يمنح رون. إف .سميث، الأستاذ بجامعة سنترال بفلوريدا، أهمية وضرورة ملحة لقراءة كتابه (أخلاقيات الصحافة)، بناء على أربعة أسباب:
أولها، أن يعيد الصحفي التفكير في ماهية دوره، فهو الذي يمنح مجتمعه فرصة أن يرى نفسه، ويسلط الضوء على مشكلاته.
وثانيها: أن المجتمع في الآونة الأخيرة غير راض عن الصحفي بسبب أخلاقياته.
والثالث: أن جانبا من سلوك الصحفيين يفتقر بالفعل للأخلاقيات: من تلفيق للأخبار، والاستشهاد بمصادر لا وجود لها، وتضارب مصالح.
والأخير: أن ضغط المستثمرين والمالكين لوسائل الإعلام لزيادة الأرباح، يؤدي في الغالب إلى خفض العمالة، ومن ثَم التقليل من جودة الصحافة. وبالتالي عليك كصحفي أن تزاول مهنتك في بيئة مليئة بالعراقيل.
يخصص رون الجزء الأول من كتابه لعرض الأسس والمبادئ التوجيهية لما يسمى بأخلاقيات الصحافة، فيناقش بداية بعض المفاهيم الخاطئة التي تجعل من الأخلاقيات مجرد قواعد تحدد ما يمكن فعله ومالا يمكن فعله. والاعتقاد الخاطئ بأن الانشغال بالأخلاقيات قد ينتج صحافة باهتة ومترددة، ويحُد من السعي النضالي للحقيقة. ويؤكد رون أن الأمر يتعلق بالتزامات تحافظ على مكانة الصحافة، والتي شكلت منذ إنشاء الدولة الجديدة بأمريكا جانبا مهما من الحياة الفكرية.
يعيب المؤلف على طلبة الصحافة اليوم عدم تقديرهم للدور الذي تمارسه الصحافة في الديموقراطية. فالكثير منهم لا يهتم سوى بالجانب التمثيلي للعمل، ولا تعنيه المبادئ الجوهرية للعمل الصحفي بقدر ما يهمه أن يكون شخصية تلفزيونية لامعة. وهذا أحد أسباب التراجع الحاد الذي يشهده احترام الأمريكيين للصحفي. فالجمهور، يقول رون، غير متيقن بشأن الوثوق في الإعلام الإخباري باعتباره أداته الرقابية.
ورغم الانقلاب الهائل الذي أحدثه الانترنيت في مجال الوصول إلى المعلومة ومصادر الخبر، إلا أن الصحفيين استمروا في جمع الأخبار بكيفية اعتيادية؛ والاعتياد يُولد الازدراء. فالدورة الإخبارية على مدار الساعة تُفرط في عرض الأحداث التافهة، والبث الحي للمؤتمرات واللقاءات يكشف يوما بعد يوم عن الأخطاء الجسيمة التي يرتكبها الصحفيون وهم يؤدون عملهم، من قبيل طرح أسئلة غبية، أو التصرف بطريقة همجية. أضف إلى ذلك أن الجمهور اصبح على وعي بأن الإعلام مملوك لمؤسسات أعمال ضخمة من خارج البلد، وهمها هو الربح على حساب المصلحة العامة، وبالتالي فالصحفيون الذين يرون أنفسهم باحثين مستقلين عن الحقيقة، هم في النهاية مجرد خُدام يعملون لحساب الشركات.
للعودة إلى صحافة مراعية للأخلاق، لا يجد المؤلف بُدا من استعراض أهم المقولات الفلسفية التي شكلت الدراسة المنهجية منذ 2500 سنة مع سقراط .فدراسة أفكار الفلاسفة جديرة بأن تُمدنا باستراتيجيات جديدة لمواجهة المعضلات الأخلاقية.
قدّم أرسطو نظرية عامة للكيفية التي يتعلم بها الناس السلوك الملائم، وسماها "طريقة الوسط الذهبي". وتقوم الفكرة على ضرورة إيجاد طريق وسط بين طرفي النقيض، وهي بالتالي تُسعف الصحفي الملتزم بالمعايير الأخلاقية، حين يغطي الحدث دون إلحاق ضرر معنوي بأحدهم.
أما نظرية العقد الاجتماعي لتوماس هوبز، فتعلم الصحفيين ضرورة الموازنة بين المخاطر والفوائد، وأن يتقيدوا ،في ظل الطبيعة التنافسية للإعلام الإخباري، بقواعد صارمة، تضمن وفاء للعقود الاجتماعية التي أبرموها مع الجمهور.
