خذوا مارادونا، ميسي، رونالدو، وكل ابطالكم ونجومكم، واتركوا لنا سقراط، تلميذه أفلاطون، نيتشه المشاغب، دريدا ودولوز.. يا لها من مفارقة! الطيور على أشكالها تقع.. نحن قلة وأنتم الأغلبية الساحقة.. اتركوا لنا معلمينا ليعلمونا ما معنى أن تكون إنسانا، ليعلمونا كيف ننتشل أنفسنا من طبيعة البشر لننغمس في ثقافة الإنسان..
بمحرد ما نشرت هذه الأسطر القليلة على المنصة الرقمية المعلومة حتى رد علي أحد الأصدقاء معلقا بما يلي:
"الحياة تتسع لكل المبدعين سواء في العلوم والتكنولوجيا والفلسفة والادب وكذلك في الرياضة والفن. من يحب الحياة يحب الابداع والنجاح بكل ألوانه وأشكاله."
راغبا في تطوير النقاش، طرحت عليه هذا السؤال:
لماذا يعطى لحركة الجسد كل هذا الاهتمام ويصرف عليها بسخاء بينما أغلب البشر السادرين في اللعب والعبث لا يستيقظون من سباتهم؟ وكيف يصحون وهم عن حركة الفكر غافلون؟ إنها العولمة، يجيب محاوري الذي أضاف قائلا:
"لاحظ معي ان اغلبية الآباء بالعالم أصبحوا يوجهون أبناءهم للشعب العلمية والتقنية، لإعدادهم لسوق الشغل، بدل توجيههم لشعب تنتج الأفكار والأدب. لقد ولى زمن السبعينيات."
ومن أجل دعم أطروحته، قال:
"لا أظن ان مصر ستنتج مستقبلا نجيب محفوظ أو المغرب سينتج عبد اللطيف اللعبي أو محمد عابد الجابري.بل حتى الأحزاب كان يسيرها متقفون وحكماء،انظر الآن.."
بخصوص الشق الأول من رده الأخير، خطرت ببالي فكرة عبرت عنها بهذه الكلمات:
هذا اختيار فاسد من أوله. لماذا؟ لأن دراسة العلوم بمعزل عن الفلسفة والأدب تحكم على كل من سار على هذا السبيل بالعقم وضيق الأفق..هذا هو النهج الذي سارت عليه الدولة المغربية في تكوين أساتذة العلوم والتقنيات حيث يتم التركيز على إمهارهم في إيصال موارد علمية للتلاميذ والطلبة دون تضمين المنهاج التكويني أو الأكاديمي مجزوءات ومصوغات خاصة بتاريخ العلوم ومقاربات الفلاسفة للممارسة العلمية عبر التاريخ..
وعندما أشار الصديق المشارك في هذا الحوار إلى أن المشكل ليس مطروحا فقط على المجتمعات المغاربية وحدها، بل على كل دول العالم، قلت له إن هناك فرقا كبيرا على هذا المستوى بين الغرب ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا..عندهم الحرية الأكاديمية مكفولة بالقانون وآفاق البحث العلمي مفتوحة بينما عندنا تكثر العراقيل والصعوبات أمام طلبة العلوم في ظل بيئة اجتماعية متخلفة وشح مقصود تجاه البحث العلمي المسدود الآفاق..
لحسن حظ هذا النقاش، دخل على خطه كاتب مغربي اسمه كنار على علم ليساهم بجواب عن سؤالي المنطلق بتعليق مفعم بالفطنة والدلالة، حيث قال
"سؤال مثير.. ولكن جون ستيوارت ميل أجاب بطريقة ما بأنه يفضل أن يكون سقراط تعيسا على أن يكون خنزيرا سعيدا.. على اعتبار أن ذوي القدرات العقلية الدنيا يكتفون بأقل مجهود فكري.. بينما ذوو القدرات العليا لا يكتفون ببساطة العيش. هذا يعني أن الجسد لا يطلب الفكر! بل يطلب نتائج الفكر التي تضمن راحته فحسب. وعليه إذا لم يكن هناك فكر فهو يكتفي بما لديه."
وما أكد أن السؤال إياه مثير حقا هو إقدام صديقي الكاتب على إعطاء جواب إضافي اختار له شكل تدوينة مصورة هذا نصها:
"حركة الفكر هي حركة الإنسان بينما حركة الجسد هي حركة النوع! لذلك الإنسانية هي أفق دائم، وإلا ما كان الإنسان إشكالا معقدا.."
في محاولة للإجابة عن سؤالنا كتب صديق ثالث يقول:
"ربما لأن الجسد تحول من حامل للمعرفة ومنتج لها إلى سلعة وماكينة استهلاكية في مجتمع ينزع نحو إفراغ الإنسان من محتواه ومضمونه الإنساني."
وبما أن السؤال إياه كان بالنسبة لي هاجساً حقيقيا منذ وعيت بأن الاهتمام بالتفاهات انتشر على نطاق واسع، كتبت قبل أيام تدوينة على شكل "ستوري" أقول فيها:
من الناحية الفلسفية والأنثروبولوجية، نجد أن انعدام اهتمام المتعلمين، حتى لا نقول الأميين، بالخيرات الثقافية يعمق هموم المثقفين الطامحين لانتشال أمتهم من براثين التخلف ويولد فيهم الشعور باليتم وبالتيه في صحراء موحشة. وما يضاعف هموم المثقفين العضويين أهتمام قطاع واسع من الشعب بالتفاهات التي أصبحت بفضل اليوتوب مذرة للدخل وضامنة الشهرة والنجومية للتافهات والتافهين في زمن تغول السوق الرأسمالية وتفوقها في تنميط البشر وفق نمطها الذي يغلب كفة المظهر على كفة الحقيقة. هكذا يكون الاهتمام بالتفاهات جنونا يتيح للمصابين به النوم في العسل على حساب المغفلين الذين لا يقل ون عنهم جنونا، ويحكم بالتهميش والتفقير على المفكرين المتيقظين الذين همهم استبدال أوضاع بلادهم بأحسن منها، غير أنهم جميعهم في الهم شرق..