر شريحة من أهالي الجزيرة العربية. وقد أصبحوا في فترة وجيزة، لا بل وقياسية، بفعل عائدات الخراج والغنائم التي حصلوا عليها، يعيشون الغنى والحياة المرفّهة بما في ذلك من مجون ولهو: «حتّى في قلب مدينة الرسول ومرقده وفي مهبط الوحي في مكة» كما يذكر الكاتب العراقي المُجيد علاء الدين صادق الأعرجي) 2 . (وذلك بعد حياة الضنك والفقر والمجاعة التي كانوا عليها ممّا قد يضطرّهم أحيانا في مواسم القحط والجفاف إلى أكل الميّتة والوبر وما شابه، ممّا لا يأكله الإنسان عادة، بل تأكله الوحوش والمتوحّشون فقط . بما يعني انهم انتقلوا من البوادي إلى المدن ومن الفقر المجدب إلى الثّراء الفاحش – بطريقة رياضة القفز- دفعة واحدة ودون المرور بالمراحل الضرورية لذلك، وأهمّها مرحلة الزراعة التي تعني الإستقرار والتخلّص شيئا فشيئا من وطأة التمسّك بالتقاليد البدوية ، ممّا يساعد على بناء الشخصيّة المهيّأة نفسيّا لمسايرة السلوك الحضاري. وذلك قبل بلوغ مرحلة الصناعة والتقدّم العلمي والتكنولوجي التي هي أسّ الحضارة. ولعلّ هذه المقاربة لا تبعد كثيرا عمّا ذهب إليه علاء الدين صادق الأعرجي (3) وأكده الهادي شقرون في كتابه "نقد العقلية العربية". وأكّده قبل ذلك أحمد أمين في كتابه "فجر الإسلام" حين ذكر أنّه :« لمّا فتح العراق وسمع العرب بغناه ، رغبوا في الرحلة إليه». وفي هذا المعنى يقول أحمد أمين في موضع آخر من ذات الكتاب :« ونال المسلمون من الغنى في المال والرقيق وزخرف الحياة ما لا عهد لهم به من قبل. وكانت هذه الممالك غنية، وكانت ممدّنة كأرقى ما تكون المدنيّة في ذلك العصر... ». وممّا يذكره الطبري في هذا السياق أنّ عمر بن الخطاب سال مبعوث أحد عماله في العراق : « كيف المسلمون؟ فقال :إنثالت عليهم الدنيا، فهم يهيلون الذهب والفضّة... ».
واللّافت في الأمر، انّ الإسلام سعى لمعالجة الكثير من العادات والأعراف البدوية السيّئة كحبّ الذات و التناحر بين القبائل العربيّة، والثأر والإقتتال والعصبيّة القبليّة وإهانة المرأة، فتصدّى لمقاومتها وابطال العمل بها، إلّا أنّها إستمرّت رغم ذلك قائمة في صميم أعماق الإنسان العربي، لأنّ الأنا الأعلى الجاهلية كما المخيال الإجتماعي العربي و الإسلامي كانا ولا يزالان إلى اليوم أقوى من أن تمحيهما التعاليم الدينيّة و فرائض و نواهي الدين. وهو ما جعل هذه العادات حاضرة، لا بل ولها سطوتها أيضا. ذلك أنّها مستقرّة في نفوس العرب وتطفو على السطح بشكل حاد بين الفينة والأخرى، من خلال مظاهر التعاطي مع الموروث الجاهلي و تفعيل القيم القبليّة ذات الأصول البدويّة كالأخذ بالثار من أهل القاتل، الذي يناقض ما جاء في الآية الكريمة من أنّه «لا تزر وازرة وزر اخرى»، والتي لا تزال القبائل العربيّة تمارسها، في تجاوز صارخ لا لضوابط الدين فحسب بل وكذلك لمبادئ المواطنة و العيش المشترك في الدولة المدنيّة وللقانون. وذلك باتباع قانون الغاب أو بالأحرى قانون البداوة كبديل عنه. وفي هذا المضمار نستحضر جميعا قول الشاعر العربي المسيحي امرؤ القيس الذي