ويقدم جون رولس، الأستاذ بجامعة هارفارد، نسخة منقحة من العقد الاجتماعي، تقوم على ما يمسيه ب" سِتار الجهل"، ومفادها أن على الإنسان النظر أولا في المسارات المحتملة لأي إجراء قبل أن يقرر ما سيفعله. ويحدد الشركاء المعنيين الذين قد يتضررون بهذا الفعل. والصحفي باعتماده ستار الجهل يضفي قيمة أخلاقية على عمله، ويتعزز شعوره بالنزاهة.
بينما تحيل مقولات "النفعية" لجون ستيوارت مِل على أهمية النظر في عواقب الأفعال، وتحديد الصواب والخطأ بناء على مقدار النفع او الضرر الذي يحققه الفعل.
ويقدم كانط مقولة "الضرورة الحتمية" التي تقوم على أساس أن النية الحسنة هي مدار الأحكام الأخلاقية. وأن الاختبار الحقيقي للأخلاق هو استعداد الناس، ومن بينهم الصحفي طبعا، لفعل الصواب ولو على حساب مصلحتهم الشخصية.
هذه المقولات تُمكّن من إنشاء مخطط لكيفية اتخاذ القرارات الأخلاقية. ومن النماذج التي يستحضرها المؤلف في هذا الصدد: "صندوق بوتر" الذي اقترح فيه رالف بوتر، الأستاذ الجامعي بمدرسة هارفرد اللاهوتية، أربع خطوات لاتخاذ قرار أخلاقي هي:
أولا: تحديد المشكلة من خلال ما يسميه بوتر "التعريف الإيجابي"، أي التساؤل حول كون المصدر جديرا بالثقة، ويتوفر على وسيلة إثبات للواقعة، بالإضافة إلى ما سيلحقه من أثر بالشركاء المعنيين.
- ثانيا: تحديد القيم التي ينبغي أن تلعب دورا في اتخاذ القرار، وهل يتعلق الأمر بقيم مهنية أم شخصية؟
- ثالثا: فحص الموقف من وجهة نظر أخلاقية، ويتضمن استحضارا لجوهر المقولات الفلسفية السالفة، من نظر في العواقب، وتحديد النية وراء نشر الخبر، والعقد الاجتماعي القائم بين الصحفي والجمهور، وتجنب السلوك المتطرف..
رابعا: تحديد الولاءات: أي حصر الولاءات المؤثرة في اتخاذ قرار مدروس، سواء تعلق الامر بالولاء المهني، أو الولاء نحو المتضرر، أو نحو مصدر المعلومات.
في الجزء الثاني يتطرق المؤلف للعلاقة المتبادلة بين المبادئ الثلاثة التي يتوقعها الأمريكيون من الإعلام : الالتزام بالموضوعية، والسعي إلى الحقيقة، ثم تصويب الأخطاء. فمنذ سنوات الأربعينات اختلف بعض الباحثين والمهتمين بالشأن الإعلامي مع قاعدة: أن الصحفي يجب أن يهتم فقط بنقل الوقائع. وأفرز النقاش العام لجنةَ حرية الصحافة برئاسة روبرت هيتشنجز، رئيس جامعة شيكاغو الذي أعلن أن مهمة الصحافة هي (تقديم بيان صادق وشامل وذكي لأحداث اليوم، في سياق يعطيها معنى). وهكذا صار من واجب الصحفي ألا يكتفي بنقل الواقعة، بل ينقل الحقيقة حولها.
اقتضى الأمر سعيا إلى إيجاد مصادر إضافية للخبر، تتفق أو تختلف مع الرواية الرسمية. غير أن هذا الدور النشط سرعان ما كشف عن معضلة أخرى، حين أصبحت تغطية اثنين من المراسلين لنفس الحدث تنتج خبرين مختلفين.
طرِحت لاحقا مسألة الموضوعية، وكيف يجب على الصحفيين أن يُنحّوا مشاعرهم وأحكامهم المسبقة جانبا، وأن يمنحوا كل الأطراف فرصة عادلة للدفاع عن موقفهم، دون أن يعني ذلك معاملتهم بالمثل. فالموضوعية ، كما عرّفها مايكل بوجيجا هي رؤية العالم على حاله، وليس كما تريده أن يكون.
