كتاب من تأليف الباحث في العلاقات الدولية كرار حيدر سالم السعيدي، صدر في العام الحالي (2024) عن دار الورشة للطباعة والنشر ببغداد. انصرف هذا المؤلف إلى بسط أهم السياسات التي اتبعتها روسيا في أفق استعادة دورها الريادي في النظام الدولي، مع التطرق إلى السيناريوهات القادمة المرتبطة بتلك المكانة، وبمستقبل النظام الدولي الذي يقر العديد من المراقبين أنه يعيش مرحلة انتقالية تسير به نحو اتخاذ صبغة جديدة تخلع عنه رداء التوجه الأحادي القطبية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.
أولا: الاستراتيجية العسكرية الروسية والطموحات الجيوسياسية للكرملين
اتخذت استراتيجية روسيا الأمنية خلال ولاية بوتين الأولى (2000 - 2004) طابعا دفاعيا إزاء التهديدات المتنوعة التي كانت تحيق بها (النزعات الانفصالية في الداخل كما حدث في الحرب الشيشانية، النزعة التوسعية لحلف شمال الأطلسي... إلخ). ولكن في الفترة الرئاسية الثانية (2005 – 2009)، ما لبث أن سلكت السياسة الروسية نهجا أكثر حدة وجرأة كرد فعل على تهميش دورها ومصالحها القومية في ظل السياسات الأمريكية الأحادية المنزع (مثال العراق وكوسوفو).
أ) آسيا الوسطى والقوقاز:
تكتسي جمهوريات آسيا الوسطى (أوزبكستان، تركمانستان، كازاخستان، طاجكستان، قيرغيزستان) أهمية بالغة بالنسبة للسياسة الروسية لما تزخر به تلك الدول من موارد وثروات طبيعية كالبترول والغاز والذهب واليورانيوم، كما أنها تعتبر سوقا للصادرات العسكرية الروسية، دون إغفال توفرها على خطوط نقل الطاقة الروسية إلى الخارج، كما أنها تُعد منطقة عمق استراتيجي لروسيا لصَدِّ تَمَدُّد الناتو إلى تخوم روسيا. وينسحب ما سبق أيضا على دول القوقاز (جورجيا، أرمينيا، أذربيجان) التي لها نفس الثقل الاقتصادي والعسكري الذي تملكه جمهوريات آسيا الوسطى، فضلا عن توفرها على منافذ بحرية تعطي متنفسا لروسيا، وقد تجلى ذلك بوضوح في الغزو الروسي لجورجيا سنة 2008.
ب) أبعاد النفوذ الروسي في الشرق الأوسط:
إن الشرق الأوسط لا يقل أهمية في منظور صانع القرار بروسيا بسبب توفره على ثروات هائلة ومنافذ بحرية حيوية (كالبحر المتوسط) وأنابيب نقل الغاز الروسي، بالإضافة إلى الاعتبارات الأمنية المتمثلة في التصدي لخطر الجماعات المتطرفة التي تهدد أراضيها، وهي العوامل التي تفسر إلى حد بعيد التدخل العسكري الروسي في سوريا سنة 2015. وفي نفس السياق، تبدو روسيا حريصة على نسج علاقات متينة بقوى إقليمية متعددة داخل الشرق الأوسط، ومن أبرزها إيران ودول الخليج العربي وتركيا.
ج) الحرب الروسية – الأوكرانية:
أشار الباحث إلى أهم الأسباب التي جعلت روسيا تتخذ قرار الغزو العسكري ضد أوكرانيا في فبراير 2022، بحيث تنطوي الأخيرة على أهمية بالغة في حسابات نظام الحكم بروسيا، إذ تُعد خط الدفاع الأول في مواجهة توسع حلف الناتو، بالإضافة إلى دورها الحيوي في نشاط الأسطول الروسي بالبحر الأسود.
وفي هذا الصدد، تناوَل الكاتب السيناريوهات المستقبلية للحرب، بحيث أشار إلى أن بلوغ روسيا أهدافها من خلال المفاوضات والتسوية السياسية يبقى السيناريو الأكثر احتمالا في ظل صعوبة الحسم العسكري بصورته المطلقة. أما سيناريو الهزيمة الكاملة لروسيا يظل غير وارد بسبب امتلاكها لسلاح الردع النووي، لكن هذا لا يمنع من احتمال فقدانها لجزء كبير من موارد قوتها العسكرية والجيوسياسية بسبب حرب الاستنزاف التي تستهدفها، والعقوبات الاقتصادية القاسية المفروضة عليها من دول مجموعة السبع. وصولا إلى سيناريو الحرب الشاملة على نحو يؤدي إلى قيام حرب عالمية بين روسيا والناتو في حال انهيار الضوابط التي تعقلن سلوك الطرفين المتحاربين.
ثانيا: مستقبل روسيا كقوة دولية
إن مستقبل روسيا كقوة دولية رهين بتوظيف مصادر القوة التي بحوزتها لتصبح قطبا في النظام الدولي، وهي المكانة التي لم تصل إليها بعد بسبب محدودية اقتصادها:
أ) مؤهلات روسيا ومصادر قوتها:
يمكن تلخيص أهم مَواطن قوة روسيا التي تؤهلها للاضطلاع بأدوار أساسية في النظام الدولي كما يلي:
- الموقع الجغرافي الاستراتيجي الممتد على أوراسيا.
- القوة العسكرية من خلال تطوير ترسانة روسيا العسكرية وتكنولوجيا السلاح المستخدمة، مما يصب في اتجاه تقوية اقتصادها بفعل صادراتها الوفيرة من السلاح.
- القوة الاقتصادية: تحقيق اكتفاء طاقي داخلي واستخدام صادراتها من النفط والغاز لتحقيق عوائد اقتصادية كبيرة وكورقة ضغط سياسية ضد خصومها، الصناعات الثقيلة (الحديد، الصلب)، احتياطيات مهمة من الذهب والعملة الصعبة.
- دورها في الأمن الغذائي العالمي باعتبارها مصدرا أساسيا لمواد غذائية حيوية كالقمح.
- دورها الوازن في ملفات وقضايا دولية حساسة كالملف النووي الإيراني.
- أهمية التكتلات الاقتصادية والسياسية والأمنية في استراتيجيتها الرامية إلى استعادة مكانتها في النظام الدولي (تكتل بريكس، منظمة شنغهاي)، والعلاقات الوثيقة بين روسيا والصين التي تطورت لتعرف نوعا من الشراكة الاستراتيجية والاعتماد المتبادل في مجالات متعددة (الطاقة، الدفاع العسكري، التكنولوجيا المتقدمة).
ب) التحديات والصعوبات:
تواجه روسيا تحديات داخلية وخارجية جمة قد تعصف بطموحها لتصبح قطبا مركزيا في النظام الدولي، وفي جملتها:
- التحديات الاقتصادية والديمغرافية: ضرورة تنويع مصادر دخل الاقتصاد الروسي، وعدم الاكتفاء بالتعويل على تصدير الطاقة والسلاح في ظل عدم ثبات أسعار النفط والغاز واحتمال تراجع أهميتهما في المستقبل، ووجوب التصدي لمشكلتي الفساد والبيروقراطية التي تعيق التنمية الاقتصادية، إلى جانب التحدي الديمغرافي في ضوء توقعات بتراجع كبير في عدد السكان بالمستقبل.
- التحديات الجيوسياسية الخارجية: العلاقات المتوترة مع الغرب، والتي من بين مظاهرها الحصار الاقتصادي والسياسي المضروب على روسيا.