أطرده أبوه لأسرافهِ في شرب الخمر ولما أتاه خبر مقتل أبيه وهو يشرب، واصل الشرب بنهم وعندما صحا بعد ذلك، أقسم ان يمتنع عن شرب الخمر لحين أن يثأر لأبيه، وقال قولته الشهيرة :
«ضيعني صغيراً وحمـَّلني دمه كبيراً، لأصحو اليوم ولا أسكر غداً، اليوم خمرٌ وغدا ً أمرُ»
ليس هذا وحسب، بل إنّ العصبيّة القبليّة مستفحلة وتسود إلى اليوم، لا فقط في الأوساط البدويّة والمجتمعات العربيّة حديثة العهد بالغنى والتحضّر/الإستقرار، كدويلات الخليج الطفيليّة التي تستهلك ولا تنتج شيئا بحكم عقليتها المتخلّفة رغم تقدّمها العمراني السريع الحادث بفعل الطفرة النفطية/الإقتصاد الريعي ، بل وكذلك في جميع ربوع الوطن العربي دون استثناء. ممّا يعني أنّ هناك إشكاليّة في العقل العربي قد تصل حدّ الأزمة. وفي هذا المعنى فقد خصّص محمد عابد الجابري في كتابه "تكوين العقل العربي" فصلا كاملا لما أسماه « الاعرابي صانع العالم العربي » بما يفيد أنّ نمط عيشنا في القرن الحادي والعشرين لا يزال يرسمه لنا البدويّون! كما أنّه يرمز بمعنى من المعاني إلى خفوت توهّج مقولات المدنيّة والتحضّر وتراجعها منهزمة أمام زحف وتغوّل قيم البداوة وسطوتها. وهو ما يعني كذلك أنّ قدرنا البائس يقف وراءه هؤلاء البدو الأقرب إلى قطّاع الطرق، الذين إشتهروا بالخروج عن القانون والشرائع. ومعلوم بالبداهة أنّ الاعراب هم بدو العرب، لذلك فإنّي لا اعتقد، كما يذهب إلى ذلك بعض النقّاد والباحثين، أنّ إبن خلدون لا يميزّ في نصوص خطابه بين العرب والأعراب وأنّه يقصد الأعراب تحديدا في قوله: « العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب.... والسبب في ذلك أنهم أمّة وحشيّة باستحكام عوائد التوحّش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقا وجبلّة» و « أنّ العرب لا يتغلّبون إلا على البسائط » كما في قوله « أنّ العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك» و« أنّ العرب أبعد النّاس عن الصنائع » بل إنّه يقصد كل العرب الذين يرى أنّهم أبعد النّاس عن الحضارة ، وأنّهم أقرب إلى البدو والرعاة و الهمج والمتوحشين ؟؟؟ ذلك أنّ الحضارة تصنع بالإنتاج المادّي ومراكمته، فيما العرب لا ينتجون ولا يصنعون شيئأ. فكيف يكون لهم إذن صلة بصنع الحضارة ومنجزاتها. وموجز القول وبيت الفرس أنّ المآخذ على البدو كثيرة وهي لا تشرّف العرب حتّى قبل الإسلام، بدليل إعتبار يوسف عليه السلام في﴿ الآية 100﴾ من السورة التي تحمل اسمه أنّ قدوم أسرته من البادية إلى مصر مع خروجه من السجن، هي من نعم الله عليه « وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بعد أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي... ».. وقد تواصل ذلك مع الإسلام حيث نقرا في القرآن ، قوله تعالى في سورة التوبة: «الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.» (الآية 97)
ما يؤلمنا ويصيبنا بالوجع إنّما هو تمظهرات هذه العادات البدويّة الكثيرة في سلوكنا اليومي الذي قد يشعر الفرد الواعي منّا إزاءها بالاشمئزاز و الإحراج في آن.