أما فيما يتعلق بالأخطاء فلا شك أنها تُلحق الضرر بثقة الناس بالإعلام. ومن أهم أسبابها عدم المعرفة الكافية بالمجتمع، والضغوط التنافسية التي تُلزم المراسلين بأن يكونوا على صواب طيلة الوقت. الأمر الذي يغذي لدى الصحفي متلازمة العصمة من الخطأ، ويقلل من اهتمامه بالتحقق من الوقائع، والحصول على خبرة متخصصة في المجالات التي تعزز ثقته بنفسه.
تحيل الموضوعية على مبدأ أساسي هو الشفافية، وضبط القواعد الأخلاقية في نقل الأخبار إلى الجمهور. وتبرز الشفافية في تجنب تلفيق الأخبار، والسرقة الأدبية، والحذر من التلاعب بالصور الفوتوغرافية، ثم ضبط الكلمات التي قد تجرح مشاعر القراء.
وفي الجزء الثالث يتناول المؤلف حيثيات وشروط نقل الخبر، وما يترتب عن بعض ضروريات العمل الصحفي من معضلات أخلاقية. فالمراسل على سبيل المثال بحاجة إلى مصادر تُمده بالمعلومات والأخبار، لكن لا يخلو الأمر من مشكلات إنسانية، حين يؤدي نشر الخبر إلى إلحاق ضرر بالمصدر نفسه، أو حين تنشأ علاقة عاطفية بين الاثنين ويترتب عنها مشكلات تؤثر على الحياة المهنية.
تطرح مسألة دفع المال مقابل الأخبار مشكلات أخلاقية، كما ينشأ عن العلاقة مع الحكومة توتر مستمر بسبب التضارب بين الحاجة للسرية الحكومية، والالتزام بالمصارحة في نظام ديموقراطي. إلا ان المؤلف ينتقد بشكل واضح هيمنة الرقابة الحكومية على القنوات التي من المفروض أنها وسيلة للحصول على المعلومة، كالسجلات العمومية، والاجتماعات العلنية. وأساليب الضغط التي تُفقد العمل الصحفي حريته ودوره في توجيه الرأي العام.
أما الجزء الرابع فيبدد المؤلف من خلاله وهمَ التعارض بين النقل الموضوعي للأخبار، والتعاطف مع القضايا و المآسي الإنسانية. ذلك أن الصورة الماثلة في أذهان الناس اليوم هي أن المراسل أو الصحفي أشبه بالطيور الجارحة البغيضة: تحوم حول الكوارث والمآسي. وأن ما يعتبره مجرد نقل للخبر هو تطفل على الفجيعة.
لا يتعارض النقل الموضوعي مع التعاطف، بل إن الصحفي حين يتعامل برهافة حس، ويتفهم الصدمة الوجدانية، قد تتشكل لديه مقدرة الكتابة عن تجارب الآخرين بأسلوب جذاب ومثير.
عليه أن يُحسن التفوه بكلام مناسب حين يُجري مقابلة مع أقارب الضحية.
وأن يُحسن القواعد المتعلقة باستخدام الأسماء وهويات المتورطين، فلا يُحدث هزة لخصوصية أحدهم، ويراعي السرية حين يكون لها عامل إيجابي في الحد من تداعيات الواقعة.
وأن يهتم بتقدير للحياة الخاصة، فيحذر الوقوع فريسة الأهواء الذاتية، أو التشهير بضحايا الاعتداءات والعنف. وهو التقدير الذي يجب أن يمزج المهنية بالطابع الإنساني لتحقيق صحافة أفضل.
في الجزء الأخير من الكتاب، يعرض المؤلف لمعضلة بالغة الأهمية، خاصة بعد تدفق رؤوس أموال ضخمة إلى عالم الصحافة والإعلام، وهي المتعلقة بتضارب المصالح. إذ يقع على عاتق الصحفي أن يتجنب كل ما من شأنه أن يخلق تضاربا مع عمله المهني، ويؤثر على استقلاليته، وقدرته على نقل الخبر بصدق؛ سواء تعلق الأمر بالتزامات، أو انتماء سياسي، أو استثمار، أو عائد مادي، أو غير ذلك.
يعرض الكتاب لعشرات من دراسات الحالة، جلها مستلهم من تجارب يومية ووقائع عايشها مراسلو الصحف والشبكات التلفزية الكبيرة والصغيرة. كما يناقش قضايا أخلاقية واقعية، مرتبطة بممارسات وسائل الإعلام داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها. ويستعرض بعض التجاوزات التي أفقدت المهنة سمعتها واحترامها، مما يستلزم وضع ضوابط أخلاقية جديدة.