ودون توسّع، لضيق المجال، فإنّي أكتفي باشارات سريعة لممارسات تؤكّد ترسّخ البداوة، في عقولنا الباطنيّة بما يجعل سلوكنا أقرب إلى البداوة منه إلى الحضارة، بل إنّه ينتمي أحيانا إلى عقليّة عصر ما قبل الجاهليّة ، حتّى ونحن نعيش اليوم في العشريّة الثانية من القرن الواحد والعشرين. فإلقاء أعقاب السجائر على الأرض دون مبالاة بجماليّة المكان، و عدم إحترام توقيت رفع الفضلات، بما يجعل مدننا أشبه بالمصبّات الكبيرة، وعدم أحترام الأولويّات في الطوابير ومفترقات الطرقات وأماكن إشارات المرور، وما يصاحبها من تلاسن بأصوات مرتفعة، يصل حدّ الشتائم والتشابك بالأيدي والعنف أحيانا، إنّما هي سلوكيات تعكس بداوتنا المكبوتة، وتشير إلى الصراع الذي نعيشه في دواخلنا ما بين الحضارة والبداوة و ما بين قشور تقدّمنا وعمق تخلّفنا. واحتلال الأرصفة من قبل التجّار بشكل فجّ بما يضيّق على حركة المارة، هو الآخر مؤشّر على تأصّل بداوتنا. كما أنّ مظاهر الإنتصاب الفوضوي في الأسواق الشعبية وفي كل مكان حتّى في الأسواق الرسميّة احيانا، إنّما هي من مخلّفات البداوة التي لا تزال تعشّش في أدمغتنا. بل إنّ من دلائل عمق بداوتنا كذلك، إقامة أسواق بيع الأضاحي/الخرفان في أغلب نواحي المدينة العربيّة وأحيائها ، بمناسبة حلول عيد الإضحى ، وما يصاحب ذلك من إنتشار نقاط بيع الأعلاف والفحم ونحو ذلك و انبعاث روائح كريهة تزكم الأنوف تشوّه صورة المدينة و تمنحك الإحساس بالتواجد في البادية أو في قرية كبيرة ممتدّة الأطراف، تغيب فيها قيم المدنيّة والتحضّر والمواطنة. ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل يتعدّاه إلى المجال الثقافي حيث إنّي أعتقد أنّ ضخّ عرب الخليج أموالا طائلة لإقامة مهرجانات لسباق الهجن أو الهجانة، و لرقصة السيف التي تذكّر المشاهد بالإرهاب والعنف و تقدّم العرب في شكل فولكلوري متحفي محنّط يستذكر الماضي البعيد في تجاهل واهمال تام للراهن العربي، إنّما هو سلوك بدوي بامتياز. فالغرب المتحضّر، شديد الوعي بمصلحة أجياله الصاعدة، يقيم بدلا عن ذلك معارض للسيارات والطائرات والحواسيب والتقنيّات الإعلاميّة و الإتصاليّة و مختلف التكنوليجيات الحديثة ذات العلاقة، حصرا، بالحاضر والمستقبل لفائدة أجيال اليوم والغد، وليس لتمجيد الماضي الغابر والتقوقع فيه دون محاولة تجاوزه نحو ما هو أفضل، كما يفعل البدو الخليجيون الذين يهدرون ثرواتهم على حساب الأجيال القادمة بعد نضوب البترول .
بعد هذا وغيره، يحقّ لنا القول أنّ العرب، وإن سكنوا المدن، إنّما هم بدو في عقليّتهم و سلوكهم، وإن توهّموا التحضّر وادّعوا الحضارة التي يفصلها عنهم سنين ضوئيّة لا تحصى ولا تعدّ. أليس كذلك؟
--------------------------------------------------------------------
(1) جاء في كتاب "الفاخر"، للمفضل الضبي أن أوّل من قال هذه المقولة، هو جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم، عندما مَرَّ به سعد بن زيد بن مناة وهو أسير، إذ خاطبه: « يا أيُّها المرء الكريم المشْكُوم انصُر أخاك ظالـمًا أو مَظْلومًا »، ففكّ أسره
(2)و (3) أنظر كتاب " الأمة العربية الممزقة بين البداوة المتأصّلة والحضارة الزائفة".